بسم الله الرحمن الرحيم
سنة متروكة يجب إحياؤها
استفاضت الأحاديث الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم في الأمر بإقامة الصفوف وتسويتها , بحيث يندر أن تخفى على أحد من طلاب العلم فضلاً عن الشيوخ , ولكن ربما يخفى على الكثيرين منهم أن إقامة الصف تسويته بالأقدام , وليس فقط بالمناكب , بل لقد سمعنا مراراً من بعض أئمة المساجد - حين يأمرون بالتسوية - التنبيه على أن السنة فيها إنما هي بالمناكب فقط دون الأقدام , ولما كان ذلك خلاف الثابت في السنة الصحيحة , رأيت أنه لا بد من ذكر ماورد من الحديث , تذكيراً لمن أراد أن يعمل بما صح من السنة , غير مغتر بالعادات والتقاليد الفاشية في الأمة
فأقول : لقد صح في ذلك حديثان :
الأول : من حديث أنس .
والآخر : من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنهما .
أما حديث أنس فهو :
31- ( أَقِيمُوا صُفُوفَكُم ْ وتراصوا فَإِنِّي أَرَاكُمْ مِنْ وَرَاءِ ظَهْرِي ) .
رواه البخاري ,وأحمد من طرق عن حميد الطويل : ثنا أنس بن مالك قال : ( أقيمت الصلاة , فأقبل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بوجهه , فقال : ( فذكره ) .
زاد البخاري في رواية : ( قبل أن يكبر ) , وزاد أيضا في آخره : ( وكان أحدنا يلزق منكبه بمنكب صاحبه , وقدمه بقدمه ) .
وهي عند المخلص , وكذا ابن ابي شيبة بلفظ : ( قال أنس : فلقد رأيت احدنا يلصق منكبه بمنكب صاحبه وقدمه بقدمه , فلو ذهبت تفعل هذا اليوم , لنفر أحدكم كأنه بغل شموس ) .
وترجم البخاري لهذا الحديث بقوله ( باب إلزاق المنكب بالمنكب والقدم بالقدم في الصف ) .
وأما حديث النعمان فهو :
32- ( أَقِيمُوا صُفُوفَكُمْ [ ثَلَاثًا ] وَاللَّهِ لَتُقِيمُنَّ صُفُوفَكُمْ أَوْ لَيُخَالِفَنَّ اللَّهُ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ ) .
وفي هذين الحديثين فوائد هامة :
الأولى : وجوب إقامة الصفوف وتسويتها والتراص فيها , للأمر بذلك , والأصل فيه الوجوب , إلا لقرينة , كما هو مقرر في الأصول , والقرينة هنا تؤكد الوجوب , وهو قوله صلى الله عليه وسلم ( أَوْ لَيُخَالِفَنَّ اللَّهُ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ ) , فإن مثل هذا التهديد لا يقال فيما ليس بواجب , كما لا يخفى .
الثانية : أن التسوية المذكورة إنما تكون بلصق المنكب بالمنكب , وحافة القدم بالقدم , لأن هذا هو الذي فعله الصحابة رضي الله عنهم حين أمروا بإقامة الصفوف , والتراص فيها , ولهذا قال الحافظ في ( الفتح ) بعد أن ساق الزيادة التي أوردتها في الحديث الأول من قول أنس :
( وأفاد هذا التصريح أن الفعل المذكور كان في زمن النبي صلى الله عليه وسلم , وبهذا يتم الاحتجاج به على بيان المراد بإقامة الصف وتسويته ) .
ومن المؤسف أن هذه السنة من التسوية قد تهاون بها المسلمون , بل أضاعوها , إلا القليل منهم ,
فإني لم أرها عند طائفة منهم إلا أهل الحديث , فإني رأيتهم في مكة سنة ( 1368هـ ) حريصين على التمسك بها كغيرها من سنن المصطفى عليه الصلاة والسلام , بخلاف غيرهم من أتباع المذاهب الأربعة - لا أستثني منهم حتى الحنابلة - فقد صارت هذه السنة عندهم نسياً منسياً , بل إنهم تتابعوا على هجرها والإعراض عنها , ذلك لأن أكثر مذاهبهم نصت على أن السنة في القيام التفريج بين القدمين بقدر أربع أصابع , فإن زاد كره , كما جاء مفصلاً في ( الفقه على المذاهب الأربعة ) 1\ 207 ) , والتقدير المذكور لا أصل له في السنة , وإنما هو مجرد رأي , ولو صح لوجب تقييده بالإمام والمنفرد حتى لا يعارض به هذه السنة الصحيحة , كما تقتضيه القواعد الأصولية .
وخلاصة القول :
إنني أهيب بالمسلمين - وبخاصة أئمة المساجد - الحريصين على اتباعه صلى الله عليه وسلم , واكتساب فضلية إحياء سنته صلى الله عليه وسلم , أن يعملوا بهذه السنة , ويحرصوا عليها , ويدعوا الناس إليها , حتى يجتمعوا عليها جميعاً , وبذلك ينجون من تهديد : ( أَوْ لَيُخَالِفَنَّ اللَّهُ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ ) .
وأزيد في هذه الطبعة فأقول :
لقد بلغني عن أحد الدعاة أنه يهون من شأن هذه السنة العملية التي جرى عليها الصحابة , وأقرهم النبي صلى الله عليه وسلم عليها , ويلمح إلى أنه لم يكن من تعليمه صلى الله عليه وسلم إياهم , ولم ينتبه - والله أعلم - إلى ذلك فهم منهم أولاً , وأنه صلى الله عليه وسلم قد أقرهم عليه ثانياً , وذلك كاف عند أهل السنة في إثبات شرعية ذلك , لأن الشاهد يرى ما لا يرى الغائب , وهم القوم لا يشقى متبع سبيلهم .
الثالثة : في الحديث الأول معجزة ظاهرة للنبي صلى الله عليه وسلم , وهي رؤيته صلى الله عليه وسلم من ورائه , ولكن ينبغي أن يعلم أنها خاصة في حالة كونه صلى الله عليه وسلم في الصلاة , إذ لم يرد في شئ من السنة أنه كان يرى كذلك خارج الصلاة أيضاً , والله أعلم .
الرابعة : في الحديثين دليل واضح على أمر لا يعلمه كثير من الناس , وأن كان صار معروفاً في علم النفس , وهو أن فساد الظاهر يؤثر في فساد الباطن , والعكس بالعكس , وفي هذا المعنى أحاديث كثيرة , لعلنا نتعرض لجمعها وتخريجها في مناسبة أخرى إن شاء الله تعالى .
الخامسة : أن شروع الإمام في تكبيرة الإحرام عند قول المؤذن : ( قد قامت الصلاة ) بدعة , لمخالفتها للسنة الصحيحة , كما يدل على ذلك هذان الحديثان , لا سيما الأول منهما , فإنهما يفيدان أن على الإمام بعد إقامة الصلاة واجباً ينبغي عليه القيام به , وهو أمر الناس بالتسوية , مذكراً لهم بها , فإنه مسؤول عنهم : ( كُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ ......... ) .
من كتاب:
( عون الودود لتيسير مافي السلسلة الصحيحة من الفوائد والردود )