المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : الحــلـم .. وأثره في سعادة الحياة الفردية والأجتماعية ..


أم أســامة
25-10-06, 08:11 PM
الحــلـم .... وأثره في سعادة الحياة الفردية والأجتماعية ...

ترغب النفوس في أشياء , وتنفر من أخرى وفي النفوس طبيعة غضب تثور عند منعها مما ترغب فيه , أوعند ملاقاتها لما تنفر منه .

ومن المخل بنظام حياة الأفراد والجماعات : إطلاق العنان لقوة الغضب , تثور كلما منعت النفوس مما تحب , أو لقيت ما تكره , بل الحكمة أن تكون قوة الغضب خاضعة للعقل خضوعاً يجري في النفس مجرى الطبيعة , حتى لا تهيج إلا للأمر الذي ينبغي أن تهيج له , وفي الوقت الذي ينبغي أن تهيج فيه , ولا تتجاوز الحد الذي ينبغي أن تقف عنده .

ومن بلغ أن تكون قوة غضبه منقادةً للعقل , جارية على مقتضى العلم : فهو الحليم بحق .

وليس من شرط الحلم أن يفقد الرجل قوة الغضب بحيث يكون حاله أمام الإساءة وعدمها سواء ً , وإنما شرط الحلم أن لا يطغى الغضب حتى يدفع الرجل إلى الانتقام , أو يمنعه من الصفح حيث يكون الصفح اولى به .

فالحليم قد يأخذه الغضب لجهل جاهل عليه , لكنه يكظم غيظه حتى لا يكون له اثر في غير نفسه :

ولربما ابتسم الكريم من الأذى ...... وفؤاده من حره يتــأوّه

وقد يسلم من الغضب للأمر الذي يستشيط له الأحمق غضباً .
والحلم لا يعارض الأخذ بالحزم , شأن الفضائل , يأخذ بعضها بيد بعض وتتلاقى لتتعاون على البروالتقوى , فإذا كان الحلم سكون النفس وعدم تهيجها للمكروه الذي يكفي في دفعهالصفح عنه : فإن من الحزم الغضب للأذى الذي يصدر عن لؤم , ويتمادى ولو مع الإغضاء عنه , قال االمتنبي :

إذا قيل : رفقاً , قال : للحلم موضع ...... وحلم الفتى في غير موضعه جهل

وقال النابغة :

ولا خير في حلم إذا لم تكن له ...... بوادر ُ تحمي صفوه أن يكدّرا

وقال الحسين بن عبد الصمد يمدح بعض الأمراء :

عجبوا لحلمك أن تحول سطوة ...... وزلال خلقك كيف عاد مكدرا
لا تعجبوا من رقة وقساوة ...... فالنار تقدح من قضيب أخضر

وقال آخر :

أناة , فإن لم تغن ِ عقب بعدها ...... وعيداً , فإن لم يغن ِ أغنت عزائمه

والحليم لا يشتبه بالذلة في حال , فإن الذلة احتمال الأذى على وجه يذهب بالكرامة , أماالحلم فهو إغضاء الرجل عن المكروه حيث يزيده الإغضاء في أعين الناس رفعة ومهابة :

سياسة الحلم لابطش يكدرها ...... فهو المهيب ولاتخشى بوادره

ولايظهر معنى الحلم إلا مع القدرة على دفع الأذى باليد أو اللسان , لهذا نرى كثيراً من الشعراء متى أرادوا مدح شخص بمزية الحلم , نبهوا على أنه يصفح وهو قادر على أن يجزي السيئة بمثلها , او بما هو أكبر منها , كما قال ابن زمرك يمدح سلطان غرناطة :

ويغضي العوراء إغضاء قادر ٍ ...... ويرجح في الحلم الجبال الرواسيا


ونراهم متى أرادوا الفخر بالحلم أشاروا إلى قدرتهم على مقابلة السوء بمثله . كما قال عمر بن قيس :

وذي ضغن كففت النفس عنه ...... وكنت على مساءته قديرا
ولو أني اشاء كسرت منه ...... مكاناً لا يطيق له جبورا ً

وكل الأخلاق في حاجة على أن تتعهد بالتربية والتهذيب , وأشدها حاجة على أن ذلك التعهد : الحلم , ولم نسمع أحداً قال : ترددنا على فلان لنأخذ عنه الشجاعة أو الكرم مثلاً , ولكن الأحنف بن قيس يقول : لقد اختلفنا إلى قيس بن عاصم في الحلم , كما نختلف إلى الفقهاء في الفقه .

وكثيراً ما يشكو الأدباء من قلة الحلم في الناس ,قال بعضهم :
من لي بإنسان إذا أغضبته ...... وجهلتُ : كان الحلم رد جوابه ِ
وقال أبو العتاهية :

عذيري من الإنسان ما إن جفوته ...... صفا لي , ولا إن صرت طوع يديه ِ
وإني لمشتاق إلى ظل صاحب ....... يرق ويصفو إن كدرت عليهِ

ويروى أن الخليفة المأمون لما سمع هذين البيتين قال : خذوا مني الخلافة وأعطوني هذا الصاحب .

أم أســامة
25-10-06, 08:13 PM
ومكارم الأخلاق كلها خير , وكل مكرمة ترفع صاحبه في درجة أو درجات , ومن اعظمها أثراً في سعادة حياة الأفراد والجماعات : خلق الحلم .

ويكفي الحلم شرفاً أن اسمه أخذ من بين أسماء الفضائل , وسمي به العقل , ومن الحكم الذائعة في كتب الأدب قولهم : ما أضيف شيء على شيء أزين من حلم إلى علم , ومن عفو إلى مقدرة .

يقطع الحلم شراً لو قوبل بمثله لتمادى أو عظم خطره , قال ايوب : حلم ساعة يرفع شراً كبيراً . وقال الأحنف : من لم يصبر على كلمة سمع كلمات , ورب غيظ تجرعته ُ مخافة ما هو شر منه .

وقد يضع الحلم مكان الضغينة مودة , ذلك أن الفضيلة محبوبة في نفسها , وتدعوا إلى إجلال من يتمسك بها و وقد نبه القرآ ن المجيدلهذه الحكمة :{ ادفع بالتى هى احسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولى حميم } ( فصلت : 34 )

وبالحلم يحفظ الرجل عن نفسه عزتها , إذ يرفعها عن مجاراة الطائفة التي تلذ المهاترة والإقذاع , كان عروة بن الزبير إذا أسرع إليه أحد بشتم أول قول سوء , لم يجبه وقال : إني اتركك رفعاً لنفسي عنك .

ونرى الناس في جانب الحليم , متى كان خصمه أو مناظرة ينحدر في جهالة , ولايندى جبينه أن يقول سوءاً , قال علي بن أبي طالب : " حلمك على السفيه يُكثر أنصارك عليه "

ومن فضل الحلم أن الرياسة صغيرة كانت أو كبيرة , لا ينتظم أمرها إلا أن يكون الرئيس راسخاً في خلق الحلم , قال معاوية لعرابة بن أوس : بما سدت يا عرابة ؟ قال : يا أمير المؤمنين : " كنت أحلم على جاهلهم , وأعطي سائلهم , وأسعى في قضاء حوائجهم " .

وذلك أن الناس يكرهون جافي الطبع , ولا يجتمعون حول من يأخذه الغضب لأدنى هفوة إلا أن يساقوا إليه سوقاً , فمن قل نصيبه من الحلم قل أنصاره , وذهبتمن قلوب الناس مودته , والرئيس بحق : من يملك القلوب قبل أن يبسط سلطانه على الرقاب .

ثم عن أعز غاية تعمل لها الجماعات : التمتع بنعمة الحرية , ولاتظفر الجماعات بهذه البغية إلا أن يكون الماسك بزمام سياستها على جانب عظيم من الحلم , فإن الحليم هو الذي يقدم الناس على نقد تصرفاته , ويصرحون له بآرائهم فيما لا يرضون من أعمال . أغلظ رجل إلى معاوية بن أبي سفيان القول , فحلم عنه , فقيل له : أتحلم عن هذا ؟ فقال : إني لا أحول بين الناس وبين ألسنتهم ما لم يحولوا بيننا وبين سلطاننا .

ويعجبني من الشعر المعبر عن الحلم البالغ : أبيات محمد بن عمير المعروف بالمقنع الكندي التي يقول فيها :

وإن الذي بيني وبين بني أبي ...... وبين بني عمي : لمختلف جداً
فإن أكلوا لحمي وفرت لحومهم ...... وإن هدموا مجدي بنيت لهم مجداً

حتى قال :
ولا أحمل الحقد القديم عليهم ...... وليس رئيس القوم من يحمل الحقدا

ونرى الرؤساء الأذكياء , يقصدون إلى الوسائل التي قد تثير غضبهم على طائفة الأمة فيقطعونها .لما انتهت فتنة ابن المعتز , وعاد المقتدر إلى الخلافة , واستوزر علي بن الفرات , حمل إلى هذا الوزير من دار ابن المعتز صندوقان عظيمان فيهما جرائد بأسماء من بايعوا ابن المعتز , فلم يفتحها الوزير , ورمى بهما في النار و وقال : لو فتحتهما وقرأت ما فيهما فسدت نيات الناس علينا .

فسد ابن الفرات بهذه السياسة باب الغضب على أشخاص قد يدفع الغضب عليهم على فتنة لا يدري كيف تكون عاقبتها .

وإذا وجد الناس في التغلب على الغضب عسراً , فغن لدى الرؤساء أولي القوة ما يجعلهم أقرب إلى الحلم من غيرهم , وهو القدرة على الانتقام من المسيء متى شاءوا , فإن القدرة من وراء حاجته .

والشعور بالقدرة على مجازاة المسيء إن لم يؤد إلى الصفح عنه , فإنه يساعد في الاقل على التمهل في العقوبة , فإن اندفاع الرجل على العقوبة عند ثورة الغضب قد يلقي به في العقاب على السيئة بأعظم منها و قال مروان بن الحكم في وصيته لابنه عبدالعزيز عندما ولاه عاملاً على مصر : " إن كان بك غضب على أحد من رعيتك فلا تؤاخذه به عند ثورة الغضب و واحبس عقوبتك حتى يسكن غضبك , ثم يكون منك ما يكون وأنت ساكن الغضب , مطفأ الجمرة " .

وأعظم فوائد الحلم : الفوز برضا الخالق جل شأنه و فإنه قد دعا إليه في آيات كثيرة و قال تعالى : { والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين } .وقال تعالى :{ وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاماً } ( الفرقان : 63 ) .

وكثير من المؤمنين يؤذون فيضبطون أنفسهم عند الغضب , ابتغاء رضا الخالق تعالى اسمه .

شتم رجل عمر بن ذر فقال لله : إني أمت مشاتمة الرجل ضغيراً , فلن أحييها كبيراً وإني لا أكافىء من عصى الله فيَّ بأكثر من ان أطيع الله فيه .

وصفوة الحديث :

أن الحلم يحتاج إليه عميد الأسرة في منزله , والتاجر في محل تجارته , والعالم في مجلس دراسته , والقاضي في مقطع أحكامه والرئيس الأعلى في سياسة رعيته و بل يحتاج إليه كل إنسان مادام الإنسان مدنياً بالطبع , لا يمكنه أن يعتزل الناس جملة , ويعيش في وحدة مطلقة .

دار القاسم

بتصرف

أم اليمان
26-10-06, 05:55 AM
موضوع رائع جدا جدا

سلمت أختي الحبيبة شذا الرياض جزاك الله كل خير
ونفع الله بك

بُوركتِ ووُفقتِ

أم أســامة
28-10-06, 10:43 PM
وإيااكِ يا أم اليمان ..

حفظكِ الله ورعاك....

أم البراء
17-10-07, 06:34 PM
فعلا موضوع قيم وجميل ..
جزاك الله خيرا يا أم أسامة :)