الحاجة إلى اللغة العربية:
إنّ اللغة والنحو لمن أجلِّ الأمور التي يجب أن يحرص عليها قارئ القرآن الكريم، إذ أنّ القرآن
نزل بلسان عربي مبين، والعرب لهم سنن في كلامهم وبيانهم، فلغتهم أفصح اللغات وأوسعها وأحفلها بالمعاني، واللّغة العربية لغة معرَبة أي فيها علامات إعراب ، ومن ثمّ كان لازما على المتكلِّم بها معرفة علامات الإعراب حتى لايقع في اللّحن(5) المعيب الجليِّ، وإذا كان اللحن معيبا في كلام العرب، فكيف باللّحن في كتاب الله تعالى؟! ولهذا كان لزاما على قارئ القرآن أن يتعلّم من النّحو مايصلح لسانه(6).
وقد وردت آثار عديدة في الحثِّ على تعلُّمها والحرص على طلبها، فمن ذلك جاء عن عمر رضي الله عنه في كتابه لأبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال:
"أمّا بعد، فتفقهوا في السُّـنَّة وتفقهوا في العربية"(7).
وقال الإمام أبو الحسن علي بن عبد الغنيِّ الحُصري(ت488هـ)(8):
وأحسِنْ كلام العُرْب إن كنت مقرئـًا *** وإلاّ فتخـطي حين تقـرأ أو تُقـرئ
لقد يدَّعي علــم القـراءة معشـر *** وباعُهُم في النَّحو أقصـر من شـبـر
فإن قيـل: مـاإعـراب هذا ووزنُه *** رأيت طويل الباع يقصر عن فتِـــر
وقال الحافظ الدّاني-في صفات من يُؤخذ عنهم العلم- (9):
وفَهــم اللـغـاتِ والإعـرابـا *** وعَـلِم الخــطأ والصَّـوابـــا
وقد نوَّه الإمام مكِّي بن طالب القيسي رحمه الله (ت437 هـ)بذلك فقال:
"... ومن كمال حال طالب القرآن أن يعرف الإعراب وغريب القرآن فذلك ممّا يسهِّل عليه معرفة معنى مايقرأ، ويزيل عنه الشَّكَّ في إعراب مايتلو"(10).
قال العلامة الأندرابي رحمه الله (ت470هـ):
"... فواجب على قرّاء القرآن أن يأخذوا أنفسهم بالاجتهاد في طلب العربيّة وتعلُّم الإعراب"(11).
فالتّوسع في علم العربية يوصل إلى حقيقـة معرفة النطق بالحـرف على حـدِّ كلام العرب، وبـه يوصَـل إلى معرفة الوقف والابتداء، وبه يُعرف وجه قراءة كلِّ قارئ(12).
ويتمكن المقرئ بذلك من بيان معنى الآية التي قرئت بأكثر من وجه وتفسيرها، والدِّفاع عن القراءات القرآنية بالكشف عن وجهها، وبيان صـحَّتها وسـلامتها، والرَّدِّ على من تأوّل من أهل القبلة، فطعن في القراءة لمخالفتها القياس والنظر عنده، والرّدِّ كذلك على من ألحد ممّن قصد التشكيك في القراءات ليصل بذلك إلى الطعن في القرآن.
فحريٌّ بطالب القراءات أن يمكِّن نفسه بدراسة فنون اللُّغة العربيّة، فيدرس نظمًا أو مؤلّفًـا في كلِّ فنٍّ، كـ
((الآجـروميَّة)) في النّحـو، و
((لاميّة الأفعال)) في الصّرف و
((الجوهـر المكنـون)) في البلاغة، ليظفر بحقيقة إعراب الحـروف ، وتراكيب الجمل والألفاظ، ويوظِّف ذلك في خدمة القراءات القرآنية، كما له أن ينهل من كتب النحو واللُّغة كـ
((الكاتب)) لسيبويه، و
((مغني اللّبيب)) لابن هشام، وكتب معاني القرآن كـ
((معاني القرآن)) للفرّاء، وكتب إعرابه كـ
((إعراب القرآن)) لأبي جعفر النَّحَّاس ، وكتب التّفسيـر كـ
((تفسير)) الطـبري، والسّمين الحلبي وغيرهما، ففيها جملة وافرة من توجيه القراءات والاحتجاج لها، يتبلّغ بها اللُّغويُّون إلى الاستشهاد على بعض قواعدهم، أو إلى ترجيح وجه لغويٍّ على آخر، ويستعين بها المفسرون على بيان المعاني التي تتضمنها الآيات(13).
حتى إنّ الناظر في كتب المعاجم اللُّغوية لايحرم من توجيه وبيان للقراءات القرآنية كمعجم
((مفردات ألفاظ القرآن))للأصفهاني و
((لسان العرب)) لابن منظور، ممّا يدل على اهتمام أهل اللُّغة والتّفسير بالنَّصِّ القرآني المنزَّل على النّبي الأمِّيِّ صلى الله عليه وسلم.
أمثلة ونماذج:
ثمَّ إنّ للتغاير الإعرابي والصّرفي والإعجاز البياني أثرا في توجيه القراءة القرآنية، فمن ذلك:
_الإختلاف في تغيُّر الحركات الإعرابية سواء في الأسمــاء أو الأفعــال، إذ أنّها تنبئ عن المعاني، فمثال ذلك ممّا وقع في الأسماء: لفظ ((
قِيَامًا)) [النساء: 5] بسورة النّساء: فقد تغايرت القراءة فيها بين حذف الألف وإثباته، فجعل الفرَّاء القراءتين مصدرين بمعنى واحد(14)، والمعنى: ولاتؤتوا أموالكم الّتي تقوم بها أمورُكم قيامًا وقيَماً(15)، وذهب النَّحَّاس إلى أنّ ((
قِيَاماً)) مصدر قام ، بمعنى جعل الأموال قياماً لأمر عباده، و(
قِيَمًا) جمع قيمة، أي جعل الأموال قيمة لأمتعتكم(16).
ومن أوجه التغاير الاختلاف في بنية الكلمة بتغاير الحركات، أو الزِّيادة والنقصان، أو الإبدال، أو التخفيف والتشديد، فتختلف بذلك صيغة الكلمة من قراءة إلى أخرى، ومن ثمّ يتغاير معناها، مثال ذلك:
ماورد في لفظ ((
وَجَآءَ المُعذِّرُونَ)) [التوبة: 90]، جاء في
((اللّسان)): ((
عذَّر الرّجل فهو معذِّرٌ إذا اعتذر ولم يأت بِعُذر، وأعذر: ثبت له عذر، والمعنى: هم الذين لا عذر لهم ولكن يتكلّفون عذرًا، وعلى قراءة التخفيف: هم الذين لهم عذر))(18).
يعتبر اختلاف القراءات في الكلمة القرآنية ، حيث تختلف دلالاتهاالمعنوية والبيانيَّة والبلاغية روةضة من المعاني والدّلالات التي تكمِّل معنى القراءة الأخرى، أو تفصِّل ماورد فيها من إجمال، ومثال ذلك: ((
نُنشِزُهَا)) [البقرة: 259]بالبقرة: التي تغايرت قراءتها بين الرّاء والزّاي(19)، فمن قرأ بالرّاء فمعناها نحييها، لأن النّشر هو الإحياء، قال الزّجاج: ((
من قرأ ننشرها فهو من أنشر الله الموتى، أي: بعثهم)) فأفادت القراءة إحياء العظام وتسويتها بعد البِلى، وذلك بقدرة الله.
بيد أنّ هذا الإجمال الذي تعبِّر عنه هذه القراءة تفصّله وتبين مراحله القراءة الأخرى ((
ننشزها))، واشتقاق القراءة من النَّشزِ، وهو في اللغة: المرتفع من الأرض، والمعنى: وانظر إلى العظام كيف نرفعها من أماكنها من الأرض إلى جسم صاحبها للإحياء(20).
معرفة اللغة العربية وعلومها سبب لبيان وجه قراءة كل قارئ، والدّفاع عن القراءات القرآنية، وردِّ شبه المتأوّلين والمستشرقين.
أهم النتائج:
_اللغة والإعراب من أهم العلوم الازمة لمن تصدَّر للقراءة والإقراء.
_معرفة اللغة العربية وعلومها سبب لبيان وجه قراءة كل قارئ، والدّفاع عن القراءات القرآنية، وردِّ شبه المتأولين والمستشرقين.
_الأنفع لطالب القراءات القرآنية الاستعانة بكتب اللغة والمعاجم، والتفسير، وكتب معاني القرآن وإعرابه، لينظر في دلالات الألفاظ والمعاني فيوجِّه القراءات القرآنية ويحتجَّ لها.
_للقراءة القرآنية أثر واضح في معرفة القواعد الصّرفية واللّغوية.
_تعدد أوجد القراءة في الكلمة القرآنية يضفي عليها روضة من المعاني والدلالات الجديدة.
وفي الختام، أحمد الله تعالى وأشكره، وأُثني عليه بما هو أهله، أن وفقني وأعانني على جمع هذه الوريقات، فله الحمد والشكر أولا وآخرا، وصلّى الله الله وسلّم على نبيِّنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.