من أحكام شهر شعبان

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وآله وصحبه، أما بعد:


 


فإن من هدي نبينا صلى الله عليه وآله وسلم تخصيصَ بعض الأشهر بعبادة خاصة بها، كما كان يخص بعض الأيام بذلك، استجابة منه لأمر ربه، ومتابعة لما يوحى إليه منه، ومن هذه الأشهر شهر شعبان، فقد كان يخصه بكثرة الصيام فيه، فيصوم منه ما لا يصوم من غيره من الشهور؛ في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها قالت: "ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم استكمل صيام شهر قط إلا رمضان، وما رأيته في شهر أكثر صيامًا منه في شعبان، فكان يصوم شعبان كله إلا قليلا"، وفي رواية النسائي عن عائشة قالت: "كان أحب الشهور إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يصوم شعبان، كان يصله برمضان"، وعنها وعن أم سلمة قالتا: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم شعبان إلا قليلا، بل كان يصومه كله"، وعن أم سلمة قالت: "ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم شهرين متتابعين إلا شعبان ورمضان"، وقد رجح طائفة من العلماء أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يستكمل صيام شعبان، وإنما كان يصوم أكثره، ويشهد له ما في صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت: "ما علمته -يعني النبي صلى الله عليه وسلم- صام شهرًا كله إلا رمضان"، وفي رواية لمسلم عنها قالت: "ما رأيته صام شهرًا كاملا منذ قدم المدينة إلا أن يكون رمضان"، وفي الصحيحين عن ابن عباس قال: "ما صام رسول الله صلى الله عليه وسلم شهرًا كاملا غير رمضان"، وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم سبب تخصيصه لهذا الشهر الفضيل بالصيام فيما روى الإمام أحمد والنسائي عن أسامة بن زيد, قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم الأيام، يسرد حتى نقول لا يفطر, ويفطر الأيام حتى لا يكاد يصوم, إلا يومين من الجمعة (أي من الأسبوع) إن كانا في صيامه, وإلا صامهما، ولم يكن يصوم من الشهور ما يصوم من شعبان، فقلت: يا رسول الله إنك تصوم حتى لا تكاد تفطر, وتفطر حتى لا تكاد تصوم، إلا يومين إن دخلا في صيامك وإلا صمتهما"؟! قال: ((أي يومين؟))، قلت: يوم الاثنين ويوم الخميس، قال: ((ذانك يومان تعرض فيهما الأعمال على رب العالمين، وأحب أن يعرض عملي وأنا صائم))، قلت: ولم أرك تصوم من الشهور ما تصوم من شعبان؟ قال: ((ذاك شهر يغفل الناس عنه، بين رجب ورمضان، وهو شهر ترفع فيه الأعمال إلى رب العالمين عز وجل، فأحب أن يُرفع عملي وأنا صائم))، ففي هذا الحديث بيان سبب تخصيص النبي صلى الله عليه وسلم لهذا الشهر بكثرة الصيام، وهو أنه لما اكتنفه شهران عظيمان، رجب وهو شهر حرام ورمضان وهو شهر الصيام، اشتغل الناس بهما عنه، فصار مغفولا عنه، والعبادة وقت غفلة محمودة؛ لما فيها ظهور الإخلاص، وقوة العزيمة، وصدق الرغبة فيما عند الله تبارك وتعالى، وكثير من الناس يظن أن صيام رجب أفضل من صيام شعبان؛ لأنه شهر حرام، وليس كذلك.


 


والسبب الثاني: أن الأعمال ترفع إلى الله في هذا الشهر، فكان يحب أن يرفع عمله، وهو صائم.


فيستحب الإكثار من الصيام في هذا الشهر، ولو بعد النصف منه؛ لأن الأحاديث الصحيحة تدل على ذلك، ولضعف الحديث الوارد في النهي عما بعد النصف، إلا آخر يومين منه، فلا يستحب صيامهما؛ لما روى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((لا تقدموا رمضان بصوم يوم أو يومين))، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن صيام يوم الشك، الذي يشك فيه هل هو من رمضان أم لا، لكن من كان عليه صيام نذر، أو قضاء عن رمضان، أو عن كفارة ونحو ذلك، فيجوز له أن يصوم؛ لأن هذا الصيام واجب، والمبادرة إلى فعل الواجب مأمور بها، ومن كان معتادًا للصيام قبل ذلك، ووافق صيامه هذين اليومين فيجوز له الصيام.


 


فأما صيام يوم النصف من شعبان فغير منهي عنه؛ لأنه من جملة أيام البيض الغر المندوب إلى صيامها من كل شهر، لكن يصام بنية أنه من الأيام البيض، وأنه من شعبان، وأما قيام ليلة النصف من شعبان فلم يثبت فيه عن النبي صلى الله عليه وسلم حديث صحيح، ولهذا لم يرد عن الصحابة والتابعين لهم بإحسان أنهم كانوا يخصون هذه الليلة بالقيام، إلا ما روي عن بعض التابعين من أهل الشام، وقد خالفهم غيرهم من أهل الإسلام، ، وقد وردت في فضل ليلة النصف من شعبان أحاديث متعددة، ضعفها أكثر أهل الحديث، وصحح ابن حبان بعضها، وخرجها في صحيحه، من أمثلها حديث عائشة قالت: فقدت النبي صلى الله عليه وسلم فخرجت فإذا هو بالبقيع رافعًا رأسه إلى السماء، فقال: ((أكنت تخافين أن يحيف الله عليك ورسوله؟)) فقلت: يا رسول الله ظننت أنك أتيت بعض نسائك!! فقال: ((إن الله تبارك وتعالى ينزل ليلة النصف من شعبان إلى السماء الدنيا فيغفر لأكثر من عدد شعر غنم كلب)) [أي قبيلة بني كلب، وخصهم لأنهم أكثر العرب غنمًا]، خرجه الإمام أحمد والترمذي وابن ماجه، وذكر الترمذي عن البخاري أنه ضعفه، ولكن لم يرد ما يدل على الأمر بقيامها، ولهذا فالصحيح أنه لا يشرع قيامها بخصوصها، ولكن إن قامها المسلم كما يقوم غيرها من الليالي فلا بأس.


 


ومن أسباب تخصيص شهر شعبان بالصيام أنه مقدمة بين يدي رمضان، فيكون صيامه تدريبًا وتمرينًا على صيام رمضان؛ لئلا يدخل في صوم رمضان على مشقة وكلفة، بل يكون قد تمرن على الصيام واعتاده، ووجد بصيام شعبان قبله حلاوة الصيام ولذته، فيدخل في صيام رمضان بقوة ونشاط، ولما كان شعبان كالمقدمة لرمضان شُرع فيه ما يشرع في رمضان من الصيام وقراءة القران؛ ليحصل التأهب لتلقي رمضان وتتروض النفوس بذلك على طاعة الرحمن، قال أبو بكر البلخي: شهر رجب شهر الزرع، وشهر شعبان شهر سقي الزرع، وشهر رمضان شهر حصاد الزرع، وقال أيضًا: مثل شهر رجب كالريح، ومثل شعبان مثل الغيم، ومثل رمضان مثل المطر، ومن لم يزرع ويغرس في رجب، ولم يسق في شعبان فكيف يريد أن يحصد في رمضان، وإنك لتجد حال كثير من الناس في رمضان عجيبًا، يبدؤون الشهر بنشاط وقوة، فترى المساجد في الأيام الأولى مليئة بالمصلين والتالين، ثم يبدأ العدد بالتناقص، والنفوس بالفتور، وتستطيل الطريق، وتضعف الهمم، وهذا كله بسبب البعد عن هدي النبي صلى الله عليه وسلم، ولو اقتفينا أثره واقتدينا بسنته وجعلناه إمامًا لنا صدقًا وحقًا لما صرنا إلى حالنا اليوم، من التهاون في الطاعات، والتكاسل عن أداء العبادات، وإهمال حقوق الخلق والخالق، والذلة بين الأمم.


والله أعلم وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله.

: 02-08-2010 12:31
طباعة