وداعا رأس الخيمة....(هذه الخاطرة كتبتها بمناسبة مغادرة إمارة رأس الخيمة، بعد أن مكثت فيها أربع سنين، للتدريس في كلية الشريعة واللغة العربية بها، التابعة لجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، وقد غادرتها في الشهر الخامس من عام 1427).
لما كنت في السنة الثالثة الإعدادية، أو الأولى الثانوية -لا أتذكر بالضبط- حاولت أن أكتب شعرًا..
كان مداده حب صادق، ولكن الكلمات لم تسعفني، فبعد جهد جهيد، عصرت فيه كل خلية من خلايا مخي، خرجت بمجموعة من الأبيات، فعرضتها على مدرس البلاغة والأدب، فتكرم علي وقرأها، ثم أثنى علي بأدب، ولكنه قال قولاً أوصد باب الشعر في وجهي..
تذكرت هذا الموقف لما جئت لأكتب عن فراق رأس الخيمة..
كنت أظن أنه لا يمكن أن تخرج المشاعر من القلب إلا بصورة منظومة، وقوافي معلومة..
ألا يمكن أن يعبر عن مشاعره إلا شاعر؟! ولا يصف الأحاسيس وما يختلج في القلب من معاني الحب والمودة إلا كاتب قدير؟!
إن لي قلبًا ينبض بالحب، ولسانًا ينطق بطيب اللفظ، ولكني لا أستطيع أن أحلق في الجواء لأنتقي أعذب الألفاظ وأرقها..
ما هو الإنسان؟ إني أراه مجموعة من المواقف والأحداث، في كل موقف يوجد إنسان جديد، ثم يخلفه غيره، كالماء الجاري في النهر، كل جرية تختلف عن الأخرى، ولكنهما متفقان في الصفات كلها..
إني اليوم أقتطع جزءًا مني أودعه في هذه الأرض المباركة..
جزء من عمري عشته في رباع هذه الإمارة، أربع سنوات، أستعرضها الآن، وكأنها أربع ساعات..
لا أزال أتذكر يوم دخولي، كانت مدينة هادئة، دخلتها بعد أن ذهب هوي من الليل، وكأنها تغط في نوم عميق، رأيتها على غير ما وصفت لي، كنت أظنها عجوزًا هرمة، فإذا هي طفلة جميلة، ما زالت في بداية درجات التطور العمراني...
كنت أرتقب الصباح؛ لأرى المدينة وهي تتنفس، فإذا حركة دائبة مستمرة، ورأيت فيها مناظر استنكرتها، فقد وصفت لي على غير ما رأيت، وعلمت بعد حين أن الأمور قد اختلفت، وضقت ذرعًا بما أرى، فقررت تطبيق برنامجي كما هو...
أنا أتردد على ثلاثة أماكن باستمرار:
البيت، والمسجد، ومكان العمل..
هل تصدقون أني مكثت فيها ثلاث سنين لا أكاد أضبط الطريق إلى مطار دبي، فكيف بأسواقها، ومحلاتها، وملاهيها..
كنت أنظر إلى مدة بقائي فيها، فإذا هي طويلة جدًا...
متى تنقضي هذه السنين الأربع؟؛ لأعود إلى أمي وأبي، وتلاميذي، وحلقتي في تحفيظ القرآن..
وكدت أن أحقب أمتعتي وأعود، لولا أني وجدت في الكلية التي أدرس فيها طلابًا متعطشين، يحبون العلم، ويسعون جهدهم في تحصيله، فرأيت أن الله قد اختار لي طريقًا في نشر العلم لم أكن أحلم به، فأمامي في القاعة مجموعة مختلفة من الطلاب، من جنسيات مختلفة..
ولولا أني تعرفت فيها على رجال ونساء، هم القمة في التفاني في العمل، وحب الخير، يضرب بهم المثل في تطبيق معاني الأخوة..
الشيء الذي أخرجني من عزلتي هو هذا المنتدى ( منتدى مجان، وقد حثني على المشاركة أخي الفاضل محمد بن راشد الشحي، وهو المشرف العام على المنتدى، فشاركت فيه باسم: "مَعين")، فقد عشت فيه أيامًا جميلة..
لست أنكر تقصيري في الكتابة، وبخلي بالكلمات، لكن يكفيني أني أحن إليه كل يوم، وأحرص على استعراض مواضيعه ولو بسرعة..
وكلما طالت مدة البقاء اكتشفت فيها أشياء جميلة، ورأيت فيها معاني حلوة..
حتى إني أحن إليها في الصيف، إذا ذهبت إلى بلدي لأقضي فيها إجازتي..
رأس الخيمة... تاريخ مجيد، خرج منها رجال صنعوا التاريخ، أرضها طيبة، تُخرج كل ثمر طيب، ويمشي على أرضها قوم صفت سرائرهم، وطابت نفوسهم..
لا أقول ذلك مجاملة ولا محاباة، فلست أرجو منهم شيئًا، ولا أأمل من أحدٍ جاهًا، ولكنها الحقيقة كما أراها..
أحس الآن كلما خرجت من البيت أني أودع هذه المدينة، شوارعها، وأشجارها، ومساجدها، ومن عرفت من أهلها..
أمشي وأنا أحاول أن أملأ عيني من كل شيء جميل رأيته فيها، حتى أصوات الطيور أصبح له معنى خاص في نفسي..
إني أستعير هذه الأبيات التي قيلت في الموصل لأجعلها في رأس الخيمة:
سقا ربي (الخيمة) الفيحاء من بلد جودًا من المزن يحكي جود أهليها
أأندب العيش فيها؟ أم أنوح على أيامها؟ أم أعزَّى في لياليها؟
أرض يحن إليها من يفارقها ويحمد العيش فيها من يدانيها
إني أعتذر لكم، فلم تستطع كلماتي أن تعبر عن كل ما أحمله في قلبي من حب صادق..
إن القلم في يدي كالفرس الجموح، أحاول أن أقوده إلى ما أريد، فيستعصي علي، ويقودني هو لما يريد..