عرض مشاركة واحدة
قديم 26-07-11, 07:33 PM   #3
سهام بنت عبد الفتاح
عضوة بفريق العمل الفني
افتراضي





الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، ومصطفاه وخليله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، وسلم تسليمًا كثيرًا، أما بعد:
فإن الإنسان مبتلى في هذه الحياة بمرضين خطيرين يصيبان قلبه، فيؤثران على جوارحه، وينحرفان بفكره وتصوره، ويسلمانه إلى الردى والهلاك، إنهما مرض الجهل والظلم، الذين وصف الله بهما الإنسان في قوله: {إنا عرضنا الأمانة على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنا وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلومًا جهولاً}.
عن الضحاك في قوله: {إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولا} قال: ظلومًا لنفسه، جهولا فيما احتمل فيما بينه وبين ربه.
وعن ابن عباس: {إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولا} غِرٌّ بأمر الله.
وعن قتادة {إِنَّه كَانَ ظَلُومًا جَهُولا} قال: ظلومًا لها يعني الأمانة، جهولا عن حقها.
فمعنى {كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً} أنه قصر في الوفاء بحق ما تحمله تقصيرًا بعضه من عمد، وهو المعبر منه بوصف ظلوم، وبعضه عن تفريط في الأخذ بأسباب الوفاء، وهو المعبر عنه بكونه جهولا، فظلوم مبالغة في الظلم، وكذلك جهول مبالغة في الجهل.
والظلم: الاعتداء على حق الغير، وأريد به هنا الاعتداء على حق الله الملتزم له بتحمل الأمانة، وهو حق الوفاء بالأمانة، ومن اعتدى على حق ربه، فلن يستغرب اعتداؤه على حق خلقه.
والجهل: انتفاء العلم بما يتعين علمه، والمراد به هنا: انتفاء علم الإنسان بمواقع الصواب فيما تحمل به.
ويجوز أن يراد {ظَلُوماً جَهُولاً} في فطرته، أي في طبعه الظلم والجهل، فهو معرَّضٌ لهما، ما لم يعصمه وازع الدين، فكان من ظلمه وجهله أن أضاع كثيرٌ من الناس الأمانة التي حملوها.
ولما ابتلى الله الإنسان بهاتين الصفتين شرع له من الشرائع ما يعين على دفعهما، وشفاء القلب منهما، ومن أعظم ذلك عبادة الصيام، الذي هو ركن من أركان الإسلام، ولولا أهميته في حياة المسلم وأثره العظيم في استقامة القلب وصلاحه، وشفائه من الأمراض لما افترضه الله علينا، وألزمنا بفعله.
ومما يدل على أثر الصيام في شفاء القلب من هذين المرضين ما رواه البخاري في صحيحه عن أبي هريرة قال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم: ((مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ وَالْعَمَلَ بِهِ والجهل فَلَيْسَ لِلَّهِ حَاجَةٌ فِي أَنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ)).
وفي الحديث الصحيح المتفق عليه عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: ((والصيام جنة، وإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب، فإن سابه أحد أو قاتله فليقل إني امرؤ صائم)).
فتأمل في الحديث الأول كيف أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قرن بين الصيام وبين كف النفس عن الكذب، والاعتداء على حقوق الناس بالزور عليهم، وعن السفه والجهالة عليهم، وأن من لم يردعه الصيام عن ذلك، فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه من أجله.
وفي الحديث الثاني جعل الصيام جنة، والجنة هي الوقاية، وهي وقاية مطلقة، فيدخل فيها الوقاية من كل مكروه، وأعلى أنواع الوقاية أن يقيه من النار، ويدخل فيها وقاية النفس عن خدش صيامها بفعل ما يورث الضغينة، أو الاعتداء، ولهذا أمر الصائم بترك الرفث والصخب.
إن الصيام عبادة سلبية كفية، قوامها وأساسها ترك الفعل، وليس إيجاده، ولهذا كان ركنه الأساس النية، وهي عمل قلبي باطن، تدل عليه الجوارح، ولأجل ذلك لا يعلم كون الشخص صائمًا ما لم يُسأل، ولا يكفي امتناعه عن الأكل والشرب للدلالة على كونه صائمًا؛ إذ يمتنع عنهما استغناء، أو لمرض، أو حياءً، فإذا أَخبر بأن امتناعه لأجل الصيام، فقد أظهر هذه النية وأبانها، وتبين أنه كف عن فعل شيء نافع في الظاهر، ولا يستغني عنه الإنسان في حياته -وهو الأكل والشرب والشهوة-؛ طاعة لله تبارك وتعالى وطلبًا لمرضاته.
ومن استطاع أن يفعل ذلك فقد أبان عن قوة نفسية على مغالبة إرادته وهواه في طلبهما للأشياء؛ لأن الذي يقدر على منع نفسه من فعل ما فيه منفعتها، وما فيه استقامة بدنه وبقائه، ألا يستطيع أن يمتنع عن ظلم الناس والبغي عليهم، الذي لا حاجة له به، ولا شيء يدعوه إليه، إلا استغلال ضعفهم، والتكثر بسلب أموالهم، والتسلط على أعراضهم؟!!
أفلا يستطيع أن يمنع الظلم عن نفسه، التي أمر بتزكيتها وتطهيرها، وعدم تدسيتها؟
هذه النفس التي تطلب الراحة والاستقرار، والارتباط بالواحد القهار، يظلمها صاحبها حين يصرفها إلى غيره، فيشرك به، أو يجحد نعمه، ويكفر فضله، وينكر وجوده وقدرته وقوته وقهره، أو يغرق نفسه في الشهوات؛ من الفواحش والآثام، فتكون محلا لما يستقذر من الأفعال والأقوال، فيخسر نفسه، كما قال تعالى: {الذين خسروا أنفسهم فهم لا يؤمنون}، وقال تعالى: {إن الخاسرين الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة ألا ذلك هو الخسران المبين}.
وما أحسن قول الشاعر:
أُثامِنُ بالنفـسِ النفيـسةِ ربَّهـا وليس لهـا مِن الخلْقِ كُلِّهم ثمنُ
بها تُدرَكُ الأُخرى؛ فإن أنا بعتُهُا بشيءٍ من الـدُّنيا فذاكَ هو الغبنُ
لئن ذهَبَتْ نفسي بدُنْيا أصبْتُهُـا لقد ذَهبَتْ نفسي، وقدَ ذهَبَ الثمنُ
إن الله لم يشرع الصيام لنُحرم من الأكل والشرب ساعاتَ النهار، ولكنَّ المقصودَ أن نكسِر شهوات النفس، ونمسك عِنان اللسان عن تتبع العورات، والخوضِ بالباطل، ونحفظَ الجوارح عن ارتكاب ما حرم الله، {لَن يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِن يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنكُمْ} [سورة الحـج 22/37].
وإنما يمتنع العبد عن الظلم بعد معرفته لقبحه، وسوء عاقبته، فيرتفع بذلك عن الجهل، ويعلم فضل الله عليه، وسابغ نعمه، وأحقيته بالتوحيد وإخلاص القلب له، وهذا أعظم العلم وأشرفه؛ لأنه يقود لكل خير، وينهى عن كل شر، فمن عرفه فما يضره ما جهل بعد ذلك، ومن جهله فما ينفعه ما علم بعد ذلك.
هذه إطلالة سريعة على حكمة من حكم هذه العبادة العظيمة، وما أحقها بالتأمل والنظر، وربط عبادة الصيام بها؛ ليكون الصوم زادًا إلى ربنا، وعونًا لنا على مواصلة الطريق إليه.
والله أعلم وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله

رابط تحميل العدد
http://www.t-elm.net/moltaqa/showthread.php?t=44090

سهام بنت عبد الفتاح غير متواجد حالياً