المسيح عليه السلام 1(الاصطفاء ومعجزة الولادة)

إن الله هو القاهر فوق عباده، وهو على كل شيء قدير، خلق آدم من تراب، بلا أم ولا أب، وخلق حواء من آدم، بلا أم، وخلق عيسى عليه السلام من أم بلا أب، وخلق سائر الخلق من أم وأب، فأمْره إذا أراد شيئًا أن يقول له كن فيكون، فلا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء، وكل ذلك دليل على وحدانيته، وقوته، وقدرته، وعظيم حكمته، وإبداع صنعه.


والمسيح عيسى ابن مريم الوجيه في الدنيا والآخرة، ومن أولي العزم من الرسل، الداعين إلى وحدانية الله تبارك وتعالى، المقرين على أنفسهم بالعبودية، كان وجوده بالطريقة العجيبة وبعثته رحمةً للناس، وإنقاذًا لهم من الضلال، و أمه مريم بنت عمران الصديقة الطاهرة العفيفة البتول، من ذرية مباركة طيبة مصطفاة، يقول الله تبارك وتعالى: {إن الله اصطفى آدم ونوحًا وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين}، وعمران من ذرية سليمان بن داود، وهم من ذرية يعقوب بن إسحاق بن خليل الله إبراهيم، فالله اصطفى عمران وذريته من بين بني إسرائيل الموجودين في ذلك الزمان، وإنما يصطفي الله الأخيار من عباده.


لما حملت امرأة عمران وتحققت من حملها قالت: {رب إني نذرت لك ما في بطني محررًا} أي: جعلت ما في بطني خالصًا لوجهك، محررًا لخدمتك وخدمة بيتك، {فتقبل مني} هذا العمل المبارك {إنك أنت السميع العليم} تسمع دعائي، وتعلم نيتي وقصدي، قالت ذلك والحمل في بطنها، لا تعلم أذكر هو أم أثنى.


فلم وضعت حملها وكان أنثى، اعتذرت لربها وقالت: {رب إني وضعتها أنثى .. وليس الذكر كالأنثى}، في القدرة على الخدمة، والقيام بأعباء العمل، {وإني سميتها مريم} والله أعلم بما وضعت لا يحتاج إلى إعلامها، بل علمه متعلق بها قبل أن تعلم أمها ما هي، وله الحكمة في ذلك، ثم توجهت إلى ربها بهذا الدعاء العظيم: {إني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم}، فتقبَّل اللهُ دعاءها، وقبِل نذْرها.


وأنبت الله مريم نباتًا حسنًا في بدنها وخَلْقِها وأخلاقها؛ لأنه تعالى قيض لها زكريا عليه السلام، وجعله كفيلا عليها، وذلك أن أمها خَرَجَتْ بها تحملها في خِرْقة إلى الْحُجَّاب والكهان الذين في بيت المقدس، فقالت لهم: دُونكم هذه النَّذِيرة؛ فإني حررتها وهي ابنتي، ولا تدخل  الكنيسة حائض، وأنا لا أردها إلى بيتي؟ فقالوا: هذه ابنة إمامنا -وكان عمران يؤمهم في الصلاة- وصاحب قرباننا، فقال زكريا عليه السلام: ادفعوها إليَّ؛ فإن خالتها تحتي، فقالوا: لا تطيب أنفسنا، هي ابنة إمامنا، فاقترعوا بأقلامهم عليها التي يكتبون بها التوراة، فألقوا أقلامهم في النهر فاحتملها الماء، إلا قلم زكريا فإنه ثبت، وكان مع ذلك هو كبيرهم وسيدهم، وعالمهم وإمامهم ونبيهم، صلوات الله وسلامه عليه وعلى سائر النبيين والمرسلين، وهذا من رفق الله بها ليربيها على أكمل الأحوال.


فنشأت البتول في كفالة زكريا، وفاقت النساء، وانقطعت لعبادة ربها، ولزمت محرابها، تصلي وتذكر الله، وكانت الملائكة تخاطبها وتكلمها، و تقول لها: يا مريم إن الله اصطفاك؛ أي: اختارك، وطهّرك من الآفات والذنوب والمعاصي، واصطفاك على نساء العالمين، فلما أخبرتها الملائكة باصطفاء الله إياها وتطهيرها، كان في هذا من النعمة العظيمة والمنحة الجسيمة ما يوجب لها القيام بشكرها، فلهذا قالت لها الملائكة بعد ذلك: {يا مريم اقنتي لربك واسجدي واركعي مع الراكعين}، فداومي على الطاعة في خضوع وخشوع، والزمي كثرة السجود والركوع؛ لما فيهما من غاية الخضوع والتذلل لله تبارك وتعالى، ففعلت مريم ما أمرت به؛ شكرًا لله تعالى وطاعة، وتكفل الله برزقها، فكان زكريا كلما دخل عليها المحراب وجد عندها رزقًا، فيقول لها زكريا: أنى لك هذا؟ فتقول: هو من عند الله فضلا وإحسانا؛ إن الله يرزق من يشاء بغير حساب، أي: من غير حسبان من العبد ولا كسب.


واعتزلت قومها، في مكان شرقي بيت المقدس، واتخذت من دونهم حجابًا؛ لتعتزل وتنفرد بعبادة ربها، وتقْنُت له في حالة الإخلاص والخضوع والذل له سبحانه وتعالى، استجابة لما أمرتها به الملائكة في قولها: {اقنتي لربك واسجدي واركعي مع الراكعين}.


وفي هذه اللحظة من الاعتزال، وتمام الخضوع والخشوع والتذلل أرسل الله لها روحه جبريل عليه السلام،  فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا، أي كاملا من الرجال، في صورة جميلة، وهيئة حسنة، لا عيب فيه ولا نقص؛ لكونها لا تحتمل رؤيته على ما هو عليه، فلما رأته في هذه الحال، وهي معتزلة عن أهلها، منفردة عن الناس، قد اتخذت الحجاب عن أعز الناس عليها، وهم أهلها، خافت أن يكون رجلا قد تعرَّض لها بسوء، وطمع فيها، فاعتصمت بربها، واستعاذت منه، فقالت له: {إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ}؛ أي ألتجئ به وأعتصم برحمته أن تنالني بسوء {إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا}؛ أي إن كنت تخاف الله وتعمل بتقواه فاترك التعرض لي، فجمعت بين الاعتصام بربها، وبين تخويفه وترهيبه، وأمره بلزوم التقوى، وهي في تلك الحالة الخالية، والشباب والبعد عن الناس، وهو في ذلك الجمال الباهر، والبشرية الكاملة السوية، ولم ينطِق لها بسوء أو يتعرض لها، وإنما ذلك خوفٌ منها، وهذا أبلغ ما يكون من العفة والبعد عن الشر وأسبابه، وهذه العفة -خصوصًا مع اجتماع الدواعي وعدم المانع- من أفضل الأعمال، ولذلك أثنى الله عليها فقال: {وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا، وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ} فأعاضها الله بعفتها ولدًا من آيات الله، ورسولا من رسله.


فلما رأى جبريل منها الروع والخيفة قال: {إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ} أي إنما وظيفتي وشُغْلي تنفيذُ رسالة ربي فيك {لأهَبَ لَكِ غُلامًا زَكِيًّا}، وهذه بشارة عظيمة بالولد وزكائه؛ فإن الزكاء يستلزم تطهيره من الخصال الذميمة، واتصافه بالخصال الحميدة.


فتعجبت من وجود الولد من غير أب فقالت: {أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا} والولد لا يوجد إلا بذلك؟!!


{قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ} تدل على كمال قدرة الله تعالى، وعلى أن الأسباب جميعها لا تستقل بالتأثير، وإنما تأثيرها بتقدير الله، فَيُري عباده خرق العوائد في بعض الأسباب العادية؛ لئلا يقفوا مع الأسباب ويقطعوا النظر عن مقدِّرِها ومسببها، {وَرَحْمَةً مِنَّا} أي ولنجعله رحمة منا به وبوالدته وبالناس؛ أمَّا رحمةُ الله به فلما خصَّه الله بوحيه، ومنَّ عليه بما مَنَّ به على أولي العزم، وأمَّا رحمته بوالدته فلِمَا حصل لها من الفخر والثناء الحسن والمنافع العظيمة، وأما رحمته بالناس فإن أكبر نعمه عليهم أن بعث فيهم رسولا يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة، فيؤمنون به ويطيعونه، وتحصل لهم سعادة الدنيا والآخرة، {وَكَانَ} وجود عيسى عليه السلام على هذه الحالة {أَمْرًا مَقْضِيًّا} قضاء سابقا، فلا بد من نفوذ هذا التقدير والقضاء، فما شاء الله لا بد أن يقع، وما لم يشأ فلن يقع أبدًا.


فلما حملت مريم بعيسى عليه السلام، خافت من الفضيحة، فتباعدت عن الناس مَكَانًا قَصِيًّا، فلما قرُب وِلادها، ألجأها المخاض إلى جذع نخلة، فلما آلمها وجع الولادة، ووجع الانفراد عن الطعام والشراب، ووجع قلبها من قالة الناس، وخافت عدم صبرها، تمنت أنها ماتت قبل هذا الحادث، وكانت نسيًا منسيًا فلا تُذكر، وهذا التمني لأجل ما وقع لهذا من هذا الأمر المزعج، والخوف مما سيحمله هذا الجنين لها، ولكن ليس في هذه الأمنية خير لها ولا مصلحة، وإنما الخير والمصلحة بتقدير ما حصل، ولكن الله أراد أن يُسكِّن روعها، ويهدِئ من نفسها، ويقطع حبال الوساوس عنها، فسمعت من تحتها من يناديها ويقول: لا تحزني، ولا تجزعي ولا تهتمي، فـقَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا، نهرًا تشربين منه، {وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا}، طريًا لذيذا نافعًا، فَكُلِي من التمر، وَاشْرَبِي من النهر، وَقَرِّي عَيْنًا بعيسى، فهو عبد الله ورسوله، فهدأت نفسها من هذا الباب، وسكنت، وعلمت أن الخير فيما اختاره الله، ولكن ماذا تقول للناس، ومن سيصدقها، مهما حلفت وقالت، ومن هم شهودها على ذلك؟ ولو أحضرت مئة شاهد، فمن ذا يصدق ولادة الولد بلا أب؟ فكان لله في ذلك الحكمة والتقدير، فإنه رؤوف بعباده خبير بهم بصير بأحوالهم، وجعل لها من الدليل والبرهان ما يعجز البشر كلهم عن إيجاده؛ ليكون برهانًا للمؤمنين المصدقين، وقاصمة ظهر للمكذبين المعاندين.

: 04-01-2013 11:08
طباعة