« خواطر مع الشيخ صالح الحصين »










زرته أول مرة عام 1416، في المدينة، وكان يسكن شقة صغيرة في عمارة الأوقاف، فقابلني بلطف كبير، فلما أدخلني في المجلس استأذن بأنه كان يرقي أمه، وسيذهب يكمل رقياه ثم يعود، فلما عاد أخذ يسألني عن أهلي وعن عملي، فلما أخبرته أني أكتب رسالة الماجستير في القواعد والضوابط الفقهية للمعاملات المالية عند ابن تيمية، ذكر أن لديه كتابًا بعنوان: الفكر الاقتصادي عند ابن تيمية لشوقي دنيا، ولكنه باللغة الإنجليزية، فأعارني إياه.



ثم دعاني إلى الغداء من الغد، فأخبرته أن معي أهلي، فقال: حياك الله وإياهم، فجلست معه جلسة لا أظن أني جلست مع غيره أحسن ولا أنفع منها، ثم خرجنا لصلاة العصر، فلما أردنا الدخول مع باب المسجد خلع نعاله فوضعها في المكان المخصص لها عند الباب، فخلعت نعالي بجانبها، فقال: خذ نعالك، فقلت: وأنت؟، فقال: إن نعالي مرقعة، ولن يرغب فيه أحد، أما أنت فأخشى أن تسرق نعالك!!



ثم عرض علي أن أذهب معه من الغد إلى وليمة غداء دعاه إليها الشيخ عبدالباري الثبيتي، بحضور الشيخ محمد بن عثيمين، ولكني اعتذرت، وليتني ذهبت.



في إحدى زياراتي له في شقته في المدينة: استأذن عليه أحد الطلاب الموفدين من أفريقيا، فحياه الشيخ، ورحب به، وعرض عليه شرب الشاي معنا، فقال: إنه لا يشرب الشاي، فهم الشيخ بالنهوض قائلا: ما رأيك لو أحضرت لك ليمونًا بالعسل؟ ولكن الطالب اعتذر أيضًا، ثم عرض حاجته، فقضاها له.



عزمنا مرة أنا وأبي وبعض أخوتي على الغداء في بيته الذي في حي أجياد، فأمرني الوالد أن أمر على الشيخ بعد صلاة الجمعة في مكانه الذي بجانب باب الملك عبد العزيز، فلما دخلت عليه رحب بي، ثم أجلسني، وجلس يقضي حاجات بعض الناس، ثم التفت إلي، وقال: تأخر الوالد وإخوتك! فقلت: إنهم ينتظرونك، فانطلقنا سويًا، وفي الطريق أخرج لي فاتورة كهرباء من جيبه، فيها مئتا ريال، فقال: هذه الفاتورة لأحد الفقراء، يريد أن أسددها عنه، ولا أدري لم كل هذا المصروف؟ هل هو فاتح في بيته مصنعًا؟!!!!!، فقلت: يا شيخ إن الأمور قد تغيرت، والأسعار قد زادت، ولا أظن أن هذا المبلغ كبير على فاتورة كهرباء! فقال: يا بني! إن السلع الرئيسة في حياة الناس، والتي لا قوام لهم إلا بها، لم تختلف أسعارها كثيرًا، ولكن التوسع في الملذات هو الذي جعلهم يصرفون هذه المصاريف الكثيرة، فيمدون أيديهم بالسؤال.



لما دخلنا مجلسه في شقته التي لا تتجاوز مساحتها الخمسين مترًا، امتلأ بنا، مع أننا لا نتاوز بضعة أنفس فقط.



قال لي مرة: إن شقته في المدينة مصممة بطريقة اقتصادية جدًا، وأن مهندسًا من الإنجليز هو الذي صممها، ولكنها لا تناسب كثيرًا من الناس، ويرون أنها (نخانيخ دجاج!!)، ثم قال: إن الإنجليز قد أعطوا من الحكمة في التدبير بقدر ما أعطي غيرهم من السفه والتبذير، ولا يمنعنا كفرهم من الاستفادة منهم.



إن الشيخ رحمه الله كان إمامًا في الزهد، تطبيقًا وتنظيرًا وتأصيلا، فهو يفعله، ويرشدك إلى أن فعله ممكن.



ثم إن زهده لم يكن عن عجز، بل عن رغبة وإرادة، مع قدرة على خلافه، فقد أتته الوزارة وهو في سن الشباب، وأقبلت عليه الدنيا في قوته ونشاطه، وكان من الممكن أن يأخذ منها ما شاء، ولكنه صرف وجهه عنها، وترفع بهمته عن طلبها، فكانت تأتيه وهي راكعة.



 



وما رأيت مثله في الزهد والرغبة عن الشهرة إلا أن يكون الشيخ سعيد الطنطاوي، أخ الشيخ علي الطنطاوي رحمه الله.



ولم يكن مع زهده وإعراضه عما عند الناس جاهلا بالواقع، بل كان بصيرًا به، خبيرًا بما يدور حوله، يدرك مآلآت الأمور، ويراعي أولويات الدعوة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.



ومن عجيب ما رأيته فيه: أني إذا جلست معه جلسة واحدة، أحسست كأني قد أخذت كل ما عنده، وأنه قد أفادني بكل ما أريد منه، فإذا غبت عنه صار كلامه كالنبراس يضيء طريقي، مع إحساسي بالشوق إليه، وإلى سماع صوته.



فاللهم اجمع شملنا به في جنات النعيم، مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقًا.





» تاريخ النشر: 02-07-2013 05:17
» تاريخ الحفظ: 29-03-2024 06:04
» موقع الشيخ عبدالسلام بن إبراهيم الحصين
.:: http://www.t-elm.net/almoshref ::.