ثالثاً : ما ورد عن السلف في مسألة التدبر :
**************************
1 - روى مالك عن نافع عن ابن عمر قال : ( تعلم عمر البقرة في اثنتي عشرة سنة ، فلما ختمها نحر جزوراً ) .
وطول المدة ليس عجزاً من عمر ولا انشغالاً عن القرآن ؛ فما بقي إلا أنه التدبر .
2 - عن ابن عباس قال : ( قدم على عمر رجل فجعل عمر يسأل عن الناس فقال : يا أمير المؤمنين ! قد قرأ القرآن منهم كذا وكذا ، فقلت : والله ما أحب أن يسارعوا يومهم هذا في القرآن هذه المسارعة . قال : فزبرني عمر ، ثم قال : مه !فانطلقت لمنزلي حزيناً فجاءني ، فقال : ما الذي كرهت مما قال الرجل آنفاً ؟ قلت : متى ما يسارعوا هذه المسارعة يحتقوا - يختصموا : كلٌ يقول الحق عندي -
ومتى يحتقوا يختصموا ، ومتى اختصموا يختلفوا ، ومتى ما يختلفوا يقتتلوا ، فقال عمر : لله أبوك ! لقد كنت أكتمها الناس حتى جئت بها ) ،
وقد وقع ما خشي منه عمر وابن عباس - رضي الله عنهما - فخرجت الخوارج الذين يقرؤون القرآن ؛ لكنه لا يجاوز تراقيهم .
3 - عن ابن عمر - رضي الله عنه - قال : ( كان الفاضل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في صدر هذه الأمة لا يحفظ من القرآن إلا السورةونحوها ورزقوا العمل بالقرآن ، وإن آخر هذه الأمة يقرؤون القرآن ، منهم الصبي والأعمى ولا يرزقون العمل به .
وفي هذا المعنى قال ابن مسعود : إنا صعب عليناحفظ ألفاظ القرآن ، وسهل علينا العمل به ، وإن مَنْ بعدنا يسهل عليهم حفظ القرآن ويصعب عليهم العمل به ) .
4 - قال الحسن البصري : ( إن هذا القرآن قد قرأه عبيد وصبيان لا علم لهم بتأويله ، وما تدبُّر آياته إلا باتباعه ، وما هو بحفظ حروفه وإضاعة حدوده حتى إن أحدهم ليقول : لقد قرأت القرآن فما أسقطت منه حرفاً وقد - والله ! - أسقطه كله ما يُرى القرآن له في خلق ولا عمل ، حتى إن أحدهم ليقول : إني لأقرأ السورة في نَفَسٍ ! والله ! ما هؤلاء بالقراء ولا العلماء ولا الحكماء ولا الوَرَعة متى كانت
القراء مثل هذا ؟ لا كثَّر الله في الناس أمثالهم ) .
5 - وقال الحسن أيضاً : ( نزل القرآن ليُتَدَبَّر ويعمل به ؛ فاتخذوا تلاوته عملاً .
أي أن عمل الناس أصبح تلاوة القرآن فقط بلا تدبر ولا عمل به .
6 - كان شعبة بن الحجاج بن الورد يقول لأصحاب الحديث : ( يا قوم ! إنكم كلما تقدمتم في الحديث تأخرتم في القرآن ) . وفي هذا تنبيه لمن شغلته دراسة أسانيد الحديث ومسائل الفقه عن القرآن وتدبره أنه قد فقد توازنه واختل ميزانه .
7 - عن محمد بن كعب القرظي أنه قال : ( لأن أقرأ في ليلتي حتى أصبح بـ (إذا زلزلت) و (القارعة) لا أزيد عليهما أحب إليَّ من أن أهذَّ القرآن ليلتي هذّاً . أو قال : أنثره نثراً ) .
8 - قال ابن القيم : ( ليس شيء أنفع للعبد في معاشه ومعاده من تدبر القرآن وجمع الفكر على معاني آياته ؛ فإنها تطلع العبد على معالم الخير والشر بحذافيرهاوعلى طرقاتهما وأسبابهما وثمراتهما ومآل أهلهما ، وتتل في يده مفاتيح كنوزالسعادة والعلوم النافعة ، وتثبت قواعد الإيمان في قلبه ، وتريه صورة الدنيا والآخرةوالجنة والنار في قلبه ، وتحضره بين الأمم ، وتريه أيام الله فيهم ، وتبصره مواقع
العبر ، وتشهده عدل الله وفضله وتعرفه ذاته وأسماءه وصفاته وأفعاله وما يحبه ومايبغضه وصراطه الموصل إليه وقواطيع الطريق وآفاته ، وتعرفه النفس وصفاتهاومفسدات الأعمال ومصححاتها ، وتعرفه طريق أهل الجنة وأهل النار وأعمالهم وأحوالهم وسيماهم ومراتب أهل السعادة وأهل الشقاوة .
فتشهده الآخرة حتى كأنه فيها ، وتغيبه عن الدنيا حتى كأنه ليس فيها ، وتميزله بين الحق والباطل في كل ما يختلف فيه العالم ، وتعطيه فرقاناً ونوراً يفرق بهبين الهدى والضلال ، وتعطيه قوة في قلبه وحياة واسعة وانشراحاً وبهجة وسروراًفيصير في شأن والناس في شأن آخر ؛ فلا تزال معانيه تنهض العبد إلى ربه بالوعد الجميل ، وتحذره وتخوفه بوعيده من العذاب الوبيل ، وتهديه في ظلم الآراء
والمذاهب إلى سواء السبيل ، وتصده عن اقتحام طرق البدع والأضاليل ، وتبصره بحدود الحلال والحرام وتوقفه عليها ؛ لئلا يتعداها فيقع في العناء الطويل ، وتناديه كلما فترت عزماته : تقدمَ الركبُ ، وفاتك الدليل ، فاللحاقَ اللحاقَ ، والرحيلَ الرحيلَ ) .
فاعتصم بالله واستعن به وقل : ( حسبي الله ونعم الوكيل ) .
وحتى نتدبر القرآن فعلينا :
*******************
1- مراعاة آداب التلاوة من طهارة ومكان وزمان مناسبين وحال مناسبةوإخلاص واستعاذة وبسملة وتفريغ للنفس من شواغلها وحصر الفكر مع القرآن والخشوع والتأثر والشعور بأن القرآن يخاطبه .
2- التلاوة بتأنٍ وتدبر وانفعال وخشوع ، وألا يكون همه نهاية السورة .
3- الوقوف أمام الآية التي يقرؤها وقفة متأنية فاحصة مكررة .
4- النظرة التفصيلية في سياق الآية : تركيبها - معناها - نزولها - غريبها- دلالاتها .
5- ملاحظة البعد الواقعي للآية ؛ بحيث يجعل من الآية منطلقاً لعلاج حياته وواقعه ، وميزاناً لمن حوله وما يحيط به .
6- العودة إلى فهم السلف للآية وتدبرهم لها وتعاملهم معها .
7- الاطلاع على آراء بعض المفسرين في الآية .
8- النظرة الكلية الشاملة للقرآن .
9- الالتفات للأهداف الأساسية للقرآن .
10- الثقة المطلقة بالنص القرآني وإخضاع الواقع المخالف له .
11- معايشة إيحاءات النص وظلاله ولطائفه .
12- الاستعانة بالمعارف والثقافات الحديثة .
13- العودة المتجددة للآيات ، وعدم الاقتصار على التدبر مرة واحدة ؛فالمعاني تتجدد .
14- ملاحظة الشخصية المستقلة للسورة .
15- التمكن من أساسيات علوم التفسير .
16- القراءة في الكتب المتخصصة في هذا الموضوع مثل كتاب : (القواعد الحسان لتفسير القرآن) للسعدي ، وكتاب (مفاتيح للتعامل مع القرآن) للخالدي ،وكتاب (قواعد التدبر الأمثل لكتاب الله - عز وجل) لعبد الرحمن حبنكة الميداني ،وكتاب (دراسات قرآنية) لمحمد قطب .
وبــعــد ......
فما درجة أهمية تدبر القرآن في عقولنا ؟ وما نسبة التدبر في واقعناالعملي فيما نقرؤه في المسجد قبل الصلوات ؟ وهل نحن نربي أبناءنا وطلابنا علىالتدبر في حِلَق القرآن ؟ أم أن الأهم الحفظ وكفى بلا تدبر ولا فهم ؛ لأن التدبر يؤخر الحفظ ؟ما مقدار التدبر في دروس العلوم الشرعية في المدارس ، خاصة دروس التفسير ؟ وهل يربي المعلم طلابه على التدبر ، أم على حفظ معاني الكلمات فقط ؟
تُرى ... ما مرتبة دروس التفسير في حِلَق العلم في المساجد : هل هي في رأس القائمة ، أم في آخرها - هذا إن وجدت أصلاً ؟ما مدى اهتمامنا بالقراءة في كتب التفسير من بين ما نقرأ ؟لماذا يكون همُّ أحدنا آخر السورة ، وقد نهانا رسولنا صلى الله عليه وسلم عن ذلك ؟ومتى نقتنع أن فوائد التدبر وأجره أعظم من التلاوة كهذ الشعر ؟
أسئلة تبحث عن إجابة ؛ فهل نجدها لديك ؟
بقلم / أحمد البقمي ...... طريق الإيمان
|