كنتُ قد وعدت أن أسوق شيئا من أحوال السلف في إخفاء العمل وحرصهم على ذلك واجتهادهم فيه ، وهذا أوان الشروع في المقصود :
لما رأى ابن عمر رجلاً يُصلي ويُتابع قال له : ما هذا ؟ قال : إني لم أصل البارحة ، فقال ابن عمر : أتريد أن تخبرني الآن ! إنما هما ركعتان .
ولما قال سعيد بن جبير لأصحابه : أيكم رأى الكوكب الذي انقض البارحة ؟ قال حصين بن عبد الرحمن : قلت : أنا ، ثم قلت : أما إني لم أكن في صلاة ولكني لدغت . فَذَكَرَ الحديث . رواه مسلم .
فقوله – رحمه الله – : أما إني لم أكن في صلاة ولكني لدغت ، لينفي عن نفسه حبّ السمعة والشهرة ، وليعلم جليسه أنه لم يكن في صلاة .
وما ذلك إلا لحرصهم على الإخلاص .
وقد كان عمل الربيع بن خثيم كله سِـرّاً ؛ إن كان ليجئ الرجـل وقد نَشَـرَ المصحف ، فيغطيه بثوبه .
قال الأعمش : كنت عند إبراهيم النخعي وهو يقـرأ في المصحف ، فاستأذن عليه رجل فغطّى المصحف ، وقال : لا يراني هذا أني أقرأ فيه كل ساعة .
قال عبدة بن سليمان : كنا في سرية مع عبد الله بن المبارك في بلاد الروم فصادفنا العدو ، فلما التقى الصفان خرج رجل من العدو فدعا إلى البِراز فخرج إليه رجل فطارده ساعة فطعنه فقتله ، ثم آخر فقتله ثم دعا إلى البِراز ، فخرج إليه رجل فطارده ساعة فطعنه فقتله ، فازدحم عليه الناس وكنت فيمن ازدحم عليه فإذا هو مُلَثّمٌ وجهه بكمـه ، فأخذت بطرف كمه فمددته ، فإذا هو عبد الله بن المبارك فقال : و أنت يا أبا عمرو ! ممن يشنع علينا .
قال محمد بن القاسم : صحبت محمد بن أسلم أكثر من عشرين سنة لم أره يصلي حيث أراه ركعتين من التطوع إلا يوم الجمعة ، وسمعته كذا وكذا مرة يحلف لو قدرت أن أتطوع حيث لا يراني ملكاي لفعلت خوفاً من الرياء ، وكان يدخل بيتا له ويُغلق بابه ، ولم أدرِ ما يصنع حتى سمعت ابناً لـه صغيرا يحكي بكاءه ، فنهته أمُّه ، فقلت لها : ما هذا ؟ قالت : إن أبا الحسن يدخل هذا البيت فيقرأ ويبكي فيسمعه الصبي فيحكيه ، وكان إذا
أراد أن يخرج غسل وجهه واكتحل فلا يرى عليه أثر البكاء .
وكان أيوب السختياني في مجلس فجاءته عَبْرَة ، فجعل يتمخّط ويقول : ما أشدّ الزكام .
هذا نزر يسير من حرصهم على إخفاء أعمالهم حتى لا يدخلها الرياء ، ولا يجد الشيطان مدخلا إلى نفوسهم .
فرحم الله سلف هذه الأمة ما أعظم فقههم وما أدق فهمهم .
|