عرض مشاركة واحدة
قديم 01-08-12, 02:29 PM   #7
حياة بنت عبد السلام
~مستجدة~
 
تاريخ التسجيل: 24-12-2011
المشاركات: 12
حياة بنت عبد السلام is on a distinguished road
افتراضي

الكتاب الثاني : : كتاب القضاء ::


القضاء: بالمدّ الولاية المعروفة وهو في اللغة: مشترك بين أحكام الشيء والفراغ منه، ومنه {فقضاهن سبع سماوات} وبمعنى إمضاء الأمر ومنه {وقضينا الى بني إسرائيل} وبمعنى الحتم والإلزام ومنه: {وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إيّاه}.
وفي الشرع: إلزام ذي الولاية بعد الترافع؛ وقيل: هو الإكراه بحكم الشرع في الوقائع الخاصة لمعين أو جهة، والمراد بالجهة كالحكم لبيت المال أو عليه.

وفيه ابواب :

باب القضاء
باب الشهادات
باب الدعاوى البينات



الاول :

باب القضاء

عَنْ بريدةَ رضي الله عنهُ قال: قال رسولُ اللّهِ صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "القضاة ثلاثةٌ: اثنان في النّار وواحد في الجنّةِ: رجلٌ عَرَفَ الحقَّ فقضى بهِ فهوَ في الجنّةِ، ورجلٌ عرف الحقَّ فلم يقضِ بهِ وجارَ في الحكم فهُوَ في النّار، ورجلٌ لمْ يعْرف الحقَّ فقضى للناس على جَهْل فَهُوَ في النّار" رواهُ الأربعةُ وصحّحهُ الحاكمُ.

(عن بريدة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "القُضاة ثلاثةٌ: اثنان في النار وواحدٌ في الجنة) وكأنه قيل: من هم؟ فقال: (رجلٌ عرفَ الحق فقضى به فهو في الجنة، ورجلٌ عرف الحقَّ فلم يقضِ به وجار في الحكم فهو في النّار، ورجلٌ لمْ يعرف الحقَّ فقضى للنّاس على جهْلٍ فهو في النّار" رواه الأربعة وصححه الحاكم).

وقال في علوم الحديث: تفرّد به الخراسانيون وروته مراوزة، قال المصنف: له طرق غير هذه جمعتها في جزء مفرد.
والحديث دليل على أنه لا ينجو من النار من القضاء إلا من عرف الحق وعمل به، والعمدة العمل، فإن من عرف الحق ولم يعمل به فهو ومن حكم بجهل سواء في النار.

وظاهره أن من حكم بجهل وإن وافق حكمه الحق فإنه في النار، لأنه أطلقه وقال: "فقضى للناس على جهل" فإنه يصدق على من وافق الحق وهو جاهل في قضائه ــــ أنه قضى على جهل، وفيه التحذير من الحكم بجهل، أو بخلاف الحق مع معرفته به.

والذي في الحديث أن الناجي من قضى بالحق عالمً به، والإثنان الآخران في النار، وفيه أنه يتضمن النهي عن تولية الجاهل القضاء.

قال في مختصر شرح السنّة: إنه لا يجوز لغير المجتهد أن يتقلد القضاء ولا يجوز للإمام توليته،

قال: والمجتهد من جمع خمسة علوم: علم كتاب الله،

وعلم سنّة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم،

وأقاويل علماء السلف من إجماعهم واختلافهم.

وعلم اللغة،

وعلم القياس. وهو طريق استنباط الحكم من الكتاب والسنّة إذا لم يجده صريحاً في نص كتاب أو سنة أو إجماع،

فيجب أن يعلم من علم الكتاب الناسخ والمنسوخ، والمجمل والمفسر، والخاص والعام، والمحكم والمتشابه، والكراهة والتحريم، والإباحة والندب، ويعرف من السنّة هذه الأشياء،

ويعرف منها الصحيح والضعيف والمسند والمرسل،

ويعرف ترتيب السنة على الكتاب، وبالعكس،

حتى إذا وجد حديثاً لا يوافق ظاهره الكتاب اهتدى إلى وجه محمله، فإن السنة بيان للكتاب فلا تخالفه، وإنما تجب معرفة ما ورد منها من أحكام الشرع دون ما عداها من القصص والأخبار والمواعظ.

وكذا يجب أن يعرف من علم اللغة ما أتى في الكتاب والسنّة من أمور الأحكام دون الإحاطة بجميع لغات العرب؛ ويعرف أقاويل الصحابة والتابعين في الأحكام، ومعظم فتاوى فقهاء الأمة، حتى لا يقع حكمه مخالفاً لأقوالهم، فيأمن فيه خرق الإجماع، فإذا عرف كل نوع من هذه الأنواع فهو مجتهد وإذا لم يعرفها فسبيله التقليد ا هــــ.

-----------------------------

وعَنْهُ رضي الله عنهُ قال: قالَ رسولُ اللّهِ صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "إنّكم ستحرصُون على الإمارة وستكونُ ندامة يوْمَ القيامة، فَنِعْمَت المرضعة وبئستِ الفاطمةُ" رواهُ البخاريُّ.

(وعنه) أي أبي هريرة رضي الله عنه (قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "إنّكم ستحرصون على الإمارة) عام لكل إمارة من الإمامة العظمى إلى أدنى إمارة ولو على واحد (وستكون ندامة يوم القيامة فنعْم المُرضعة) أي في الدنيا (وبئست الفاطمة") أي بعد الخروج منها (رواه البخاري).

قال الطيبي: تأنيث الإمارة غير حقيقي فترك تأنيث "نعم" وألحقه ببئس نظراً إلى كون الإمارة حينئذٍ داهية دهياء، وقال غيره: أنث في لفظ وتركه في لفظ للافتتان وإلا فالفاعل واحد.

وأخرج الطبراني والبزار بسند صحيح من حديث عوف بن مالك بلفظ: "أولها: ملامة، وثانيها: ندامة، وثالثها: عذاب يوم القيامة، إلا من عدل" وأخرج الطبراني من حديث زيد بن ثابت يرفعه "نعم الشيء الإمارة لمن أخذها بحقها وحلها، وبئس الشيء الإمارة لمن أخذها بغير حقها تكون عليه حسرة يوم القيامة" وهذا يقيد ما أطلق فيما قبله.

وقد أخرج مسلم من حديث أبي ذرّ قال: قلت: يا رسول الله ألا تستعملني قال: "إنك ضعيف وإنها أمانة وإنها يوم القيامة خزي وندامة إلا من أخذها بحقها وأدّى الذي عليه فيها".

قال النووي: هذا أصل عظيم في اجتناب الولاية لا سيما لمن كان فيه ضعف، وهو في حق من دخل فيها بغير أهلية ولم يعدل فإنه يندم على ما فرط فيه إذا جوزي بالجزاء يوم القيامة، وأما من كان أهلاً لها وعدل فيها فأجره عظيم، كما تضافرت به الأخبار، ولكن في الدخول فيها خطر عظيم، ولذلك امتنع الأكابر منها، فامتنع الشافعي لما استدعاه المأمون لقضاء الشرق والغرب. وامتنع منه أبو حنيفة لما استدعاه المنصور فحبسه وضربه، والذين امتنعوا من الأكابر جماعة كثيرون. وقد عدّ في النجم الوهاج جماعة.

(تنبيه): في قوله: "ستحرصون" دلالة على محبة النفوس للإمارة لما فيها من نيل حظوظ الدنيا ولذاتها ونفوذ الكلمة،
ولذا ورد النهي عن طلبها كما أخرج الشيخان أنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم قال لعبد الرحمن: "لا تسأل الإمارة فإنك إن أعطيتها عن مسألة وكلت إليها، وإن أعطيتها عن غير مسألة أعنت عليها" وأخرج أبو داود والترمذي عنه صلى الله عليه وآله وسلم "من طلب القضاء واستعان عليه بالشفعاء وكل إليه، ومن لم يطلبه ولم يستعن عليه أنزل الله ملكاً يسدّده"

وفي صحيح مسلم أنه صلى الله عليه وآله وسلم قال: "و الله إنا لا نولي هذا الأمر أحداً سأله ولا أحداً حرص عليه" حرص بفتح الراء قال الله تعالى: {وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين} ( يوسف 103 )

ويتعين على الإمام أن يبحث عن أرضى الناس وأفضلهم فيوليه، لما أخرجه الحاكم والبيهقي أن النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم قال: "من استعمل رجلاً على عصابة وفي تلك العصابة من هو أرضى لله تعالى منه فقد خان الله ورسوله وجماعة المسلمين"،
وإنما نهى عن طلب الإمارة لأن الولاية تفيد قوة بعد ضعف، وقدرة بعد عجز تتخذها النفس المجبولة على الشر وسيلة إلى الانتقام من العدو، والنظر للصديق. وتتبع الاغراض الفاسدة ولا يوثق بحسن عاقبتها. ولا سلامة مجاورتها فالأولى أن لا تطلب ما أمكن.

وإن كان قد أخرج أبو داود بإسناد حسن عنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم"من طلب قضاء المسلمين حتى يناله. فغلب عدله جوره فله الجنة ومن غلب جوره عدله فله النار".
----------------------------------------
ـــ وعن عمرو بن العاص رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم يقول: إذا حَكَمَ الحَاكِمُ فاجْتَهَدَ ثمَّ أصَابَ فلَهُ أَجران، وإذا حَكَمَ فاجتهدَ ثمَّ أخطأَ فلهُ أجر" متَّفق عليه.

وعن عمرو ابن العاص أنه سمع رسول لله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم يقول أذا حكم الحاكم أي إذا أراد الحكم لقوله: فاجتهد فإن الاجتهاد قبل الحكم، ثم أصاب فله أجران فإذا حكم واجتهد ثم أخطأ أي لم يوافق ما هو عند الله تعالى من الحكم، [فله أجر. متفق عليه]

الحديث من أدلة القول بأن الحكم عند الله في كل قضية واحد معين قد يصيبه من أعمل فكره وتتبع الأدلة ووفقه الله فيكون له أجران: أجر الاجتهاد، وأجر الإصابة. والذي له أجر واحد هو من اجتهد فأخطأ فله أجر الاجتهاد.

واستدلوا بالحديث على أنه يشترط أن يكون الحاكم مجتهداً. قال الشارح وغيره وهو المتمكن من أخذ الأحكام من الأدلة الشرعية

قال: ولكنه يعز وجوده بل كاد يعدم بالكلية ومع تعذره فمن شرطه أن يكون مقلداً مجتهداً في مذهب إمامه. ومن شرطه أن يتحقق أصول إمامه وأدلته، وينزل أحكامه عليها فيما لم يجده منصوصاً من مذهب إمامه اهـ.

قلت: ولا يخفى ما في هذا الكلام من البطلان. وإن تطابق عليه الأعيان وقد بينا بطلان دعوى تعذّر الاجتهاد في رسالتنا المسماة بإرشاد النقاد إلى تيسير الاجتهاد بما لا يمكن دفعه وما أرى هذه الدعوى التي تطابقت عليها الأنظار إلا من كفران نعمة الله عليهم

فإنهم ــــ أعني المدّعين لهذه الدعوى والمقرّرين لها ــــ مجتهدون يعرف أحدهم من الأدلة ما يمكنه بها الاستنباط مما لم يكن قد عرفه عتاب بن أسيد قاضي رسول الله صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم على مكة ولا أبو موسى الأشعري قاضي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في اليمن ولا معاذ بن جبل قاضيه فيها وعامله عليها ولا شريح قاضي عمر وعلي رضي الله عنهم على الكوفة.


ويدل لذلك قول الشارح: فمن شرطه أي المقلد أن يكون مجتهداً في مذهب إمامه وأن يتحقق أصوله وأدلته أي ومن شرطه أن يتحقق أصول إمامه وأدلته وينزل أحكامه عليها فيما لم يجده منصوصاً من مذهب إمامه، فإن هذا هو الاجتهاد الذي حكم بكيدودة عدمه بالكلية وسماه متعذراً، فهلا جعل هذا المقلد إمامه كتاب الله وسنّة رسول الله صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم عوضاً عن إمامه وتتبع نصوص الكتاب والسنّة عوضاً عن تتبع نصوص إمامه، والعبارات كلها ألفاظ دالة على معانٍ فهلا استبدل بألفاظ إمامه ومعانيها ألفاظ الشارع ومعانيها ونزل الأحكام عليها إذا لم يجد نصاً شرعياً عوضاً عن تنزيلها على مذهب إمامه فيما لم يجده منصوصاً؟.


تالله لقد استبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير، من معرفة الكتاب والسنّة إلى معرفة كلام الشيوخ والأصحاب وتفهم مرامهم، والتفتيش عن كلامهم. ومن المعلوم يقيناً أن كلام الله تعالى وكلام رسوله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم أقرب إلى الأفهام وأدنى إلى إصابة المرام فإنه أبلغ الكلام بالإجماع، وأعذبه في الأفواه والأسماع وأقربه إلى الفهم والانتفاع ولا ينكر هذا إلا جلمود الطباع ومن لاحظ له في النفع والانتفاع.


والأفهام التي فهم بها الصحابة الكلام الإلهي والخطاب النبوي هي كأفهامنا وأحلامهم كأحلامنا، إذ لو كانت الأفهام متفاوتة تفاوتاً يسقط معه فهم العبارات الإلهية، والأحاديث النبوية لما كنا مكلفين ولا مأمورين ولا منهيين لا اجتهاداً ولا تقليداً؛ أما الأول فلاستحالته، وأما الثاني فلأنا لا نقلد حتى نعلم أنه يجوز لنا التقليد، ولا نعلم ذلك إلا بعد فهم الدليل من الكتاب والسنّة على جوازه لتصريحهم بأنه لا يجوز التقليد في جواز التقليد، فهذا الفهم الذي فهمنا به هذا الدليل نفهم به غيره من الأدلة من كثير وقليل، على أنه قد شهد المصطفى صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم بأنه يأتي من بعده من هو أفقه ممن في عصره وأوعى لكلامه حيث قال "فرب مبلغ أفقه من سامع" وفي لفظ "أوعى له من سامع" والكلام قد وفينا حقه في الرسالة المذكورة.


ومن أحسن ما يعرفه القضاة كتاب عمر رضي الله عنه الذي كتبه إلى أبي موسى الذي رواه أحمد والدارقطني والبيهقي قال الشيخ أبو إسحاق: هو أجل كتاب، فإنه بين آداب القضاة وصفة الحكم وكيفية الاجتهاد واستنباط القياس.


ولفظه "أما بعد فإن القضاء فريضة محكمة وسنّة متبعة؛ فعليك بالعقل والفهم وكثرة الذكر، فافهم إذا أدلى إليك الرجل الحجة، فاقضِ إذا فهمت وامضِ إذا قضيت. فإنه لا ينفع تلكم بحق لا نفاذ له. آس بين الناس في وجهك ومجلسك وقضائك، حتى لا يطمع شريف في حيفك، ولا ييأس ضعيف من عدلك. البينة على المدعي واليمين على من أنكر، والصلح جائز بين المسلمين إلا صلحاً أحل حراماً، أو حرّم حلالاً. ومن ادّعى حقاً غائباً أو بينة فاضرب له أمداً ينتهي إليه فإن جاء ببينة أعطيته حقه، وإلا استحللت عليه القضية، فإن ذلك أبلغ في العذر وأجلى للعمى.


ولا يمنعك قضاء قضيت فيه اليوم فراجعت فيه عقلك وهديت فيه لرشدك أن ترجع إلى الحق، فإن الحق قديم، ومراجعة الحق خير من التمادي في الباطل.
الفهم الفهم فيما يختلج في صدرك مما ليس في كتاب الله وسنّة رسوله صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم، ثم اعرف الأشباه والأمثال وقس الأمور عند ذلك واعمد إلى أقربها إلى الله تعالى وأشببها بالحق.


المسلمون عدول بعضهم على بعض، إلا مجلوداً في حدّ، أو مجرّباً عليه شهادة زور، أو ظنيناً في ولاء أو نسب أو قرابة، فإن الله تعالى تولى منكم السرائر، وادرأ بالبينات، والأيمان، وإياك والغضب والقلق والضجر والتأذّي بالناس عند الخصومة، والتنكر عند الخصومات، فإن القضاء عند مواطن الحق يوجب الله تعالى به الأجر ويحسن به الذكر. فمن خلصت نيته في الحق ولو على نفسه كفاه الله تعالى ما بينه وبين الناس، ومن تخلق للناس بما ليس في قلبه شانه الله تعالى، فإن الله لا يقبل من العباد إلا ما كان خالصاً. فما ظنك بثواب من الله في عاجل رزقه، وخزائن رحمته والسلام" ا هــــ.

ولأمير المؤمنين عليّ عليه السلام في عهد عهده إلى الأشتر لما ولي مصر فيه عدة مصالح وآداب ومواعظ وحكم وهو معروف في النهج لم أنقله لشهرته.

وقد أخذ من كلام عمر رضي الله عنه أنه ينقض القاضي حكمه إذا أخطأ ويدل له ما أخرجه الشيخان من حديث أبي هريرة أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "بينما امرأتان معهما ابناهما جاء الذئب فذهب بابن إحداهما، فقالت هذه لصاحبتها: إنما ذهب بابنك وقالت الأخرى: إنما ذهب بابنك، فتحاكمتا إلى داود عليه السلام فقضى به للكبرى، فخرجتا إلى سليمان فأخبرتاه فقال: ائتوني بالسكين أشقه بينكما نصفين فقالت الصغرى: لا تفعل يرحمك الله هو ابنها فقضى به للصغرى".
وللعلماء قولان في المسألة: قول إنه ينقضه إذا أخطأ، والآخر لا ينقضه لحديث "وإن أخطأ فله أجر". قلت: ولا يخفى أنه لا دليل فيه لأن المراد أخطأ ما عند الله وما هو في نفس الأمر من الحق، وهذا الخطأ لا يعلم إلا يوم القيامة أو بوحي من الله تعالى. والكلام في الخطأ الذي يظهر له في الدنيا من عدم استكمال شرائط الحكم أو نحوه.

---------------------------------------

وعنْ أبي بكرة رضي الله عنهُ قالَ: سمعتُ رسولَ اللّهِ صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم يَقُولُ: "لا يحْكُمْ أَحَدٌ بَيْنَ اثنَيْنِ وهُو غَضْبانُ" مُتّفق عليه.

النهي ظاهر في التحريم، وحمله الجمهور على الكراهة،

وترجم النووي في شرح مسلم له: بباب كراهة قضاء القاضي وهو غضبان،

وترجم البخاري: بباب هل يقضي القاضي أو يفتي المفتي وهو غضبان؟ وصرح النووي بالكراهة في ذلك.

وإنما حملوه على الكراهة نظراً إلى العلة المستنبطة لذلك، وهي أنه لما رتب النهي على الغضب والغضب بنفسه لا مناسبة فيه لمنع الحكم، وإنما ذلك لما هو مظنة لحصوله، وهو تشويش الفكر ومشغلة القلب عن استيفاء ما يجب من النظر وحصول هذا قد يفضي إلى الخطأ عن الصواب.

ولكنه غير مطرد مع كل غضب ومع كل إنسان، فإن أفضى الغضب إلى عدم تمييز الحق من الباطل فلا كلام في تحريمه، وإن لم يفضِ إلى هذا الحدّ فأقل أحواله الكراهة.
وظاهر الحديث أنه لا فرق بين مراتب الغضب، ولا بين أسبابه، وخصه البغوي وإمام الحرمين بما إذا كان الغضب لغير الله، وعلل: بأن الغضب لله يؤمن معه من التعدّي، بخلاف الغضب للنفس، واستبعده جماعة لمخالفته لظاهر الحديث والمعنى الذي لأجله نهي عن الحكم معه.

ثم لا يخفى أن الظاهر في النهي التحريم، وأن جَعْل العلة المستنبطة صارفة إلى الكراهة بعيد.

وأما حكمه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم مع غضبه في قصة الزبير فلما علم من أن عصمته مانعة عن إخراج الغضب له عن الحق، ثم الظاهر أيضاً عدم نفوذ الحكم مع الغضب، إذ النهي يقتضي الفساد. والتفرقة بين النهي للذات والنهي للوصف كما يقوله الجمهور غير واضح كما قرر في غير هذا المحل.

وقد ألحق بالغضب الجوع والعطش المفرطان، لما أخرجه الدارقطني والبيهقي بسند تفرد به القاسم العمري وهو ضعيف عن أبي سعيد الخدري أن النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم قال: "لا يقضي القاضي إلا وهو شبعان ريان" وكذلك ألحق به كل ما يشغل القلب ويشوش الفكر من غلبة النعاس أو الهم أو المرض أو نحوها.
------------------

وعنْ أُمِّ سَلَمة رضي اللّهُ عنها قالت: قال رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "إنكمْ تختصمُون إليَّ ولعلَّ بعضكمْ أنْ يكونَ أَلحنَ بحُجّتِهِ منْ بعض فأقضي له على نحو ما أَسْمع مِنْهُ، فَمَنْ قَطَعْت لهُ منْ حق أَخيه شيئاً فإنما أَقطعُ لهُ قطعةً من النّار" مُتّفقٌ عليه.

(وعن أم سلمة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "إنكم تختصمون إليَّ فَلَعَلَّ بعضكمْ أَن يكون أَلحنَ بحجته منْ بعض فأَقضي لهُ على نحو ما أسمع منْهُ، فمنْ قطعتُ لهُ منْ حقِّ أَخيه شيئاً) زاد في رواية: "فلا يأخذه" رواه ابن كثير في الإرشاد (فإنما أَقطع لهُ قطعة من النار" متفق عليه).

اللحن: هو الميل عن جهة الاستقامة، والمراد أن بعض الخصماء يكون أعرف بالحجة وأفطن لها من غيره.

وقوله: "على نحو ما أسمع" من الدعوى والإجابة والبينة أو اليمين، وقد تكون باطل في نفس الأمر فيقطع من مال أخيه قطعة من نار، باعتبار ما يؤول إليه من باب {إنما يأكلون في بطونهم ناراً}.( النساء 10 )

والحديث دليل على أن حكم الحاكم لا يحل به للمحكوم له ما حكم له به على غيره إذا كان ما ادعاه باطلاً في نفس الأمر، وما أقامه من الشهادة كاذباً؛ وأما الحاكم فيجوز له الحكم بما له والإلزام به. وتخليص المحكوم عليه مما حكم به لو امتنع وينفذ حكمه ظاهراً، ولكنه لا يحل به الحرام إذا كان المدعي مبطلاً وشهادته كاذبة. وإلى هذا ذهب الجمهور.

وخالف أبو حنيفة فقال: إنه ينفذ ظاهراً وباطناً وأنه لو حكم الحاكم بشهادة زور أن هذه المرأة زوجة فلان حلت له، واستدل بآثار لا يقوم بها دليل، وبقياس لا يقوى على مقاومة النص.

وفي الحديث دليل أنه صلى الله عليه وآله وسلم يقر على الخطأ، وقد نقل الاتفاق عن الأصوليين أنه لا يقرّ فيما حكم فيه باجتهاده بناءً على جواز الخطأ في الأحكام.

وجمع بين اتفاقهم وما أفاده الحديث: بأن مرادهم أنه لا يقر فيما حكم فيه باجتهاده بناءً على جواز الخطأ عليه فيه، وذلك كقصة أسارى بدر والإذن للمتخلفين.

وأما الحكم الصادر عن الطريق التي فرضت كالحكم بالبينة أو يمين المحكوم عليه فإنه إذا كان مخالفاً للباطن لا يسمى الحكم به خطأ بل هو صحيح، لأنه على وفق ما وقع به التكليف من وجوب العمل بالشاهدين، وإن كانا شاهدي زور فالتقصير منهما.

أما الحاكم فلا حيلة له في ذلك ولا عتب عليه بسببه. بخلاف ما إذا أخطأ في الاجتهاد الذي وقع الحكم على وفقه، مثل أن يحكم بأن الشفعة مثلاً للجار وكان الحكم في ذلك في علم الله أنها لا تثبت إلا للخليط، فإنه إذ كان مخالفاً للحق الذي في علم الله فيثبت فيه الخطأ للمجتهد على من يقول الحق مع واحد وهذا هو الذي تقدم أنه إذا أخطأ كان له أجر.

واستدل بالحديث على أنه لا يحكم الحاكم بعلمه لأنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم كان يمكنه اطلاعه على أعيان القضايا مفصلاً، كذا قاله ابن كثير في الإرشاد قلت: وفيه تأمل لأنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم إنما أخبر أنه يحكم على نحو ما يسمع ولم ينفِ أنه يحكم بما علم، والتعليل بقوله: "فإنما أقطع له قطعة من النار" دال على أن ذلك في حكمه بما يسمع، فإذا حكم بما علمه فلا تجري فيه العلة.

------------------------------------------

وعنْ أَبي مريم الأزديِّ رضي الله عنه عنِ النّبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم قال: "منْ ولاه الله شيئاً من أَمور المسلمين فاحتجب عن حاجتهم وفقيرهمْ احتجب الله دونَ حاجتهِ" أخرجه أبو داودَ والترمذيُّ.

(وعن أبي مريم الأزدي رضي الله عنه) هو صحابي اسمه عمرو بن مرة الجهني روى عنه ابن عمه أبو الشماخ وأبو المعطل وغيرهما (عن النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم قال: "من ولاهُ الله شيئاً من أَمور المسلمين فاحتجب عن حاجتهم وفقيرهم احْتجب الله دونَ حاجته". أخرجه أبو داود والترمذي).

ولفظه عند الترمذي: "ما من إمام يغلق بابه دون ذوي الحاجة والخلة والمسكنة إلا أغلق الله أبواب السماء دون خلته وحاجته ومسكنته" وأخرجه الحاكم عن أبي مخيمرة عن أبي مريم وله قصة مع معاوية. وذلك أنه قال لمعاوية: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: "من ولاه الله ــــ الحديث" فجعل معاوية رجلاً على حوائج المسلمين. ورواه أحمد من حديث معاذ بلفظ "من ولي من أمور المسلمين شيئاً فاحتجب عن أولي الضعف والحاجة احتجب الله تعالى عنه يوم القيامة" ورواه الطبراني في الكبير من حديث ابن عباس بلفظ "أيما أمير احتجب عن الناس فأهملهم احتجب الله تعالى عنه يوم القيامة" وقال ابن أبي حاتم عن أبيه في هذا الحديث منكر.

وأخرج الطبراني برجال ثقات إلا شيخه ــــ فإنه قال المنذري: لم يقف فيه على جرح ولا تعديل ــــ من حديث أبي جحيفة أنه قال لمعاوية: سمعت من رسول الله صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم حديثاً أحببت أن أضعه عندك مخافة أن لا تلقاني: سمعت رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم يقول: "يا أيها الناس من ولي منكم عملا فحجب بابه عن ذي حاجة للمسلمين حجبه الله أن يلج باب الجنة، ومن كانت همته الدنيا حرّم الله عليه جواري فإني بعثت بخراب الدنيا ولم أبعث بعمارتها".

والحديث دليل على أنه يجب على من ولي أمراً من أمور عباد الله أن لا يحتجب عنهم، أن يسهل الحجاب، ليصل إليه ذو الحاجة من فقير وغيره، وقوله: "احتجب الله عنه" كناية عن منعه له من فضله وعطائه ورحمته.

---------------------------------------

أبي هُريرة رضي الله عنهُ قال: "لعن رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم الرَّاشي والمرتشي في الحكم" رواهُ أَحمد والأربعة وحسّنهُ الترمذي وصحّحه ابنُ حِبّان.
(وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال:"لعن رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم الراشي والمُرْتشي) في النهاية: الراشي من يعطي الذي يعينه على الباطل. والمرتشي الآخذ (في الحكم" رواه أحمد والأربعة وحسنه الترمذي وصححه ابن حبان).


وزاد أحمد "والرائش هو الذي يمشي بينهما" وهو السفير بين الدافع والآخذ، وإن لم يأخذ على سفارته أجراً، فإن أخذ فهو أبلغ.
ولهُّ شاهدٌ منْ حديث عبد الله بن عمرو عِنْدَ الأربعةِ إلا النسائي.
إلا أنه لم يذكر فيه لفظ "في الحكم" وكذا في رواية أبي داود لم يذكرها إنما زادها في رواية الترمذي.

والرشوة حرام بالإجماع سواء كانت للقاضي أو للعامل على الصدقة أو لغيرهما. وقد قال تعالى: {ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل وتدلوا بها الى الحكام لتأكلوا فريقاً من أموال الناس بالإثم وأنتم تعلمون}( البقره 188 ) وحاصل ما يأخذه القضاة من الأموال على أربعة أقسام رشوة وهدية وأجرة ورزق.

فالأول: الرشوة

إن كانت ليحكم له الحاكم بغير حق؛ فهي حرام على الآخذ والمعطي، وإن كانت ليحكم له بالحق على غريمه فهي حرام على الحاكم دون المعطي، لأنها لاستيفاء حقه، فهي كجعل الآبق وأجرة الوكالة على الخصومة، وقيل: تحرم لأنها توقع الحاكم في الإثم.

وأما الهدية، وهي الثاني:

فإن كانت ممن يهاديه قبل الولاية فلا تحرم استدامتها، وإن كان لا يهدى إليه إلا بعد الولاية فإن كانت ممن لا خصومة بينه وبين أحد عنده جازت وكرهت، وإن كانت ممن بينه وبين غريمه خصومة عنده فهي حرام على الحاكم والمهدي. ويأتي فيه ما سلف في الرشوة على باطل أو حق.

وأما الأجرة وهي الثالث:

فإن كان للحاكم جراية من بيت المال ورزق حرمت بالاتفاق، لأنه إنما أجري له الرزق لأجل الاشتغال بالحكم، فلا وجه للأجرة، وإن كان لا جراية له من بيت المال جاز له أخذ الأجرة على قدر عمله ــــ غير حاكم ــــ فإن أخذ أكثر مما يستحقه حرم عليه، لأنه إنما يعطى الأجرة لكونه عمل عملا لا لأجل كونه حاكماً؛ فأخذه لما زاد على أجرة مثله غير حاكم إنما أخذها لا في مقابلة شيء بل في مقابلة كونه حاكماً ولا يستحق لأجل كونه حاكماً شيئاً من أموال الناس اتفاقاً، فأجرة العمل أجرة مثله، فأخذ الزيادة على أجرة مثله حرام، ولذا قيل: إن تولية القضاء لمن كان غنياً أولى من تولية من كان فقيراً.

وذلك لأنه لفقره يصير متعرّضاً لتناول ما لا يجوز له تناوله إذا لم يكن له رزق من بيت المال.
قال المصنف: لم ندرك في زماننا هذا من يطلب القضاء إلا وهو مصرح بأنه لم يطلبه إلا لاحتياجه إلى ما يقوم بأوده، مع العلم بأنه لا يحصل له شيء من بيت المال ا هــــ.
حياة بنت عبد السلام غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس