06-06-11, 04:51 PM
|
#6
|
~متألقة~
تاريخ التسجيل:
31-01-2010
العمر: 61
المشاركات: 615
|
المزاد العجيب
قال الإمام مسلم في صحيحه
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ بْنِ قَعْنَبٍ
، قال حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ يَعْنِي ابْنَ بِلَالٍ، عَنْ جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ
عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ : "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
مَرَّ بِالسُّوقِ دَاخِلًا مِنْ بَعْضِ الْعَالِيَةِ وَالنَّاسُ كَنَفَتَهُ
فَمَرَّ بِجَدْيٍ أَسَكَّ مَيِّتٍ فَتَنَاوَلَهُ فَأَخَذَ بِأُذُنِهِ
ثُمَّ قَالَ أَيُّكُمْ يُحِبُّ أَنَّ هَذَا لَهُ بِدِرْهَمٍ
فَقَالُوا مَا نُحِبُّ أَنَّهُ لَنَا بِشَيْءٍ وَمَا نَصْنَعُ بِهِ
قَالَ أَتُحِبُّونَ أَنَّهُ لَكُمْ قَالُوا وَاللَّهِ لَوْ كَانَ حَيًّا
كَانَ عَيْبًا فِيهِ لِأَنَّهُ أَسَكُّ
فَكَيْفَ وَهُوَ مَيِّتٌ
فَقَالَ فَوَاللَّهِ لَلدُّنْيَا أَهْوَنُ عَلَى اللَّهِ مِنْ هَذَا عَلَيْكُمْ " (1)
معاني المفردات
داخلا من بعض العالية: ناحية من نواحي المدينة
والناس كنفته: أي أحاطت به
بجدي أسك: (الجَدْي) : ولد الماعز
و(الأسكّ) : الذي ذهبَ أذنه
سواء من أصل الخلقة أو مقطوعها
تفاصيل الموقف
لا يكاد سوق يخلو من ( مزاد ) تُباع فيه السِلَع التجاريّة
وصورته لا تكاد تختلف من واحد لآخر
عناصره : رجلٌ يقف وسط جموع الناس يسوّق السلعة
من خلال ذكر خصائصها وميّزاتها
وسلعةٌ بين يديه تنتظر مشترياً لها
وتجّار يحيطون به يتبارون في الحصول على تلك السلعة
من خلال المزايدة في سعرها
ليستقرّ الأمر أخيراً على صاحب الرّقم الأعلى
هذا هو ما نعرفه عن هذا النشاط التجاري الذي بدأ منذ فجر التاريخ
لكنّ ما بين أيدينا (مزاد ) لا كغيره من المزادات
فالاختلاف يبدأ بالماثل بين يدي السلعة المعروضة
وهو سيد العالمين وأفضل الخلق أجمعين
ويمرّ بالجموع الذين يقفون من حوله
وهم صحابته رضوان الله عليهم
وينتهي بالسلعة التي كانت (وياللغرابة!)
جدي ميّت ناقص الخلقة، لا يُرتجى نفعه ولا يُنتظر خيره
في مشهدٍ تلفّه الدهشة وتكتنفه الحيرة
فما هي قصّة هذا المزاد وما حقيقته؟
سيزول العجب وتنقضي الغرابة عندما نعود
إلى الحديث الشريف الذي تناول هذا الموقف
والذي يبيّن أن النبي – صلى الله عليه وسلم
دخل السوق كعادته بين الحين والآخر
ليقضي الوقت في مقابلة الناس ومخالطتهم
والوقوف على أحوالهم المختلفة
يتخلّل ذلك تصحيح معاملاتهم وإرشادهم
وضبط سلوكهم التجاري
ولا تخلو زيارات النبي – صلى الله عليه وسلم
تلك من صحابة يلزمونه كظلّه، ويطوفون معه أينما دار
ليقتبسوا منه علماً جديداً، ورُشداً قويماً، وخلقاً كريما.
وبينما كانت هذه الكوكبة المباركة تسير وسط أحياء المدينة
إذ رأى النبي – صلى الله عليه وسلم
على قارعة الطريق "جدْياً" ميتاً ، نتن الرائحة
معيباً في أذنيه
فتهيّأ الصحابة رضي الله عنهم لمجاوزة هذه الجيفة
لكنّهم تفاجؤوا بوقوف النبي عليه الصلاة والسلام أمامها
وسرعان ما تحلّق الصحابة حول نبيّهم متسائلين في قرارة نفوسهم
عن السرّ في الوقوف أمام هذا الجسد الخاوي من الروح
والذي تشمئزّ النفوس من منظره والأنوف من رائحته
ولم يَطُل تساؤلهم كثيراً
فقد رأوا النبي – صلى الله عليه وسلم
يأخذ بأذن هذا الجَدْي
ثم يقول: ( أيكم يحب أن هذا له بدرهم؟ )
نظر الصحابة رضوان الله عليهم إلى بعضهم
ثم قالوا : "ما نحب أنه لنا بشيء، وما نصنع به؟"
ويكرّر النبي – صلى الله عليه وسلم
عرضه الغريب بألفاظ اختلفت قليلاً : ( أتحبون أنه لكم؟ )
فذكروا له من عيوب هذا الجدي
ما لو رأوه حيّاً لزهدوا فيه، فكيف وهو ميت؟
وهنا يكشف النبي – صلى الله عليه وسلّم
عن الغموض في لفتةٍ تربويّة عظيمة، تجسّد المعاني، وتُبرز الحقائق
وتعمّق في النفس معاني الزهد والتقليل
من شأن الدنيا : ( فوالله للدنيا أهون على الله من هذا عليكم )
إضاءات حول الموقف
يبيّن هذا الموقف العظيم مدى حرص
النبي – صلى الله عليه وسلم – على تحذير أصحابه
من خطر الدنيا والافتتان بها
وهو – فوق ذلك –
يُغذّي عقول الناس أن الحياة الصحيحة المستحقّة لألوان البذل
والتضحيّة إنما هي وراء هذه الحياة لا فيها
وأما ما كان قبل ذلك فهو غرور ووهم كما وصفها
الله تعالى في محكم كتابه :{وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلامَتَاعُ الْغُرُورِ }(2)
ولقد تنوّعت أساليب النبي – صلى الله عليه وسلّم
في تصوير حقيقة الدنيا والتحذير من زخرفها
فتارةً نراه يطرق حال الفقراء والأغنياء
في عرصات القيامة وما بعدها
يقول النبي – صلى الله عليه وسلم
(إِنَّ الْأَكْثَرِينَ هُمْ الْأَقَلُّونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ
إِلَّا مَنْ قَالَ هَكَذَا وَهَكَذَا وَهَكَذَا
عَنْ يَمِينِهِ وَعَنْ شِمَالِهِ وَمِنْ خَلْفِهِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ)(3)
وقال عليه الصلاة والسلام
( اطَّلَعْتُ فِي الْجَنَّةِ فَرَأَيْتُ أَكْثَرَ أَهْلِهَا الْفُقَرَاءَ)
وقال عليه الصلاة والسلام
قال الإمام الترمذي
حَدَّثَنَا مَحْمُودُ بْنُ غَيْلَانَ ، قالحَدَّثَنَا قَبِيصَةُ
قالحَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: " قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
يَدْخُلُ الْفُقَرَاءُ الْجَنَّةَ قَبْلَ الْأَغْنِيَاءِ بِخَمْسِ مِائَةِ عَامٍ نِصْفِ يَوْمٍ " (5) وصحّ عنه – صلى الله عليه وسلم قوله
قال الإمام البخاري في صحيحه
حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، قال حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ، أَخْبَرَنَا سُلَيْمَانُ التَّيْمِيُّ
عَنْ أَبِي عُثْمَانَ، عَنْ أُسَامَةَ: " عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قَالَ قُمْتُ عَلَى بَابِ الْجَنَّةِ
فَكَانَ عَامَّةُ مَنْ دَخَلَهَا الْمَسَاكِينَ
وَأَصْحَابُ الْجَدِّ مَحْبُوسُونَ غَيْرَ أَنَّ أَصْحَابَ النَّارِ
قَدْ أُمِرَ بِهِمْ إِلَى النَّارِ00"(6)
وتارة يمثّل النبي – صلى الله عليه وسلم
الدنيا لأصحابه بالأمثلة المعنويّة والحسّيّة التي ترسّخ في نفوسهم
حقارة الدنيا ودنوّها
وأنّها لا تساوي شيئا عند الله تعالى
ومن قبيل المعنوي: تشبيه النبي عليه الصلاة والسلام
للدنيا بالزهرة التي سرعان ما تذبل
وبالأرض اليانعة التي لا تلبث أن تفقد جمالها وألوانها
ومن جملة الشواهد على ذلك
قوله تعالى : { زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا}(7)
وقوله تعالى : {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا
كَمَاءٍ أَنْـزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ
فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ
وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا } (8)
وما صحّ عن النبي عليه الصلاة والسلام
من قوله : " قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
لَوْ كَانَتْ الدُّنْيَا تَعْدِلُ عِنْدَ اللَّهِ جَنَاحَ بَعُوضَةٍ
مَا سَقَى كَافِرًا مِنْهَا شَرْبَةَ مَاءٍ " (9)
ومن التمثيل الحسّي لحقيقة الدنيا الموقف الذي بين يدينا
ومن نسمات عبير هذا الموقف النبوي
أن نلحظ كيف كان النبي – صلى الله عليه وسلّم
ينوّع في أساليبه الوعظيّة والتربويّة فلا يقف فيها عند نمطٍ واحد
بل هو تجديد يُراد به إشعار النفس بالفكرة المطلوبة
بطريقة عمليّة واضحة
وهو الأمر الذي يحتاجه الدعاة والمصلحون
لإيصال رسالتهم وتحقيق أهدافهم
هنا
أفتان يا معاذ؟
يتــــــبع
***
(1)صحيح مسلم - الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر
رقم5257 2957
***
(2)(آل عمران 185)
***
(3)فتح الباري شرح صحيح البخاري - كِتَاب الرِّقَاقِ
باب قول النبي صلى الله عليه وسلم
ما أحب أن لي مثل أحد ذهبا
رقم6079
***
(4)صحيح البخاري - كِتَاب بَدْءِ الْخَلْقِ
باب إذا مات أحدكم فإنه يعرض عليه مقعده بالغداة والعشي
رقم3069
***
(5)سنن الترمذي - كِتَاب الزُّهْدِ
عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
باب اللهم أحيني مسكينا وأمتني مسكينا
واحشرني في زمرة المساكين يوم القيامة
رقم 2353
***
(6)صحيح البخاري - كِتَاب الرِّقَاقِ
باب اطلعت في الجنة فرأيت أكثر أهلها الفقراء
واطلعت في النار فرأيت أكثر أهلها النساء
رقم 6181
***
(7)(طه:131) - (8)(الكهف:45)
***
(9)الراوي: سهل بن سعد الساعدي المحدث: الألباني
المصدر: صحيح الترمذي - الصفحة أو الرقم: 2320
خلاصة حكم المحدث: صحيح
|
|
|