كسوف الشمس العظة والعبرة

إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله العظيمة، جعلهما دليلا على عظمته وقهره وقوته، وكمال علمه وحكمه ورحمته، يقول الله تعالى: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلا بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ}، فجعل الشعاع الصادر عن جرم الشمس ضياء، والضياءُ هو النور الساطع القوي الذي فيه اشتعال، وهو اسم مشتق من الضوء، وهو النور الذي يوضح الأشياء، فالضياء أقوى من الضوء، وقد سمى الله تعالى الشمس سراجًا وهاجًا، والسراجُ هو المصباح الزاهر نورُه، الذي يوقَدُ بفتيلة في الزيت، يُضيء التهابُها المعدَّلُ بمقدار بقاء مادة الزيت تغمرها، والسراج كان أقصى ما يستضاء به في الليل، وقلّ من العرب من يتخذه، وإنما كانوا يرونه في أديرة الرُهبان، أو قصور الملوك وأضرابهم، فالشمس سراج ملتهب، أنوارها ذاتية فيها، صادرة عنها إلى الأرض وإلى القمر؛ مثل أنوار السراج، تملأ البيوت والأسواق، وتبعث في الأرض الحياة.


 


وأما القمر فشُعَاعه نور، كما قال تعالى: {تبارك الذي جعل في السماء بروجًا وجعل فيها سراجًا وقمرًا منيرًا} [الفرقان: 61]، وإنما كان شعاع القمر نورًا؛ للانتفاع بنوره انتفاعاً مناسباً للحاجة التي قد تعرض إلى طلب رؤية الأشياء في وقت الظلمة، وهو الليل، ولذلك جُعل نوره أضعف؛ ليُنتفع به بقدر ضرورة المنتفِع، فمن لم يضطرَّ إلى الانتفاع به لا يشعرُ بنوره، ولا يصرفه ذلك عن سكونه الذي جُعل ظلام الليل لحصوله، وفي جعْل القمر نوراً إيماءٌ إلى أن ضوء القمر ليس من ذاته؛ فإن القمر مظلم، وإنما يستضيء بانعكاس أشعة الشمس على ما يستقبلها من وجهه، بحسب اختلاف ذلك الاستقبال، ولهذا قال الله فيه: {وقدره منازل} [يونس: 5]، فأول ما يبدو صغيرًا، ثم يتزايد نُوره وجرمه، حتى يستوسق ويكمُل إبدارُه، ثم يشرع في النقص حتى يرجع إلى حاله الأول في تمام شهر، كما قال تعالى: {وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} [ يس: 39 ، 40 ]. وقال: {وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} [ الأنعام: 96 ]؛ وفي هذا فائدة عظيمة في ضبط الأوقات والتواريخ، فبالشمس تعرف الأيام، وبسير القمر تعرف الشهور والأعوام.


 


إن هذا الخلق البديع العظيم ليس عبثًا، ولا باطلا، ولا مصادفة، بل {مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلا بِالْحَقِّ} [يونس: 5]، أي: له حكمة عظيمة في ذلك، وحجة بالغة، كما قال تعالى: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ} [ص: 27]، وقال تعالى: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلَهَ إِلا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ} [المؤمنون: 115-116]، ولهذا قال: {نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} [يونس: 5]، أي نبين الْحُجج والأدلة لقوم يعلمون دلالته على دقيق الصنع ونظامه، وأن خالقه هو المستحق للعبادة وحده دون ما سواه.


 


ولما كانت النعمة على العباد بالشمس والقمر عظيمة فإن الله يخوف عباده بحجب ضوء الشمس أو نور القمر عن الأرض، وقد فزع النبي صلى الله عليه وسلم من هذا الأمر فزعًا عظيمًا، وهو الذي قد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر؛ ففي الصحيحين أن الشمس خسفت في عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقام يجر ثوبه مستعجلا فزعًا، حتى أتى المسجد، فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالناس، فقام فأطال القيام، ثم ركع فأطال الركوع، ثم قام فأطال القيام وهو دون القيام الأول، ثم ركع فأطال الركوع، وهو دون الركوع الأول، ثم سجد فأطال السجود، ثم فعل في الركعة الثانية مثل ما فعل في الأولى، ثم انصرف من الصلاة وقد انجلت الشمس، فخطب الناس، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: ((إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله، لا ينخسفان لموت أحد ولا لحياته، لكن الله تعالى يخوف بهما عباده، فإذا رأيتم ذلك فادعوا الله وكبروا، وصلوا وتصدقوا)). ثم قال: ((يا أمة محمد، والله ما من أحد أغير من الله أن يزني عبده أو تزني أمته، يا أمة محمد، والله لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرًا، ألا هل بلغت؟!))، قالوا: يا رسول الله! رأيناك تناولت شيئًا في مقامك، ثم رأيناك كعكعت؛ أي تأخرت، فقال صلى الله عليه وسلم: ((ما من شيء توعدونه إلا قد رأيته في صلاتي هذه، لقد جيء بالنار، وذلكم حين رأيتموني تأخرت مخافةَ أن يُصيبني من لفحها، وحتى رأيت فيها صاحب المحجن يجر قصبه في النار، كان يسرق الحاج بمحجنه، فإن فُطن له قال إنما تعلَّق بمحجني، وإن غُفِل عنه ذهب به، وحتى رأيت فيها صاحبة الهرة التي ربطتها فلم تطعمها، ولم تدعها تأكل من خشاش الأرض حتى ماتت جوعًا، ثم جيء بالجنة، وذلكم حين رأيتموني تقدمت حتى قمت في مقامي، ولقد مددت يدي وأنا أريد أن أتناول من ثمرها؛ لتنظروا إليه، ثم بدا لي أن لا أفعل، ولو أصبته لأكلتم منه ما بقيت الدنيا، فما من شيء توعدونه إلا قد رأيته في صلاتي هذه)).


 


هكذا كان هدي نبينا صلى الله عليه وسلم، لما خسفت الشمس في حياته قام يصلي بالناس، ويدعو الله ويذكره حتى تجلت الشمس، وكانت صلاته طويلة جدًا، حتى إن أسماء لتقول: إني كدت أن أجلس من طول القيام، وهذه الصلاة إنما تشرع حين يرى الناس الكسوف بأعينهم، ويكون هذا الكسوف مؤثرًا على ضوء الشمس؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((فإذا رأيتم ذلك فادعوا الله وكبروا، وصلوا وتصدقوا))؛ فالأمر بالصلاة مرتبط بالرؤية البصرية، وأما إذا كان الكسوف لا يرى بالعين، وإنما يحتاج إلى مناظير خاصة، ولا يكون في هذا الكسوف أثرًا على ضوء الشمس فإن الصلاة لا تشرع حينئذ.


 


ثم إن بعض الناس اليوم يظن أن معرفة وقت الكسوف يُذهب ما فيه من التخويف، وأن التخويف في الكسوف بسبب وقوعه فجأة، وهذا ظن خاطئ؛ فإن الكسوف والخسوف له أوقات معلومة يعلمها أهل الفلك منذ قديم الزمان؛ والتخويف بالكسوف لما فيه من قدرة الله العظيمة في حجب نور الشمس أو القمر، فهذا دليل على أنه المتصرف في الكون وحده دون ما سواه، فالقادر على حجب نور الشمس والقمر قادر على أن يذهب بهما جميعًا، ويمنعَ الكون من نفعهما، ولكنه حليم بعباده رحيم بهم، ثم يوم القيامة تكور الشمس فتجعل كلها في نار جهنم والعياذ بالله، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {قل أرأيتم إن جعل الله عليكم الليل سرمدًا إلى يوم القيامة من إله غير الله يأتيكم بضياء أفلا تسمعون، قل أرأيتم إن جعل الله عليكم النهار سرمدًا إلى يوم القيامة من إله غير الله يأتيكم بليل تسكنون فيه أفلا تبصرون}.


فاتقوا الله يا إخوتاه وراقبوه، وتوجهوا بقلوبكم إليه، وتقربوا بجوارحكم لديه، فما أحوجكم إلى صالح الأعمال والأقوال حين الوقوف بين يديه، واتقوا يومًا ترجعون فيه إلى الله ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون.


والله أعلم وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله.

: 17-01-2010 07:31
طباعة