كيف يقضى على الفساد الإداري؟

كيف يقضى على الفساد الإداري؟


الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين، أما بعد:


فلما أراد موسى عليه السلام أن يذهب لميقات ربه استخلف أخاه هارون على قومه، ووصاه بهذه الوصية العظيمة: {اخلفني في قومي وأصلح ولا تتبع سبيل المفسدين}، ولما اتخذ قومه من بعده العجل، وعبدوه من دون الله وعظهم هارون ونهاهم، وقال لهم: {يا قوم إنما فتنتم به وإن ربكم الرحمن فاتبعوني وأطيعوا أمري}، فلما رجع موسى غضبان أسفًا حاسب أخاه وعاتبه، وأخذ برأسه يجره إليه، وقال: {ما منعك إذ رأيتهم ضلوا ألا تتبعن؟ أفعصيت أمري؟}، فأجابه هارون مبينًا له عدم تفريطه وتقصيره، وأن القوم استضعفوه وكادوا يقتلونه، وأنه خشي أن يتفرق بنو إسرائيل، فيقع فساد أعظم بسبب ذلك.


هذا أيها الإخوة إشارة من إشارات ربنا إلى طريقة بناء المجتمع الصالح، الذي يقوم على أساسين عظيمين، أولهما: وضع الأنظمة المحكمة، وإصدار القرارات الصائبة، وثانيهما: المراقبة والمحاسبة، وعلى هذا الأساس بنى الإسلام مجتمعه، وأقام نبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم أمر أمته، وقطع دابر الفساد في دولته، فكان يبين لهم ما يجب عليهم فعله، وما يلزمهم القيام به، ثم يحاسبهم على ذلك، في توازن دقيق بين ما يجب، وما هو واقع، وفي إحكام بليغ لجانب النصح والوعظ، والتذكير بالرقابة التي لا تغيب أبدًا، مع إظهار المحاسبة على أرفع المستويات، فالله يأمر نبيه ويعظه وينهاه، فيقول له: {وتخفي في نفسك ما الله مبديه وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه}، ويقول له: {لم تحرم ما أحل الله لك تبتغي مرضاة أزواجك}، ويقول له: {عفا الله عنك لم أذنت لهم حتى يتبين لك الذين صدقوا وتعلم الكاذبين}، ويقول له: {عبس وتولى أن جاءه الأعمى وما يدريك لعله يزكى أو يذكر فتنفعه الذكرى أما من استغنى فأنت له تصدى وما عليك ألا يزكى وأما من جاءك يسعى وهو يخشى فأنت عنه تلهى، كلا إنها تذكرة فمن شاء ذكره}، إلى مواقف أخرى كثيرة، تبين أن المحاسبة ليست عيبًا ولا نقصًا، وأنها ركن ركين في القضاء على الفساد، وأنه ليس أحد فوق القانون.


وقد أثبتت الدراسات الحديثة أن أعظم أسباب فشو الفساد في الإدارات الحكومية هو عدم تطبيق نظام المساءلة بشكل دقيق على جميع أجهزة الدولة، ثم يأتي بعده ضعف الوازع الديني، وأما الجشع المادي فهو آخر أسباب فشو الفساد الإداري.


إن نبينا صلى الله عليه وآله وسلم يطبق مبدأ المحاسبة على الجميع، فيبدأ بنفسه، ويبين أنه ليس له من هذا المال شيء، إلا الخمس، والخمس مردود على الناس فيما ينفعهم، وأن العقوبة يجب أن تنفذ على من استحقها، فيعلنها مدوية على أسماع الناس كلهم، فيقول وهو أفضل الخلق عن سيدة النساء: ((وأيم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها))، فمن دونها أولى أن يقطع لو سرق، ومن دون محمد صلى الله عليه وآله وسلم أولى أن يحاسب ويتابع ويعاتب.


كم من الخطب قيلت، ومن المواعظ قد كتبت، ومن النصوص الشرعية العظيمة بُيِّنت، وبين الناس قد نشرت، لعل من أشهرها حديث ابن اللتبية وهو رجل من أسد بعثه النبي صلى الله عليه وآله وسلم على صدقة، فلما قدم حاسبه النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فقال ابن اللتبية: هذا لكم، وهذا أهدي إلي، فقام النبي صلى الله عليه وآله وسلم فصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: ((ما بال العامل نبعثه فيأتي فيقول: هذا أهدي لي؟ فهلا جلس في بيت أبيه وأمه فينظر أيهدى له أم لا؟ والذي نفسي بيده لا يأتي بشيء إلا جاء به يوم القيامة يحمله على رقبته، إن كان بعيرًا له رغاء، أو بقرة لها خوار، أو شاة تيعر)) -ثم رفع يديه حتى رأي بياض إبطيه- ((ألا هل بلغت، ألا هل بلغت ، ألا هل بلغت)) متفق عليه، وقال عليه الصلاة والسلام: ((إن هذا المال خضرة حلوة، من أصابه بحقه بورك له فيه، ورب متخوض فيما شاءت نفسه من مال الله ورسوله ليس له يوم القيامة إلا النار)) رواه الترمذي، وقال: حسن صحيح، وقال أيضًا عليه الصلاة والسلام: ((إن رجالاً يتخوضون في مال الله بغير حق فلهم النار يوم القيامة)) متفق عليه.


لا يحتاج الفساد الإداري إلى أدلة خفية لكشفه وفضحه، فإن الواقع كثيرًا ما يفضحه، فالمطر النازل من السماء يفضح، ومخرجات التعليم تفضح، والمنشآت المتهالكة تفضح، والروتين الإداري يفضح، وأي شيء أعظم من الدخان دليلا على وجود النار؟!


إن ضرر الرشوة، والغش في المعاملة، والتهرب من العمل في أوقاته، وعدم الانضباط في مواعيده يظهر على المجتمع كله، فهو نذير شؤم على صاحبه، وعلامة محق البركة على مجتمعه.


قال بعض السلف: لو قمت قيام السارية -يعني للصلاة- ما نفعك حتى تعلم ما يدخل بطنك أحلال أم حرام، ولن تزولا قدم عبد يوم القيامة حتى يسأل عن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه.


ويوم القيامة يجمع الله فيه الرسل {فيقول: ماذا أجبتم؟} ويقسم الرب بنفسه المقدسة فيقول: {فوربك لنسألنهم أجمعين عما كانوا يعملون} يسأل من؟ {فلنسألن الذين أرسل إليهم ولنسألن المرسلين}، بل حتى الصادق يسأل عن صدقه، فكيف بالكاذب؟!


أفلا يكون في هذا موعظة وذكرى لمن أهمل باب المحاسبة، أو جعلها على قوم دون قوم، حتى ظهر الفساد في البر والبحر!


ألا لعنة الله على الراشي والمرتشي، وعلى المتكلم بالزور، وعلى من يغش أمته وبلده، إنهم يزرعون السيء من الأخلاق، لكي تستمرئ الأمة هذا المرعى الوبيل، فتمتلئ بالحرام أجوافها، وتمحق بركتها، وتذهب هيبتها.


ماذا يجني هذا الذي يتخذ من المال العام مجالا للكسب على حساب أداء الأمانة، والقيام بالحقوق؟!


أي ربح يربحه من يزيد رصيد حسابه لينقص رصيد أمته، وتهلك المشاريع وتفسد بعد مضي سنوات يسيرة على تنفيذها؟


لو راقبت الله يا عبد الله لعلمت أن الرابح من أقبل على ربه وليس على رقبته شيء من حقوق العباد، فلا تغرنك الدنيا وتقلب أهلها فيها، ولا تظنن أن الفوز في جمع أموال تذهب لغيرك، ولا تنال منها أكثر مما يسكت جوعتك، ويكسو عورتك، ويكنك عن الحر والقر، فلا تجمع ما يكون وقودًا يحرقك ويلهب النار على جلدك، واعلم أن من يغلل يأت بما غل يوم القيامة، ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون.


والله أعلم وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله.

: 19-01-2012 08:18
طباعة