العبرة ليست بكثرة العدد
وفي قوله تعالى: {لا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ} [البقرة:249]
أراد عز وجل أن يقوي قلوب هؤلاء الذين قالوا هذه الكلمة بقوله: {كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ} [البقرة:249]
فالعبرة ليست بكثرة العدد ولكن بالتأييد الإلهي، ولذلك إذا جاءت الهزيمة فلا ينفع كثرة العدد،
وإذا جاء النصر فلا يمنعه قلة العدد.
قيمة اللجوء إلى الله ودعائه
وفي قوله تعالى: {رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً} [البقرة:250]
فائدة بلاغية بليغة وهي:
أنهم طلبوا من الله أن يفرغ عليهم الصبر أي: يغمرهم به من فوقهم؛ فتستقر قلوبهم ولا تقلق،
وأن يثبت أقدامهم من الأسفل، أفرغ علينا صبراً من فوقنا، يعني: أنزله علينا كثيراً عامراً كما يفرغ الإنسان الإناء كله:
{أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا} [البقرة:250]
فسألوا الله تثبيت الظاهر والباطن، فإذاً إذا جاء الصبر من فوق، وثبات الأقدام من الأسفل جاء النصر.
{وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ} [البقرة:250]
المبارزة: أن يبرز كل واحد منهم لصاحبه في وقت القتال،
نلاحظ هنا دور العلماء والأقوياء إيمانياً لما قالوا:
{قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً} [البقرة:249]
ونلاحظ تضرعهم إلى الله بإفراغ الصبر، وإنزال النصر، كما قال الله في آية أخرى:
{وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ *
وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} [آل عمران:146-147]
كان النبي صلى الله عليه وسلم يلجأ إلى ربه في هذه المواطن الشديدة،
ويجأر إليه، ويلح عليه إلحاحاً شديداً، ولذلك كان يقول في معركة بدر : (اللهم بك أصول ..)
كان يستنجز نصر الله وموعوده ويقول إذا لاقى العدو:
(اللهم إني أعوذ بك من شرورهم، وأجعلك في نحورهم)
وكان يقول: (اللهم بك أصول وبك أجول).
فالإفراغ: هو الصبر وإخلاء الإناء مما فيه:
{أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً} [البقرة:250]
المبالغة في طلب الصبر من وجهين:
الأول: أنه إذا صب الشيء في الشيء فقد أثبت فيه بحيث لا يزول عنه:
{أَفْرِغْ عَلَيْنَا} [البقرة:250]
يعني: صبه علينا صباً بحيث لا يخرج بل يبقى مستقراً في أنفسنا.
والثاني:
إفراغ الإناء هو إخلاؤه، معنى ذلك: صب كل ما فيه،
ولذلك سألوا صبراً كثيراً وداخلاً ولذلك قالوا:
{أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً} [البقرة:250] و
هذا أبلغ من قولهم: صبرنا فالإفراغ إذاً طلب الكثرة من الصبر، وأن يكون فيه -داخله- ممتلئاً بحيث إنه لا يخرج منه.
يتبع ..