- زين العابدين -
- علي بن الحسين بن علي -
" ما رأيت قرشياً أفضل من علي بن الحسين "
[ الزُهريُّ ]
لقد طُوِيت في ذلك العام الأغَرِّ ( المشرق الطّلعة ) آخر صفحة من صفحات الأكاسرة.
فلقد مات (يَزْدَجُرْد) آخر ملوك الفرس شريداً طريداً...
وسقط أساوِرته ( قادته ) وحرسه , وأهل بيته أَسَارَى فى أيدي المسلمين...
وَسِيقَت الغنائم إلى المدينة المنورة...
وقد كان سبيّ ( ما يستولي عليه المحاربون من النساء والرجال والولدان ) ذلك النصر الكبير كثيراً , وفيراً , ثمنياً، لم تشهد المدينة أكثر منه عدداً ولا أعظم خطراً ( رِفعة مقام وعلو منزلة ) .
وكان بين السبايا بنات (يزدجرد) الثلاث.
***
أقبل الناس على السَّبي فشرَوه في ساعات معدودات، وَرَدُّوا ثمنه إلى بيت مال المسلمين، ولم يبق منه إلا بنات كسرى (يزدجرد)
وكن من أجمل النساء جمالاً...
وأبهاهُنَّ طَلعة
وأنضَرِهِنَّ ( أزهاهنَّ ) شَبَاباً
ولمَّا عُرِضنَ للبيع أطرَقن ( خفضن عيونهن ) إلى الأرض ذلة ومهانة، وفاضت عيونهن حسرة وانكساراً
فَرَقَّ لهنَّ علي بن أبي طالب كرم الله وجهه، وتمنى لو شراهُنّ من يحسن القيام عليهن
ولا غرو ( لا عجب ) فالرسول صلوات الله وسلامه عليه يقول:
(ارحموا عزيز قوم ذل).
فمال على عمر بن الخطاب وقال: يا أمير المؤمنين
إن بنات الملوك لا يُعاملن مُعامَلةَ غَيرِهِنَّ
فقال عمر: صدقت، ولكن كيف؟
فقال علي: يقوّمن ( تجعل لهن قيمة محددة ) ، وَيُغالى بأثمانهنَّ، ثم تُترَك لهنَّ الحُريَّة في اختيار من يَشأنَ مِمَّن يدفع الثمن
فارتاح عمر لذلك , ورضى به , وأنفذه
فاختارت أحداهنَّ عبد الله بن عمر بن الخطاب
واختارت الثانية محمد بن أبى بكر الصديق
أما الثالثة وكانت تدعى شاه زِنَانَ , فاختارت الحسين بن علي سِبط ( ابن ابنته ) الرسول صلوات الله وسلامه عليه
***
أسلمت شاه زنان , وحسن إسلامها
ففازت بدين القَيِّمَة ( دينُ الله المستقيم ) , وأُعتقت من الرِّقِ , فصارت زوجة بعد أن كانت أَمَةً ، وظَفِرت بالحرِّيِّة.
ثم إنها رأت أن تقطع كل صِلة لها بِماضِيها الوثنيّ ، فتخلت عن اسمها شاه زنان ومعناه ملكة النساء , وأصبحت تدعى غزالة..
وقد سَعِدَت غزالة بخير الأزواج، وأَليَقِهِم ( أجدرهم وأولاهم ) بِبَنَات الملوك.
ولم يبقَ من أمانيَّها إلا أن تنعم بالولد
فأكرمها الله , فولدت للحسين غلاما وسيم المحيَّا، بهيّ الطلعة، فسمته علياً تَيَمُّناً باسم جده علي بن أبى طالب رضي الله عنه وأرضاه .
لكن فرحة غزالة لم تدم سوى لحظات...
ذلك لأنها لَبَّت نداء ربها إثر حمى نفاس ( حُمى الولادة التي تصيب بعض النساء ) عاجلتها فلم تترك لها فرصة للتمتع بمولودها.
***
وتولت رعاية الصبي الصغير مولاة له فأحبته فوق ما تحب أم ولدها ... ورعته أكثر مما ترعى والدة وحيدها...
فنشأ وهو لا يعرف له أُمَّا غيرها...
***
ما كاد أن يبلغ سن التمييز ( سن الوعي والقدرة على طلب العلم ) , حتى أقبل على طلب العلم بشغف وشوق، وكانت مدرسته الأولى بيته، أكرم به من بيت، وكان مُعلمه الأول والده الحسين بن علي، أعظم به من مُعلِّم.
أما مدرسته الثَّانية , فمسجد الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم
وكان المسجد النبوي الشريف – يومئذ - يموج بالبقية الباقية من صحابة الرسول الكريم، ويزخر بالطبقة الأولى من كبار التابعين
وكان هؤلاء وهؤلاء يفتحون قلوبهم لهذه الأكمام ( الغلاف الذي يُحيط بالزهر والورد ) المزدهرة من أبناء الصحابة الكرام فيُقرئونهم كتاب الله عز وجل، ويُفقهونهم فيه
ويروون لهم حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ... وَيقِفونَهُم على مراميه ( مقاصده وأهدافه )
ويقصّون عليهم سيرة الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم ومَغازيه
وينشدونهم شِعر العرب , ويُبَصِّرونهم بِمواطِن جماله ...
ويملأُون قلوبهم الغضّة بِحب اللهِ عزَّ وجلَّ , وخشيتِهِ , وتقواه ...
فإذا هم علماء عاملون , وهُداة مهدِيُّون .
***
لكن علي بن الحسين لم يتعلق قلبه بشيءٍ كما تعلق بكتاب الله عز وجل، ولم تهتز مشاعره لأمرٍ كما كانت تهتزُّ لِوَعدِهِ ( الوعد بما يَسُرُّ ) ووعيده ( بما يخيف )
فإذا قرأ آية فيها ذكر الجنة , طار فؤاده شوقاً إليها
وإذا سَمِعَ آية فيها ذكر النار , زَفَرَ زَفرَةً ( أخرج نفساً طويلاً حاراً - متصعداً ) كأن لهيب جهنم في أحشائِهِ.
وما إن اكتمل علي بن الحسين شباباً وعِلماً , حتى ظفر المجتمع المدني الأمثل بفتًى من أعمق فتيان بني هاشم عبادة وتُقى
وأعظمِهم فَضلاً وخُلُقاً
وأكثرهم إحساناً وبِّراً
وأوسَعِهِم مَعرِفة وعلماً
فلقد بلغ من عبادته وتقواه , أنه كانت تأخذه رَعدةٌ ( هزة تحصل من الإنفعال ) بين وضوئه وصلاته، فتنفض جسده نفضاً
فلما كُلِّمَ فى ذلك قال:
ويحكم!!
كأنكم لا تدرون إلى من أقوم
ولا تعلمون من أريد أن أناجي
***
وقد بلغ من إحسان الفتى الهاشمي لعبادته وإتقانه لشعائره , أن دَعَاه الناس زين العابدين, حتى نسى قومه اسمه أو كادوا، وآثروا ( فضلوا ) لقبه هذا على اسمِهِ
وقد بلغ من إطالته لسجوده واستغراقه فيه أن ناداه أهل المدينة بالسجاد ( المغرق في السجود المُطيل فيه ) .
وقد بلغ من صفاء نفسه ونقاء قلبه أن نعتوه بالزكي (أي الخالص من الذنوب).
وكان زين العابدين رضوان الله عليه يُوقن أن مُخَّ العبادة ( روحها وأعظم ما فيها ) الدُعاء
وكان يطيب له الدعاء أكثر ما يطيب وهو مُتعلِّق بأستار الكعبة
فَلَكَم التزم البيت العتيق وجعل يقول:
ربِّ لقد أذقتني من رحمتك ما أذقتني
وأوليتني ( أسبغت علي وأفضت ) من إنعامَك ما أوليتني
فصِرت أدعوك آمِنا من غير وَجَلٍ ( خوف )
وأسألك مستأنساً من غير خوف
ربِّ إني أتوَسَّل إليك تَوسُّل من اشتدَّت فاقته ( فقره واحتياجه ) إلى رحمتك
وَضعُفت قوته عن أداء حقوقك
فاقبل مني دعاء الغريق الغريب الذي لا يجد لإنقاذه إلا أنت يا أكرم الأكرمين.