رأس مكارم الأخلاق

فإن الحياء رأس مكارم الأخلاق،
ومادة حياة القلب، وأصل كل خير، كما في الحديث الصحيح عن نبينا صلى الله عليه وآله
وسلم: ((الحياء خير كله))، وقال عليه الصلاة والسلام: ((ما كان الحياء في شيء قط
إلا زانه)) رواه الترمذي وقال: حديث حسن، ولهذا كان شعبة عظيمة من شعب الإيمان،
كما قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لما مر على رجل من الأنصار وهو يعظ
أخاه في الحياء: ((دعه؛ فإن الحياء من الإيمان)) رواه البخاري ومسلم.



وربنا جل وعلا حيي كريم، وحياؤه جل
وعلا حياء جود وبر وكرم وجلال، لا تدركه الأفهام، ولا تكيفه العقول، ولهذا أمر
عباده بخلق الحياء؛ لأنه من أفضل الأخلاق وأجلها، وأعظمها قدرًا، وأكثرها نفعًا،
بل هو خاصة الإنسانية، فمن لا حياء فيه ليس معه من الإنسانية إلا اللحم والدم،
وصورتهما الظاهرة.



فعديم الحياء ميت القلب، كما قال أمير
المؤمنين عمر بن الخطاب: "من قل حياؤه قله ورعه، ومن قل ورعه مات قلبه"،
ومن لا حياء فيه ميت في الدنيا، شقي في الآخرة، فلولا هذا الخلقِ الحميد لم يُقَرَ
ضيف، ولم يوف بوعد، ولم تؤدَّ أمانة، ولم تقض حاجة، ولا أوثر خلق جميل، ولا اجُتنب
قبيح، ولا سترت عورة، ولا امتنع من فاحشة.



إن حقيقة الحياء خلق يبعث على فعل
الحسن، وترك القبيح من الأقوال والأفعال، ويمتنع صاحبه من التقصير في حق ذي الحق.



وأعظم الحياء وأجله حياء العبد من
ربه، فمن رأى نعم الله المتواردةَ عليه، ورأى تقصيره في حق ربه، استحيا من الله أن
يعصيه، وأن يخالف أمره، ومن علم أن الرب جل وعلا ناظر إليه استحيا من ربه أن يقصر
في طاعة، أو أن يقع في معصية، فيحتمل أعباء الصبر على الطاعة، والصبر عن المعصية،
حياء من ربه الناظر إليه.



ومن غفل عن مراقبة الله له ونظره
إليه، قل حياؤه، وقبح فعله، فالذنوب تضعف الحياء من الإنسان، حتى ربما انسلخ منه
بالكلية، فلا يتأثر بعلم الناس بسوء حاله، ولا باطلاعهم عليه، بل بعضهم يخبر عن
حاله وقبح ما يفعل، وربما صور نفسه وهو مواقع للقبائح، فنشرها بين الناس، بل ويدعو
الناس إليها، ويغريهم بها، بسبب انسلاخه من الحياء، ولو استحيا هذا بفعلته
لاستخفى، ومن استخفى اتقى، ومن اتقى وقِّي.



إن من كساه الحياء ثوبه، لم ير
الناس عيبه، ومن استحيا من الله عند معصيته، استحيا الله من عقوبته يوم يلقاه، ومن
لم يستح من معصيته لم يستح الله من عقوبته، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى
الله عليه وآله وسلم: ((الحياء من الإيمان، والإيمان في الجنة، والبذاء من الجفاء،
والجفاء في النار)) رواه الترمذي وقال: حسن صحيح.



وما ظهرت الخيانة، ولا كثر الغش،
وقل الأمين، وجاهر صاحب المعصية بذنبه، ونشر بين الخلائق هتكه لمحارم ربه، إلا حين
ذهب خلق الحياء.



وإن الناس لما فقدوا هذا الخلق لم
يبال قويهم بضعيفهم، فاستهان بالحقوق، وغار من قلبه خلق العطف والرحمة والشفقة
والرأفة.



وإن الناس لما فقدوا خلق الحياء سهل
عليهم أن يروا إخوانهم يقتلون في كل ناحية، وهم لاهون في دنياهم، غارقون في
معاصيهم، آمنون أن يأتيهم بأس الله بياتًا وهو نائمون، أو ضحى وهم يلعبون.



وإن الناس لما فقدوا خلق الحياء قل
حرصهم على أداء الصلوات، والمحافظة عليها، فترى الواحد منهم يحرص على صغير أمور
الدنيا وكبيرها، ويدقق في كل شؤونها، فإذا حضرت الصلاة جاءها بقلب غافل، وجسم
متكاسل، يتثاقل في مشيته، كأنما يمن على ربه في وقفته.



وإن الحياء الحقيقي لا يمنع من
الأمر بالمعروف أو النهي عن المنكر، ولا من الدعوة إلى الله، ولا من النصح
والبيان، وتعليم الناس الخيرز



وبعض الناس يستحيي من المواجهة
بالحق، وقد يخل ببعض الحقوق الواجبة حياء، وربما فعل المعصية حياء من الناس أيضًا،
وهذا ليس بحياء، بل هو ضعف وخور ومهانة، واستكبار عن فعل الخير والإذعان للحق.



لقد كان نبينا عليه الصلاة والسلام أشدَّ الناس
حياء، ومن حيائه أنه يعرف ما يكره في وجهه، دون أن يتكلم، وكان لا يواجه الناس
بالمعاتبة، بل يقول: ((ما بال أقوام يفعلون كذا وكذا)), ومع هذا الحياء الفطري
الغريزي كان إذا رأى حرمات الله تنتهك لا يقوم دون غضبه شيء، وإذا رأى من أحد
تقصيرًا نبهه ووعظه وعلمه ورفع الجهل عنه، وأوصل الخير إليه، وهو القدوة في صغير الأمور
وكبيرها.

: 31-12-2017 09:17
طباعة