رابعاً: وهو ما يتعلق بإحصاء الأسماء الحسنى
الحديث الذي ذكرناه في أول هذه الدروس (( إن لله تسعة وتسعين اسماً من أحصاها دخل الجنة))
ما معنى هذا الإحصاء ؟
هذه اللفظة في كلام العرب تأتي بمعنى العد - تقول مثلاً حصيت الحصى إذا عددته
ومن ذلك قول الأعشى:
ولست بالأكثر منهم حصى *** وإنما العزة للكاسر
ويقولون للعد يقولون له إحصاء , فهذا معناه
ومن المعاني التي تأتي لهذه اللفظة العقل ، يُقال حَصاة العقل
ومنه قول الشاعر:
وأن لسان المرء ما لم تكن له *** حصاة على عوراته لدليل
يقول أن اللسان إذا مافي عقل يحجزه من الإنفلات و الإنطلاق فيتكلم الإنسان في كل شئ ويحرف بما لا يعرف فإنه بذلك يدل على عوراته
وهناك معنى ثالث أيضاً: وهو الإطاقة (( علم أن لن تحصوه)) يعني تطيقوه فيما يتعلق بقيام الليل (( فتاب عليكم ))
طيب إذا كانت هذه معاني الإحصاء في كلام العرب فما المراد بقول النبي صلى الله عليه وسلم (( من أحصاها دخل الجنة)) ؟
هل المراد به العد ؟ أو المراد عقل معانيها ؟ أو المراد بذلك معنى آخر؟
***- من أهل العلم من قال المراد بها العد, من أحصاها يعني استطاع أن يعدها, يعني جمعها, حفظها, أحاط بها والمقصود بالإحاطة عند هؤلاء يعني أنه استطاع أن يستقرأ هذه الأسماء وأن يجمعها يعني أن يعرف ألفاظها. فهذا معنى ذهب إليه كثير من أهل العلم بالحديث واحتجوا برواية للحديث عند البخاري في الصحيح
وهي قوله صلى الله عليه وسلم (( من حفظها دخل الجنة))
***وهناك من قالوا إن كلمة أحصاها تحتمل عدة معاني وهذه الرواية تبين الإجمال الذي وقع فيها , من أحصاها أي حفظها,
وهذا ذهب إليه الإمام البخاري رحمه الله وقال به جماعة كالخطـّابي والنووي وعزاه النووي لأكثر أهل العلم وهو اختيار عبد الرحمن ابن الجوزي ,
قال: إن الناس يتفاوتون في ذلك؛ وهذا المعنى التفاوت قد صرّح به القرطبي رحمه الله يقول إن مقتضى رحمة الله عز وجل أن يحصل هذا الإفضال والعطاء دخل الجنة على أقل ما يصدق عليه هذا اللفظ , من أحصاها , وهو مجرد حفظ بالألفاظ , يقول: فضل الله عز وجل عظيم؛ والله كريم؛ لماذا نُعقِّد هذه القضية ونقول الإحصاء أصعب مما تتخيلون وأمره ليس بالسهل وأمره شديد ولا يقع إلا للواحد بعد الواحد , لا , فنقول يصدق على أقل ما يمكن أن يُراد بهذه اللفظة , فمن عدّها فقد أحصاها ثم الكمال على درجات
يأتي فوقه من عرف معانيها, ويأتي فوقه من تعبد الله تعالى بهذه الأسماء وتعبده بالدعاء وتعبده أيضاً كما ذكرنا من ألوان العبوديات التي تقتضيها هذه الأسماء الحسنى , وهذا القول له وجه .
***- ومن أهل العلم من قال إن الإحصاء هنا المراد به الإطاقة ،قالوا إن قوله من أحصاها مفسراً بقول الله تعالى ((علم أن لن تحصوه )) أي أن لن تطيقوه
والنبي صلى الله عليه وسلم قال : (( استقيموا ولن تُحصوا))
يعني لن تقدروا ولن تطيقوا أن تأتوا بالإستقامة على الوجه الكامل لكن سددوا وقاربوا
وقالوا المراد هنا أن العبد أن يطيق الأسماء الحسنى بمعنى أنه يُحسن المراعاة لها بعد أن يعرف ألفاظها هذه الأسماء المحصورة التي أشار إليها النبي صلى الله عليه وسلم بقوله(( إن لله تسعاً وتسعين اسماً )) فإذا استطاع العبد أن يستقرأها عرف ألفاظها وأحسن المراعاة لها وعمل بمقتضاها
فإذا قال الله سميع بصير يعلم أن الله يسمعه ويراه وأنه لا تخفى عليه خافية فيخاف من الله عز وجل في سره وعلانيته , قالوا هذا هو المراد بالإحصاء.
***- وذهبت طائفة أخرى من اهل العلم إلى أن المراد بالإحصاء هو المعرفة وعقل المعاني
فيكون المراد((من أحصاها)) أي عرفها وعَقل معانيها وآمن بها دخل الجنة..
وهذا قال به أبو نعيم وقال به المفسر أبو عطية .
***- ومن أهل العلم من حمله على أكمل معانيه وهو الذي ذهب إليه الحافظ ابن القيم رحمه الله
قال( إن الإحصاء لا يكون إلا بمعرفة الأسماء بأن يجمعها العبد ويعرف ألفاظها وأن يعرف معانيها وأن يتعبد لله تعالى بمقتضاها, لا بد من هذه الأمور الثلاثة .)
-*** ومن أهل العلم من قال بأن المقصود بالإحصاء هو أن يقرأ القرآن كاملاً ,, وهذا يمكن أن يوجه كما قال الحافظ ابن الحجر رحمه الله أنهم قصدوا بذلك أن هذه الأسماء موجودة في القرآن فإذا قرأ العبد كتاب الله فإنه يكون بذلك قد مر على جميع الأسماء الحسنى
يعني أنه يتتبع ذلك من القرآن ..
* * *
وعلى كل حال لا شك أنه من تمام المعرفة بأسماء الله وصفاته التي يستحق بها ما ذكر في الحديث دخل الجنة, نعم , هو أن يعرف العبد الألفاظ وأن يعرف مدلولات هذه الألفاظ وإذا كان ذلك لا يؤثر فيه عملاً ولا إيماناً فإن هذا العلم من العلم الذي لا يُنتفع به فيحتاج العبد إلى أن تظهر آثارها عليه بقلبه ولسانه وجوارحه وهذا الذي ذكره كثير من أهل العلم , كالطلمنكي من أهل السنة وطائفة
ومثل القرطبي قال هذه مراتب ثلاث لأهل الإيمان كما يُقال مثلاً بأن هناك مرتبة للسابقين ومرتبة للصديقين ومرتبة لأصحاب اليمين, فمن عرف ألفاظها فقط فهذا من أهل اليمين , ومن عرف المعاني فهذا من الصديقين, ومن عمل بمقتضاها فهو من السابقين.
وعلى كل حال هذا المعنى ذكره جماعة ولا حاجة للتطويل فيه أكثر من هذا.
خامساً: هل أسماء الله تعالى محصورة بعدد معين ؟
الحديث يقول (( إن لله تسعةً وتسعين اسماً من أحصاها دخل الجنة )) ما المقصود ؟
هل المقصود أن أسماء الله محصورة في التسعة وتسعين؟
أو المقصود أن هذه الأسماء التي أشار إليها النبي صلى الله عليه وسلم لها مزية معينة وهي أن من أحصاها دخل الجنة؟
العلماء مختلفون في عدد أسماء الله الحسنى
فعامة أهل العلم الذي عليه الجمهور يقولون: أن أسماء الله الحسنى لا تدخل تحت حصر ولا تحد بعدد يمكن أن يصل إليه الخلق و أسماء الله أكثر من أن نحيط بها , هذا الذي عليه عامة أهل العلم وهو القول الذي لا ينبغي العدول عنه وهو مذهب سلف هذه الأمة , بل إن من أهل العلم كالنووي قال إنه محل إجماع !
والصحيح إن الإجماع لا يثبت في هذا لأن هناك من خالف كابن حزم والسهيلي والرازي قالوا إنها محصورة , والذين قالوا إنها محصورة اختلفوا في العدد..
** فبعضهم قال إنها محصورة بثلاثمائة اسم؛؛ وهذا لا دليل عليه.
** ومنهم من قال ألف .
** ومنهم من قال ألف وواحد .
** ومنهم من قال أربعة آلاف.
** ومنهم من يقول مائة ألف و أربعة وعشرون ألفاً {عدد الأنبياء} وهذا لا دليل عليه.
** ومنهم من يقول أسماء الله تسعة وتسعون اسماً فقط , هكذا فهموا من الحديث.
ومجموع ما ذكره العادون مما يصلح أن يكون اسماً لله عز وجل أو ألا يكون يعني الذين حاولوا جمع الأسماء كثير , خلق من العلماء , بعضهم من ألّف بذلك مصنفاً مستقلاً وبعضهم ذكرها ضمن كتاب من كتبه...
فلو استقرأنا , حاولنا أن نستقرأ كل ما ذكروه مما يصلح أن يكون اسم لله وما لا يصلح فإن ذلك يزيد على مائتين وثمانين اسماً, هذا جملة ما عده العادون .
وعلى كل حال مما يدل على أن أسماء الله عز وجل لا تُحصر بعدد
ما جاء في حديث عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم (( اللهم اني أعوذ برضاك من سخطك وبمعافاتك من عقوبتك وأعوذ بك منك لا أحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسك ))
وجه الإستدلال أنه لو كان يُحصي جميع الأسماء الحسنى لأحصى الثناء على الله تبارك وتعالى ,هكذا استدل به أهل العلم كشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في درء التعارض وغيره, وكذلك حديث الشفاعة الطويل وفيه: (( ثم يفتح الله عليّ من محامده وحسن الثناء عليه شيئاً لم يفتحه على أحدٍ قبلي )) وكذلك أيضاً حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (( ما أصاب عبداً همٌ ولا حَزَن فقال اللهم إني عبدك وابن عبدك وابن أمتك .......... إلى أن قال ......... أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك أو أنزلته في كتابك أو علمته أحداً من خلقك أو استأثرت به في علم الغيب عندك ..))
هذا أوضح الأدلة على أن من أسماء الله عز وجل ما لم يُطلع عليه أحداً من الخلق لا ملكاً مقرباً ولا نبياً مرسلا ..
فالنبي صلى الله عليه وسلم جعل الأسماء على هذه الأقسام الثلاثة
-قسم أنزله في كتابه
-وقسم علمه أحد من خلقه
- وقسم استأثر به في علم الغيب عنده ,
وبهذا نعرف أن الواجب علينا إزاء أسماء الله عز وجل وصفاته التي استأثر بها في علم الغيب عنده أن نقر بالعجز والوقوف عند ما أُذن لنا فيه من ذلك , نؤمن بالأسماء التي أخبرنا عنها ونكل علم مالم نعلم إلى عالمه .
وأما الحديث قول النبي صلى الله عليه وسلم (( إن لله تسعة وتسعين اسماً من أحصاها دخل الجنة))
فإن قوله صلى الله عليه وسلم من أحصاها دخل الجنة هذه صفة وليست بخبر يعني إن لله تسعة وتسعين اسم لها شأن خاص {فهمتم هذا؟} إن لله تسعة وتسعين اسماً من بين أسمائه لها مزية خاصة كما تقول مثلاً{لفلان خمسة دور قد أعدها للضيوف}وكما تقول {لفلان ألف ريال قد أعدها للصدقة }
هل تفهم من هذا أن كل ما يملك هو ألف؟ أو أن كل الدور التي عنده هي خمسة فقط ؟
لا .. وإنما هذه الألف من شأنها كذا.
فالله تعالى له تسعة وتسعون اسماً لها مزية وشأن خاص وهو أن من أحصاها دخل الجنة , وهذا لا ينفي عنه أن يكون له أسماء أخرى غير هذه الأسماء, كما قال المحققون كشيخ الإسلام ابن تيمية والخطابي والحافظ ابن حجر والقرطبي صاحب المفهم والبيهقي , بل نقل الامام النووي أن هذا الحديث المذكور ليس للحصر قال إن هذا باتفاق العلماء وهو الذي قال به الحافظ ابن كثير رحم الله الجميع.
نحن لا زلنا في المقدمات ولمّا ندخل بعد في الكلام عن كل اسم على حده و لكن أرى أن هذه المقدمات في غاية الأهمية وهي توطئة لما سيذكر في الكلام عن الأسماء فنحن سنتكلم عن معنى كل اسم وسنتكلم عن ما يتعلق به من حكم وسنتحدث عن آثاره الإيمانية وما أشبه هذا, فإذا عرفنا هذه القضايا التي نذكرها الآن بعد ذلك يمكن للإنسان أن يُدرك ما يُقال ويربط بين هذه القضايا ويعلم أن هذا كله يدخل تحت الإيمان بهذه الأسماء الكريمة , وكنت أريد أن أذكر كل هذه المقدمات في درس واحد في الدرس الأول ثم رأيت أن مثل هذا ربما يُجهض الفكرة ولا يحصل منه المقصود
فأسأل الله تعالى أن يوفقنا وإياكم لما يُحب ويرضى.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه