عرض مشاركة واحدة
قديم 31-12-09, 12:52 PM   #4
أم حاتم عبد المحسن
~مستجدة~
 
تاريخ التسجيل: 26-12-2009
الدولة: الجزائر * برج بعريريج
العمر: 50
المشاركات: 6
أم حاتم عبد المحسن is on a distinguished road
Icon122 تكملة الدرس

[hr]#8242ad[/hr]
واليوم أخواتي العفيفات الطيبات السيدات الآنسات الفتيات المسلمات الطاهرات المؤمنات.
نكمل الدروس من 21 قصة من رواية الحبيب الهادي صلوات الله عليه.
على بركة الله نبدأ :
بسم الله الرحمن الرحيم (4)
الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على المبعوث رحمةً للعالمين، سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ..
المستمعون الأكارم .. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وأسعد الله أوقاتكم بكل خير .
هذه هي الحلقة الرابعة من برنامج (قصص رواها رسول الله  ) ..
الموعد اليوم مع قصة خرَّجها الإمام مسلم في صحيحه، في باب فضل الحب في الله .. ساق الإمام مسلم إسناده إلى أَبِي هُرَيْرَةَ  ، عَنْ النَّبِيِّ  :«أَنَّ رَجُلًا زَارَ أَخًا لَهُ فِي قَرْيَةٍ أُخْرَى ، فَأَرْصَدَ اللَّهُ لَهُ عَلَى مَدْرَجَتِهِ مَلَكًا ، فَلَمَّا أَتَى عَلَيْهِ قَالَ : أَيْنَ تُرِيدُ ؟ قَالَ : أُرِيدُ أَخًا لِي فِي هَذِهِ الْقَرْيَةِ ؟ قَالَ : هَلْ لَكَ عَلَيْهِ مِنْ نِعْمَةٍ تَرُبُّهَا ؟ قَالَ : لَا ، غَيْرَ أَنِّي أَحْبَبْتُهُ فِي اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ . قَالَ : فَإِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكَ بِأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَبَّكَ كَمَا أَحْبَبْتَهُ فِيهِ» .
أجمل بها من قصة ! وأعظم بها من بشارة !!
وقبل أن أتكلمَ عنها ، وأجُولَ في ميدان دروسها وعبرها لابد أولاً من وقفة لشرح الغريب ..
أرصده : أَقْعَدَهُ يَرْقُبهُ .
الْمَدْرَجَة : الطَّرِيق ، سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِأَنَّ النَّاس يَدْرُجُونَ عَلَيْهَا ، أَيْ يَمْضُونَ وَيَمْشُونَ .
هل لَك عَلَيْهِ مِنْ نِعْمَة تَرُبُّهَا: أي : تَحْفَظُها ، وتُراعيها ، وتُرَبِّيها ، كما يُرَبِّي الرجل ولده والفارس فَلُوَّهُ.
هذه القصة العظيمة فيها أنّ رجلاً لما زار أخاه بسبب أنه يحبه في الله أرسل إليه ملكاً ليخبره بأن الله يحبه كما أحبّ أخاه فيه.
وهي مشتملة على فوائدَ عديدةٍ ، ودروسٍ كثيرة ، وعبرٍ غزيرة .
تعلمنا هذه القصة فضل الزيارة ..
والزيارة في الإسلام لها أنواع عديدة ليس هذا محل ذكرها .. هناك زيارة الله ، وزيارة رسول الله ، وزيارة بيت الله ، وزيارة المشاعر المقدسة ، وزيارة الرحم ، وزيارة القبور ، وزيارة المريض، وزيارة الجيران ، وزيارة الكافر .. ولكنَّ القصةَ دلت على فضلِ زيارة الإخوان ..
ألا يكفي -أيها الأحبة في الله - أنّ النبي  جعل زيارتك لأخيك في الله من موجبات الجنة ؟ قال عليه الصلاة والسلام :« ألا أخبركم برجالكم من أهل الجنة ؟ النبي في الجنة ، والصديق في الجنة ، والشهيد في الجنة ، والمولود في الجنة ، والرجل يزور أخاه في ناحية المصر لا يزوره إلا لله عز وجل» [أخرجه الطبراني في معاجمه الثلاثة] .
وثبت عند الترمذي وابن ماجة أنّ نبينا  قال :« مَنْ عَادَ مَرِيضًا ، أَوْ زَارَ أَخًا لَهُ فِي اللَّهِ ، نَادَاهُ مُنَادٍ : أَنْ طِبْتَ ، وَطَابَ مَمْشَاكَ ، وَتَبَوَّأْتَ مِنْ الْجَنَّةِ مَنْزِلًا» . يقول له ملك - أمره الله بذلك – طبت : أي طاب عيشك في الدنيا والآخرة، وطاب ممشاك لأن الله يحب هذا السعي منك . وتبوأت : تهيأت لدخول الجنة .
إنّ الرجل إذا زار أخاه قال الله : " عبدي زار فيَّ ، وعلي قِراه". قال  :«فلم يرض له بثواب دون الجنة»[خرّجه أبو يعلى بإسناد جيد] .
وعلى الزائر أن يلتزم بآداب الزيارة : كالاستئذان ، وعدمِ الإثقال ، وغض البصر، وأن ينزه مجلسه عن الغيبة والنميمة ، فهي زيارة في الله لا ينبغي أن يكون فيها شيء يغضب الله .
زيارة الإخوان في الله من جواهر عبادة الله ، وفيها القربة الكريمة إلى الله ، مع ما فيها من ضروب الفوائد وصلاح القلوب .
لقد ندب النبي  إلى القيام بهذه الزيارات ، وقام  بذلك بين أصحابه ، ففي المعجم الكبير للإمام الطبراني عن جُبَيْرِ بن مُطْعِمٍ  قَالَ : كَانَ رَسُولُ اللَّهِ  يَقُولُ لأَصْحَابِهِ : «اذْهَبُوا بنا إِلَى بني وَاقِفٍ ، نَزُورُ الْبَصِيرَ» ، قَالَ سُفْيَانُ : بنو واقف : حَيٌّ مِنَ الأَنْصَارِ ، وَكَانَ الْبَصِيرُ ضَرِيرَ الْبَصَرِ.
تعلَّمْنا من هذه القصة التي حدث بها رسولنا  فضلَ الحب في الله . فذاك الرجل الحاملُ له على هذه الزيارة : الحب في الله .
واسمع هذه القصة التي ازدان بها موطأ إمامنا ، الإمامِ مالكٍ رحمه الله ورضي عنه ..
عَنْ أَبِي إِدْرِيسَ الْخَوْلَانِيِّ رحمه الله قَالَ : دَخَلْتُ مَسْجِدَ دِمَشْقَ ، فَإِذَا فَتًى شَابٌّ بَرَّاقُ الثَّنَايَا ، وَإِذَا النَّاسُ مَعَهُ ، إِذَا اخْتَلَفُوا فِي شَيْءٍ أَسْنَدُوا إِلَيْهِ وَصَدَرُوا عَنْ قَوْلِهِ ، فَسَأَلْتُ عَنْهُ ، فَقِيلَ : هَذَا مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ . فَلَمَّا كَانَ الْغَدُ هَجَّرْتُ فَوَجَدْتُهُ قَدْ سَبَقَنِي بِالتَّهْجِيرِ ، وَوَجَدْتُهُ يُصَلِّي ، قَالَ : فَانْتَظَرْتُهُ حَتَّى قَضَى صَلَاتَهُ ، ثُمَّ جِئْتُهُ مِنْ قِبَلِ وَجْهِهِ ، فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ ، ثُمَّ قُلْتُ : وَاللَّهِ إِنِّي لَأُحِبُّكَ لِلَّهِ . فَقَالَ : أَاللَّهِ ؟ فَقُلْتُ : أَاللَّهِ . فَقَالَ : أَاللَّهِ ؟ فَقُلْتُ : أَاللَّهِ . فَقَالَ : أَاللَّهِ ؟ فَقُلْتُ : أَاللَّهِ . قَالَ : فَأَخَذَ بِحُبْوَةِ رِدَائِي فَجَبَذَنِي إِلَيْهِ وَقَالَ : أَبْشِرْ ؛ فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ  يَقُولُ :«قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى : وَجَبَتْ مَحَبَّتِي لِلْمُتَحَابِّينَ فِيَّ ، وَالْمُتَجَالِسِينَ فِيَّ ، وَالْمُتَزَاوِرِينَ فِيَّ ، وَالْمُتَبَاذِلِينَ فِيَّ» .
فبالحب في الله ، وبالزيارة ينال المرء منّا محبة الله ، وإذا أحب الله عبداً كان سمعه فلا يسمع حراماً .. كان بصره فلا تقعُ دائرة بصره على حرامٍ ، كان رجله فلا يمشي إلى حرام ، وإذا سأل الله استجاب دعاءه .
إنّ الحبّ في الله شجرة راسخة أصلها ثابت وفرعها في السماء ، لا تنبت إلا في القلوب الطاهرة ، مادة بقائها : إحسان الظن ، وورقها : الزيارة وحسن المعاملة ، وثمرتها : الجنة .
أتريد - أخي في الله – أن تنال أعلى الدرجات في الإيمان ، أتريد أن يتذوق قلبك حلاوة الإيمان ؟ أتعرف سبيل ذلك ؟ إن لذلك سبيلاً ، وسبيله الحب في الله ، لقول رسول الله ،  :« ثَلَاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ حَلَاوَةَ الْإِيمَانِ : أَنْ يَكُونَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا ، وَأَنْ يُحِبَّ الْمَرْءَ لَا يُحِبُّهُ إِلَّا لِلَّهِ ، وَأَنْ يَكْرَهَ أَنْ يَعُودَ فِي الْكُفْرِ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُقْذَفَ فِي النَّارِ» [خرّجاه في الصحيحين] .
إنّ الله ينادي يوم القيامة : (أَيْنَ الْمُتَحَابُّونَ بِجَلَالِي ؟ الْيَوْمَ أُظِلُّهُمْ فِي ظِلِّي يَوْمَ لَا ظِلَّ إِلَّا ظِلِّي) [أخرجه مسلم] . ولما عدّد رسول الله  الخصال الموجبة للظلال بقوله :«سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله » ذكر منهم رجلين تحابا في الله ، اجتمعا عليه ، وتفرقا عليه .
فاملأ قلبك أيها المسلم بحب إخوانك ، واطرد عنه آثار الشيطان من البغض والحقد والكراهة والغل، فتلك رذائل وقاذورات لا ينبغي أن يكون قلب المؤمن محطاً لها .. املأ قلبك بحبهم لقول حبيبك  في معجم الطبراني الصغير :« ما تحاب رجلان في الله ، إلا كان أحبُّهما إلى الله عز وجل أشدَّهما حباً لصاحبه» .
وقبل أن ابرح هذه النقطة إلى غيرها أذكر هذا الحديث عن رسول الله  .. يقول صلوات الله وسلامه عليه :«إن من العباد عباداً يغبطهم الأنبياء والشهداء» . قيل : من هم يا رسول الله ؟ قال :«هم قوم تحابوا بروح الله ، على غير أموال ، ولا أنساب ، وجوههم نور ، على منابر من نور ، لا يخافون إن خاف الناس ، ولا يحزنون إن حزن الناس ، ثم تلا هذه الآية :ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون .

ونستفيد من هذه القصة فائدتين من الفوائد العقدية :
الأولى : أنّ الملائكة يتشكلون ، وقد جاء في حديث جبريل الطويل ، أنه جاءهم في صورة بشر ، وقال الله عنه في سورة مريم : فتمثل لها بشراً سوياً  .
الثانية : إثبات صفة المحبة ، وأن الله يُحب من شاء من عباده ، يحب التوابين ، ويحب المتطهرين ، والمتقين ، والمحسنين ، والمتزاورين ، والمتحابين فيه .
فهذه الصفة وغيرها نثبتها بلا تأويل ولا تكييف ولا تشبيه ولا تمثيل ولا تفريض للمعني ، نثبتها ونثبت معناها ، وقد نزل القرآن بلسان عربي مبين ، ولكنْ نفوض كيفيتها لا معناها . إذ اليف بالنسبة إلينا غير معلوم كما قرره إمامنا الإمام مالك رحمه الله .
وفي القصة إثبات الأخوة بين المؤمنين ، قال :«زار أخاً له في الله» . ولقد اهتم النبي  بإرساء قواعدها وبذر حبها مذ أن وطأت قدماه المدينة صلوات ربي وتسليماته عليه .
فالواجب مراعاة حقوقها ، وآدابها التي بينها رسولنا  . ولقد امتنّ بها الله على عباده بقوله : وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ، ولقد كان اسلافنا رحمهم الله يعطمون من شأنها ..
يقول محمد بن المنكدر - كما ذكره ابن كثير في البداية والنهاية - لما سئل : ما بقي من لذةٍ في هذه الحياة ؟ قال:"التقاء الإخوان ، وإدخال السرور عليهم"، وقال الحسن: "إخواننا أحب إلينا من أهلينا؛ إخواننا يذكرونا بالآخرة، وأهلونا يذكرونا بالدنيا".
وقبل كلمة الختام ..
اعلم رعاك الله أنه لا سبيل للإبقاء على هذه الأخوة ، ولا سبيل إلى أن تبقى شجرة الحب في الله خضراء يانعة تسر الناظرين إلا بالعفو ، والتجاوز ، وإحسان الظن .. ولله در من قال :
إذا كنت في كلِّ الأمور معاتبــاً صديقك لم تلق الذي لا تعاتبه
من ذا الذي تُرضى سجاياه كلُّها كفى بالمرء نبلاً أن تُعدَّ معايبه
إذا أنت لم تشرب مراراً على القَذَى ظَمِئْتَ وأي الناس تصفو مشاربه

أسأل الله أن ينفعنا بما سمعنا ، وأن يتقبل من الجميع طاعتهم .
بسم الله الرحمن الرحيم (5)
الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على المبعوث رحمةً للعالمين، سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ..
المستمعون الأكارم .. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وأسعد الله أوقاتكم بكل خير .
هذه هي الحلقة الخامسة من برنامج (قصص رواها رسول الله ) ..
أخرج الشيخان في صحيحهما ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ  ، قَالَ : قال رسول الله  :« لَمْ يَكْذِبْ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَام إِلَّا ثَلَاثَ كَذَبَاتٍ ثِنْتَيْنِ مِنْهُنَّ فِي ذَاتِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ، قَوْلُهُ :إِنِّي سَقِيمٌ ، وَقَوْلُهُ :بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا . وبَيْنَا هُوَ ذَاتَ يَوْمٍ وَسَارَةُ إِذْ أَتَى عَلَى جَبَّارٍ مِنْ الْجَبَابِرَةِ ، فَقِيلَ لَهُ : إِنَّ هَا هُنَا رَجُلًا مَعَهُ امْرَأَةٌ مِنْ أَحْسَنِ النَّاسِ ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ ، فَسَأَلَهُ عَنْهَا ، فَقَالَ : مَنْ هَذِهِ ؟ قَالَ : أُخْتِي . فَأَتَى سَارَةَ قَالَ : يَا سَارَةُ لَيْسَ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ مُؤْمِنٌ غَيْرِي وَغَيْرَكِ ، وَإِنَّ هَذَا سَأَلَنِي فَأَخْبَرْتُهُ أَنَّكِ أُخْتِي ، فَلَا تُكَذِّبِينِي . فَأَرْسَلَ إِلَيْهَا ، فَلَمَّا دَخَلَتْ عَلَيْهِ ذَهَبَ يَتَنَاوَلُهَا بِيَدِهِ ، فقالت : اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتُ آمَنْتُ بِكَ وَبِرَسُولِكَ وَأَحْصَنْتُ فَرْجِي إِلَّا عَلَى زَوْجِي فَلَا تُسَلِّطْ عَلَيَّ الْكَافِرَ. فأُخذَ ، فَقَالَ : ادْعِي اللَّهَ لِي وَلَا أَضُرُّكِ . فَدَعَتْ اللَّهَ فَأُطْلِقَ . ثُمَّ ذَهَبَ يَتَنَاوَلُهَا بِيَدِهِ الثَّانِيَةَ فدعت : اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتُ آمَنْتُ بِكَ وَبِرَسُولِكَ وَأَحْصَنْتُ فَرْجِي إِلَّا عَلَى زَوْجِي فَلَا تُسَلِّطْ عَلَيَّ الْكَافِرَ ؛ فَأُخِذَ مِثْلَهَا أَوْ أَشَدَّ . فَقَالَ : ادْعِي اللَّهَ لِي وَلَا أَضُرُّكِ . فَدَعَتْ ، فَأُطْلِقَ . فَدَعَا بَعْضَ حَجَبَتِهِ فَقَالَ : إِنَّكُمْ لَمْ تَأْتُونِي بِإِنْسَانٍ إِنَّمَا أَتَيْتُمُونِي بِشَيْطَانٍ . فَأَخْدَمَهَا هَاجَرَ ، فَأَتَتْهُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي ، فَأَوْمَأَ بِيَدِهِ : مَهْيَاً؟ قَالَتْ : رَدَّ اللَّهُ كَيْدَ الْكَافِرِ فِي نَحْرِهِ ، وَأَخْدَمَ هَاجَرَ . قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ تِلْكَ أُمُّكُمْ يَا بَنِي مَاءِ السَّمَاءِ.
هذه قصة جليلة القدر عظيمة الشأن ..
الجبار هو : سِنَان بْن عِلْوَان ، كان على مصر ، وقيل : الأردن. ومهياً : ما الخبر ؟
أخبر النبي  في بدايتها : أنّ إبراهيم عليه السلام كذب ثلاث مرات ثنتين منهما في ذات الله . جاء في رواية :« كلها في ذات الله» [أخرجه أبو يعلى]، وللترمذي :« مَا مِنْهَا كَذِبَةٌ إِلَّا مَا حَلَّ بِهَا عَنْ دِينِ» أي : جادل بها عن دين الله، وإنما خص النبي  اثنتين لأن الثالثة وإن كانت في ذات الله إلا أنَّ لنفسه حظاً فيها . ولكنّ الثلاث في ذات الله تعالى . الأولى : قوله : إني سقيم. أي سأسقم . كما قال تعالى : إنك ميت أي ستموت ؛ لأن الإنسان يمرض في الدنيا ويصح ، ويفرح ويحزن .. فهذه أمور لا شك أنها تجري علينا –نحن البشر- .
وأما قوله :  فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فاسألوهم إن كانوا ينطقون ، أي : إن كان ينطقون ففعله كبيرهم هذا ، ولكنهم لا ينطقون فكيف يفعله. وقيل أراد لهم ضرب المثل . كما قال الملكان لداود عليه السلام :إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً ولم يكن أخاه وليس له نعاج ، وإنما جرى الكلام مجرى التنبيه لدواد عاى ما فعل ، والمراد ضرب المثل. قال ابن كثير رحمه الله في حديث :«كذب إبراهيم ثلاث مرات» :" ولكن ليس هذا من باب الكذب الحقيقي الذي يذم فاعله، حاشا وكلا ، وإنما أطلق الكذب على هذا تجوزاً ، وإنما هو من المعاريض في الكلام لمقصد شرعي ديني، كما جاء في الحديث: «إن في المعاريض لمندوحةً عن الكذب» " .
هذا الجبار كان لا يتعرض إلا لذوات الأزواج ولذا لم يخبر إبراهيم عليه السلام بأنها زوجه والله أعلم.
إن من أعظم فوائد هذه القصة الخالدة أنّ الله يدافع عن المؤمنين .. أما قال الله : إِنَّ وَلِيِّـيَ اللّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحين ؟ أما قال الله : إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا ؟

ومما يوضح أهمية الاعتصام بالدعاء لتحقيق العفة هذه القصة ..
استحكمت الشهوة بأحد الشباب فجاء إلى رسول  يطلب منه أن يأذن له في الزِّنا قائلاً : يا رسول الله ائذن لي في الزِّنا . فأقبل القوم عليه فزجروه وقالوا: مه مه ! فقال  :((ادن)) ، فدنا منه قريباً ، قال : ((أتحبه لأمك ؟)) قال : لا والله جعلني الله فداءك . قال : ((ولا الناس يحبونه لأمهاتهم)) . قال :((أفتحبه لابنتك؟)) قال: لا والله يا رسول الله جعلني الله فداءك . قال : ((ولا الناس يحبونه لبناتهم)) . قال: ((أفتحبه لأختك ؟)) قال : لا والله جعلني الله فداءك . قال : ((ولا الناس يحبونه لأخواتهم)) . قال :((أفتحبه لعمتك ؟)) قال : لا والله جعلني الله فداءك . قال : ((ولا الناس يحبونه لعماتهم)) . قال : ((أفتحبه لخالتك ؟)) . قال : لا والله جعلني الله فداءك . قال : ((ولا الناس يحبونه لخالاتهم)). قال : فوضع يده عليه وقال : ((اللهم اغفر ذنبه ، وطهر قلبه ، وحصن فرجه)). فلم يكن بعد ذلك الفتى يلتفت إلى شيء "
والشاهد دعا له النبي  فتحققت العفة . كما اعتصمت بالدعاء سارة فتحقق مرادها .
ولذا كان نبينا  يدعو ويقول :« اللهم إني أسألك الهدى ، والتقى ، والعفاف ، والغنى» ، ولما قال ابن حُمَيد للنبي  علمني دعاءً ، قال له : «قل : اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ سَمْعِي ، وَمِنْ شَرِّ بَصَرِي ، وَمِنْ شَرِّ لِسَانِي ، وَمِنْ شَرِّ قَلْبِي ، وَمِنْ شَرِّ مَنِيِّي»[أخرجه أبو داود] .
والمعنى كما قال في عون المعبود :" وَهُوَ أَنْ يَغْلِبَ ماؤه عَلَيْهِ حَتَّى يَقَعَ فِي الزِّنَا أَوْ مُقَدَّمَاتِهِ ، يَعْنِي مِنْ شَرّ فَرْجِهِ".
إن من فوائد هذه القصة أنّ إبراهيم لما أُخذت زوجته ، وحلّ الظلم بساحته لجأ إلى ربه بالصلاة ، وهذا هو هدي نبينا  ، كان إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة ..
ولما ظنت مريم عليها السلام أنّ جبريل بشر أراد بها سوء قالت : إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقياً .. ما أحسنَ طنَّها بربها، ولذا ذكرت من أسمائه الرحمن ، وفيه من براعة الاختيار ما فيه .
فإذا استحكمت الهموم ، وأظلمت الدنيا ، وتتابعت المصائب، وتوالت الأحزان ، وحلت الأزمات والنكبات ، فاعتصم بالله ، وأدمن طرق بابه ، وافزع إلى الله ، وأشكو إلى الله ولا تشكو الله لأحد من خلقه ، وازهد في الخلق وعظِّم الرغبة في الخالق .. فمن فعل ذلك فأيُّ مصيبة تقوى على البقاء عنده ؟
وممن اعتصم به نبي الله يوسف عليه السلام : الدعاء ، قال تعالى :  وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَن نَّفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللّهِ . قال أبو السعود رحمه الله في تفسيره :" أي : أعوذ بالله معاذاً مما تدعينني إليه، وهذا اجتناب منه على أتم الوجوه ، وإشارة إلى التعليل بأنه منكر هائل يجب أن يعاذ بالله تعالى للخلاص منه " ( ).
ويوضح القرآن الكريم شدة تعوذه بالله من هذه الجريمة بكلمة واحدة جرت على لسان صاحبة القصة :فاستعصم .
ولما رأى يوسف عليه السلام أنها غير مرعوية ، وهددته ، دعا مرة أخرى ، وزاد من تمسكه بحبل نجاته من كربه وعنائه ، فقال : رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُن مِّنَ الْجَاهِلِينَ * فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ.
قال القرطبي رحمه الله :" وكأنه قال : اللهم اصرف عني كيدهن . فاستجاب له دعاءه ، ولطف به ، وعصمه عن الوقوع في الزِّنا "( ) .
إنّ الأسى ليعتصر القلب وهو يطالع بعض الكتب في التفسير وهو يتحدثون عن قوله تعالى : ولقد همت به وهمّ بها  .. لقد جاؤوا بكلام لا يصلح في تقي من عامة الناس فضلاً عن نبي كريمٍ ابنِ كريم ، ابنِ كريم ابن كريم .
لا جرم أيها المستمعون أنّ التفسير الذي لا يصح غيره هو : ولقد همت بها هما حقيقياً مؤكداً . وأما قوله : وهم بها لولا أن رأى برهان ربه فتقدم خبر لولا عليها. فالمعنى : لولا أن رأى يوسف برهان ربه لهمّ بها ، ولكنه ما هم لإن العناية من ثم . من عند الله . لأنه رأى البرهان فلم يقع منه همٌّ ألبتةَ ، صلوات الله وسلامه عليه .
إن الأنبياء خطوط حمراء .. احذر وراقب الله عند ذكرهم ، لئلا يحبِط عملك وتخسر آخرتك .
إن من الدروس العقدية التي نستفيدها من أحداث هذه القصة أنّ من أنواع التوسل المشروع : التوسل بالعمل الصالح ، فقد قالت سارة عليها السلام : اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتُ آمَنْتُ بِكَ وَبِرَسُولِكَ وَأَحْصَنْتُ فَرْجِي إِلَّا عَلَى زَوْجِي فَلَا تُسَلِّطْ عَلَيَّ الْكَافِرَ . فإذا أردت من ربك حاجةً فاجعل بين يديها عملاً صالحاً تسأل به ، قل : الله بقراءتي كتابك آتي نفسي تقواها .. قل : اللهم بإيماني بك أدخلني مدخلا كريماً .. وهكذا .
لقد انتهى الكلام عن قصة سارة عليها السلام .. ولكن بقي أن أخبر بأحداث قصة جرت في هذه البلاد .. بيني وبين أهلها ثقة واحد .. إنها قصة فتاة وجدت امرأة طاعنة في السن وكانت العجوز تأتي بالفتيات إلى رجل فاجر لا يخشى الله رب العالمين ، فأخبرتها المرأة بأنه تحتاج إليها في بيتها ، فذهبت الفتاة الطاهرة معها ، فلما دخلت أدخلتها غرفة ثم خرجت لتجد الفتاة نفسها مع ذاك الفاجر ، فوالله ما زادت على أن قالت كلمةً واحدةً : أعوذ بالله منك . فتسمر الرجل مكانه ، وخرجت إلى بيتها ودمعها في خدها ، وأخبرت بالحادثة أباها ، فقال لها أبوها : والله ما خنت أحداً في عرضه ، أفيضيع الله عرضي . «احفظ الله يحفظك . احفظ الله تجده تجاهك» . ولما حدث أبو هريرة  قال : "تِلْكَ أُمّكُمْ يَا بَنِي مَاء السَّمَاء" يخاطب العرب ؛ لأن هاجر أمُّ إسماعيل . وماء السماء زمزم ، وإسماعيل عليه السلام رُبِّيَ بزمزم.
بسم الله الرحمن الرحيم (6)
الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على المبعوث رحمةً للعالمين، سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ..
المستمعون الأكارم .. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وأسعد الله أوقاتكم بكل خير .
هذه هي القصة السادسة من القصص التي رواها رسول الله  .. يتجدد عندها لقائي بكم ، شاكراً لكم حسن استماعكم .. نفعنا الله بسنة رسوله  ..
ثبت في صحيح مسلم ، في كتاب الزهد ، باب الصدقة ، باب الصدقة في المسكين ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ  ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ  قَالَ : «بَيْنَمَا رَجُلٌ يَمْشِي بِفَلاَةٍ مِنَ الأَرْضِ ، فَسَمِعَ صَوْتاً في سَحَابَةٍ : اسقِ حَدِيقَةَ فُلانٍ ، فَتَنَحَّى ذَلِكَ السَّحَابُ فَأفْرَغَ مَاءهُ في حَرَّةٍ ، فإِذَا شَرْجَةٌ مِنْ تِلْكَ الشِّرَاجِ قَدِ اسْتَوْعَبَت ذَلِكَ الماءَ كُلَّهُ ، فَتَتَبَّعَ المَاءَ ، فإذَا رَجُلٌ قَائمٌ في حَدِيقَتِهِ يُحَوِّلُ الماءَ بِمسحَاتِهِ، فَقَالَ لَهُ : يَا عَبْدَ اللهِ، ما اسمُكَ ؟ قال : فُلانٌ للاسم الذي سَمِعَ في السَّحابةِ ، فقال له : يا عبدَ الله ، لِمَ تَسْألُنِي عَنِ اسْمِي ؟ فَقَالَ : إنِّي سَمِعْتُ صَوتْاً في السَّحابِ الَّذِي هَذَا مَاؤُهُ ، يقولُ : اسْقِ حَدِيقَةَ فُلاَنٍ لاسمِكَ ، فَمَا تَصْنَعُ فِيهَا ، فَقَالَ : أمَا إذ قلتَ هَذَا ، فَإنِّي أنْظُرُ إِلَى مَا يَخْرُجُ مِنْهَا ، فَأتَصَدَّقُ بِثُلُثِهِ ، وَآكُلُ أنَا وَعِيَالِي ثُلُثاً ، وَأردُّ فِيهَا ثُلُثَهُ » .
ولنقف أولاً مع شرح الغريب ، ثم يمكن بعدها أن نُعرِّجَ إلى ما اشتملت عليه القصة من دروس وعبر ..
الحديقة : الْقِطْعَة مِنْ النَّخِيل ، وَيُطْلَق عَلَى الْأَرْض ذَات الشَّجَر.
والفلاة :
قوله  :« فَتَنَحَّى ذَلِكَ السَّحَابُ فَأفْرَغَ مَاءهُ في حَرَّةٍ» : تَنَحَّيْتُ الشيء : قصدته . وَأَمَّا الْحَرَّة بِفَتْحِ الْحَاء فَهِيَ أَرْض مُلَبَّسَة حِجَارَة سُودًا.
قوله :«فإِذَا شَرْجَةٌ مِنْ تِلْكَ الشِّرَاجِ قَدِ اسْتَوْعَبَت ذَلِكَ الماءَ كُلَّهُ» : الشّرْجة : مَسِيل الماء من الحَرَّة إلى السَّهل ، والشَّرْج جنْسٌ لها والشِّرَاج جمعُها .
والمِسحاة : المِجْرَفَة .
هذه القصة اشتملت على دروس عديدة حان وقت الكلام عنها ..
أعظمها : فضل الإنفاق في سبيل الله ..
ولذا قال النووي رحمه الله في شرحه على صحيح مسلم :" وَفِي الْحَدِيث فَضْل الصَّدَقَة وَالْإِحْسَان إِلَى الْمَسَاكِين وَأَبْنَاء السَّبِيل".
النفقة أيها المستمع الكريم هي التجارة التي لا تعرف الخسارة ، قال تعالى : إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَّن تَبُورَ * لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ .
ومن أنفق فهو موعود بخلف رباني كريم ، لقول رب العالمين : وَمَا أنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ .
هل تعلم أخي الكريم أنّ المفق يدعو له ملك كل يوم ، وأنّ الممسك الشحيح البخيل يدعو عليه ملك كل يوم .. فعن عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ  ، أَنَّ النَّبِيَّ  قَالَ :«مَا مِنْ يَوْمٍ يُصْبِحُ الْعِبَادُ فِيهِ إِلَّا مَلَكَانِ يَنْزِلَانِ ، فَيَقُولُ أَحَدُهُمَا : اللَّهُمَّ أَعْطِ مُنْفِقًا خَلَفًا ، وَيَقُولُ الْآخَرُ : اللَّهُمَّ أَعْطِ مُمْسِكًا تَلَفًا»[البخاري ومسلم] .
إنّ المال الذي تقدمه صدقةً هو الذي ستنتفع به ، هو مالك الحقيقي .. عن عائشة رضي الله عنها : أنَّهُمْ ذَبَحُوا شَاةً ، فَقَالَ النبيُّ  «مَا بَقِيَ مِنْهَا» ؟ قالت : مَا بَقِيَ مِنْهَا إِلاَّ كَتِفُها . قَالَ : «بَقِيَ كُلُّهَا غَيْرُ كَتِفِهَا» [خرّجه الترمذي] .
واسمع إلى السؤال الذي تعجب الصحابة منه .. والسائل هو رسول الله  .. قال لهم :« أَيُّكُمْ مَالُ وَارِثِهِ أَحَبُّ إِلَيْهِ مِنْ مَالِهِ» ؟ قَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا مِنَّا أَحَدٌ إِلَّا مَالُهُ أَحَبُّ إِلَيْهِ . قَالَ :«فَإِنَّ مَالَهُ مَا قَدَّمَ ، وَمَالُ وَارِثِهِ مَا أَخَّرَ» [أخرجه البخاري] .
ولذا كان سهل بن عبد الله التُّسْتَرِيُّ يكثر من الإنفاق ؛ فلامه بعضهم في ذلك . فقال لهم : أرأيتم لو أنّ رجلاً أراد أن يرتحل من دارٍ إلى دارٍ هل يُبقي في الأولى شيئاً ؟ قالوا : لا . قال : فإني مرتحل من الدنيا إلى الآخرة .
والصدقة تدخل الجنة وتقي النار ..
تبعد عن النار لقول النبي  :«اتَّقُوا النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ» [أخرجه البخاري] .
وتدخل الجنة لقول الله تعالى : وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاء وَالضَّرَّاء وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ * وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللّهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللّهُ وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ * أُوْلَـئِكَ جَزَآؤُهُم مَّغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ [آل عمران: 133-136]
ولا تقل أخي في الله إنّ الحقوق كثيرة، لا تقل إنّ الفقر لم يبرح رحالنا منذ أمد . ونحو ذلك من الكلام الذي يلقي به الشيطان في روعك ، فتصدق بما تستطيع ولا تعجز ، فالعجر ليس من صفات أهل الإيمان ، ولقد قال رسول الله  :«سَبَقَ دِرْهَمٌ مِائَةَ أَلْفِ دِرْهَمٍ» . قَالُوا : وَكَيْفَ ؟ قَالَ :«كَانَ لِرَجُلٍ دِرْهَمَانِ ، تَصَدَّقَ بِأَحَدِهِمَا ، وَانْطَلَقَ رَجُلٌ إِلَى عُرْضِ مَالِهِ فَأَخَذَ مِنْهُ مِائَةَ أَلْفِ دِرْهَمٍ فَتَصَدَّقَ بِهَا» [أخرجه النسائي] .
من فوائدها :
إثبات الكرامات .. المسلم الحق لا ينكر الكرامة، ولكنه يُفرِّق بين الآية والكرامة والسحر .
الآية ما أيد الله به نبيه .
والكرامة أمر خارق للعادة يجريه الله إكراماً لولي من أوليائه .
والسِّحر ما كان من خارق وجرى على يد فاسق فاجر مشرك.
والكرامة تكون على يد ولي ، والولي يوافق الشرع لا يخالفه ، يفرد الله بالعبادة، لا يدعو الناس إلى أن يعبدوا غير الله ، بخلاف السحرة .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في مجموع الفتاوى في سبعة مواضع :" قَالَ الْأَئِمَّةُ : لَوْ رَأَيْتُمْ الرَّجُلَ يَطِيرُ فِي الْهَوَاءِ أَوْ يَمْشِي عَلَى الْمَاءِ فَلَا تَغْتَرُّوا بِهِ حَتَّى تَنْظُرُوا وُقُوفَهُ عِنْدَ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَلِهَذَا يُوجَدُ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ يَطِيرُ فِي الْهَوَاءِ وَتَكُونُ الشَّيَاطِينُ هِيَ الَّتِي تَحْمِلُهُ لَا يَكُونُ مِنْ كَرَامَاتِ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ الْمُتَّقِينَ ".
تعلمنا القصة أن الإنسان كما يدين يُدان ، والجزاء من جنس العمل ، ولا يظلم ربك أحداً .. فهذا أنفق فأنفق الله عليه ، وفي الحديث عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ  ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ  قَالَ : «قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ : أَنْفِقْ أُنْفِقْ عَلَيْكَ » [خرجه الشيخان] . وقال  لأسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها :«لاَ تُوكِي فَيُوكى عَلَيْكِ» . وفي رواية: «أنفقي ، وَلاَ تُحصي فَيُحْصِي اللهُ عَلَيْكِ ، وَلاَ تُوعي فَيُوعي اللهُ عَلَيْكِ» [متفق عليه] .
استفدنا منها :
فضل الاكتساب من عمل اليد . وقد كان نبي الله داود عليه السلام يأكل من عمل يده ، وأفضل الكسب عمل اليد كما أخبر به النبي  . وفي صحيح البخاري قال نبينا  :«مَا أَكَلَ أَحَدٌ طَعَامًا قَطُّ خَيْرًا مِنْ أَنْ يَأْكُلَ مِنْ عَمَلِ يَدِهِ ، وَإِنَّ نَبِيَّ اللَّهِ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَام كَانَ يَأْكُلُ مِنْ عَمَلِ يَدِهِ» . وسئل رسول الله  : أي الكسب أطيب ؟ فقال :«عمل الرجل بيده ، وكل كسب مبرور» . فهنئاً للعامل الذي يبيت متعباً من عمل يده قد أضناه العمل وأتعبه الكد .. هنيئاً له ثم هنيئاً له .
مما يُستفاد من هذه القصة : فضل النفقة على الأهل والعيال . وهذه من أفضل ما يقرب به المسلم إلى ربه ..
فعن أَبِي هُرَيْرَةَ  قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ  :«دِينَارٌ أَنْفَقْتَهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ، وَدِينَارٌ أَنْفَقْتَهُ فِي رَقَبَةٍ ، وَدِينَارٌ تَصَدَّقْتَ بِهِ عَلَى مِسْكِينٍ ، وَدِينَارٌ أَنْفَقْتَهُ عَلَى أَهْلِكَ ، أَعْظَمُهَا أَجْرًا الَّذِي أَنْفَقْتَهُ عَلَى أَهْلِكَ» [أخرجه مسلم] . وليس معنى هذا أن نهمل المساكين بحجة الإنفاق على الأهل .
وأحرج الطبراني في المعجم الكبير : عَنْ كَعْبِ بن عُجْرَةَ، قَالَ: مَرَّ عَلَى النَّبِيِّ  رَجُلٌ، فَرَأَى أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ  مِنْ جلده وَنَشَاطِهِ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ: لَوْ كَانَ هَذَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ؟، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ  :«إِنْ كَانَ خَرَجَ يَسْعَى عَلَى وَلَدِهِ صِغَارًا فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَإِنْ كَانَ خَرَجَ يَسْعَى عَلَى أَبَوَيْنِ شَيْخَيْنِ كَبِيرَيْنِ فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَإِنْ كَانَ يَسْعَى عَلَى نَفْسِهِ يُعِفُّهَا فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَإِنْ كَانَ خَرَجَ رِيَاءً وَمُفَاخَرَةً فَهُوَ فِي سَبِيلِ الشَّيْطَانِ".
وقال  :« وَلَسْتَ تُنْفِقُ نَفَقَةً تَبْتَغِي بِهَا وَجْهَ اللَّهِ إِلَّا أُجِرْتَ بِهَا ، حَتَّى اللُّقْمَةُ تَجْعَلُهَا فِي فِي امْرَأَتِكَ» [أخرجه البخاري ومسلم] ، وتأمل :«تبتغي بها وجه الله» لتخرج من أسر العادات ، أنفق على أهلك واحتسب ثواب ذلك من ربك ، لقول نبينا  في صحيح مسلم :«إِنَّ الْمُسْلِمَ إِذَا أَنْفَقَ عَلَى أَهْلِهِ نَفَقَةً وَهُوَ يَحْتَسِبُهَا كَانَتْ لَهُ صَدَقَةً» . قال العرباض بن سارية  : سمعت رسول الله  يقول :«إن الرجل إذا سقى امرأته من الماء أجر» . قال : فأتيتها ، فسقيتها ، وحدثتها بما سمعت من رسول الله  . [أخرجه الإمام أحمد في مسنده] . ولقد حذر النبي  من إهمال النفقة على الأهل والولد فقال في سنن أبي داود :«كَفَى بِالْمَرْءِ إِثْمًا أَنْ يُضَيِّعَ مَنْ يَقُوتُ» أي : من يلزومه قوته ونفقته . وفي رواية للنسائي في الكبرى قال  :« كَفَى بِالْمَرْءِ إِثْمًا أَنْ يُضَيِّعَ مَنْ يَعُول» .
وفي الحديث أنّ الله أوكل أمور تدبير الكون للملائكة الكرام عليهم السلام ، كما قال سبحانه : فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا ، فأقسم الله تعالى بالملائكة الذين وكلهم الله أن يدبروا كثيرا من أمور العالم العلوي والسفلي، من الأمطار، والنبات، والأشجار، والرياح، والبحار، والأجنة، والحيوانات، والجنة، والنار ، وغير ذلك.
وفيه أنّ العبد الصالح يُرزق من حيث لا يحتسب ، فهذا المتصدق رزق أمرين :
الأول : رزق من ماء السماء .
الثاني : من يخبره بما يدل على مكانته عند الله . ولو شاء الله لما هيأ له هذا المخبر .



وإلى الدروس القادمة إن شاء الله ، أتمنى أن تعم الفائدة.

التعديل الأخير تم بواسطة أم حاتم عبد المحسن ; 31-12-09 الساعة 12:55 PM
أم حاتم عبد المحسن غير متواجد حالياً