المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : درس شرح الشيخ محمد بن صالح العثيمين لكتاب التوحيد


نور الزعبي
29-01-12, 06:16 PM
شرح كتاب التوحيد لمحمد بن صالح العثيمين

الجزء الأول
بسم الله الرحمن الرحيم
وبه نستعين، وعليه نتوكل
قال الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله‏:‏ كتاب التوحيد‏.‏
لم يذكر في النسخ التي بأيدينا خطبة للكتاب من المؤلف، فإما أن تكون سقطت من النساخ وإما أن يكون المؤلف اكتفى بالترجمة لأنها عنوان على موضوع الكتاب وهو التوحيد، وقد ذكر المؤلف في هذه الترجمة عدة آيات‏.‏
والكتاب بمعنى‏:‏ مكتوب أي مكتوب بالقلم، أو بمعنى مجموع من قولهم‏:‏ كتيبة وهي المجموعة من الخيل‏.‏
والتوحيد في اللغة‏:‏ مشتق من وحد الشيء إذا جعله واحدًا، فهو مصدر وحد يوحد، أي‏:‏ جعل الشيء واحدًا‏.‏
وفي الشرع‏:‏ إفراد الله - سبحانه - بما يختص به من الربوبية والألوهية والأسماء والصفات‏.‏
* أقسامه‏:‏ ينقسم التوحيد إلى ثلاثة أقسام‏:‏
1- توحيد الربوبية‏.‏ 2- توحيد الألوهية‏.‏ 3- توحيد الأسماء والصفات‏.‏
وقد اجتمعت في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 65‏]‏‏.‏
* القسم الأول ‏:‏ توحيد الربوبية‏:‏
هو إفراد الله - عز وجل - بالخلق، والملك، والتدبير‏.‏
فإفراده بالخلق‏:‏ أن يعتقد الإنسان أنه لا خالق إلا الله، قال تعالى‏:‏ ‏{‏أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 54‏]‏، فهذه الجملة تفيد الحصر لتقديم الخبر؛ إذ إن تقديم ما حقه التأخير يفيد الحصر، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ‏}‏ ‏[‏فاطر‏:‏ 3‏]‏؛ فهذه الآية تفيد اختصاص الخلق بالله، لأن الاستفهام فيها مشرب معنى التحدي‏.‏
أما ما ورد من إثبات خلق غير الله؛ كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 14‏]‏، وكقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في المصورين‏:‏ يقال لهم ‏(‏أحيوا ما خلقتم‏)‏ ‏[‏البخاري‏:‏ كتاب اللباس/ باب عذاب المصورين يوم القيامة، ومسلم‏:‏ كتاب اللباس والزينة/ باب تحريم صورة الحيوان‏.‏‏]‏‏.‏
فهذا ليس خلقًا حقيقة، وليس إيجادًا بعد عدم، بل هو تحويل للشيء من حال إلى حال، وأيضًا ليس شاملًا، بل محصور بما يتمكن الإنسان منه، ومحصور بدائرة ضيقة؛ فلا ينافي قولنا‏:‏ إفراد الله بالخلق‏.‏
وأما إفراد الله بالملك‏:‏
فأن نعتقد أنه لا يملك الخلق إلا خالقهم؛ كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 19‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏قُلْ مَن بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 88‏]‏‏.‏
وأما ما ورد من إثبات الملكية لغير الله؛ كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 6‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏أَوْ مَا مَلَكْتُم مَّفَاتِحَهُ‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 61‏]‏، فهو ملك محدود لا يشمل إلا شيئًا يسيرًا من هذه المخلوقات؛ فالإنسان يملك ما تحت يده، ولا يملك ما تحت يد غيره، وكذا هو ملك قاصر من حيث الوصف؛ فالإنسان لا يملك ما عنده تمام الملك، ولهذا لا يتصرف فيه إلا على حسب ما أذن له فيه شرعًا، فمثلًا‏:‏ لو أراد أن يحرق ماله، أو يعذب حيوانه؛ قلنا‏:‏ لا يجوز، أما الله - سبحانه ـ فهو يملك ذلك كله ملكًا عامًا شاملًا‏.‏
وأما إفراد الله بالتدبير‏:‏
فهو أن يعتقد الإنسان أنه لا مدبر إلا الله وحده؛ كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ أَمَّن يَمْلِكُ السَّمْعَ والأَبْصَارَ وَمَن يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيَّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَن يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلاَلُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 30‏:‏ 31‏]‏‏.‏
وأما تدبير الإنسان؛ فمحصور بما تحت يده، ومحصور بما أذن له فيه شرعًا‏.‏ وهذا القسم من التوحيد لم يعارض فيه المشركون الذين بعث فيهم الرسول صلى الله عليه وسلم، بل كانوا مقرين به، قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 9‏]‏، فهم يقرون بأن الله هو الذي يدبر الأمر، وهو الذي بيده ملكوت السماوات والأرض، ولم ينكره أحد معلوم من بني آدم؛ فلم يقل أحد من المخلوقين‏:‏ إن للعالم خالقين متساويين‏.‏
فلم يجحد أحد توحيد الربوبية، لا على سبيل التعطيل ولا على سبيل التشريك، إلا ما حصل من فرعون؛ فإنه أنكره على سبيل التعطيل مكابرة؛ فإنه عطل الله من ربوبيته وأنكر وجوده، قال تعالى حكاية عنه‏:‏ ‏{‏فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى‏}‏ ‏[‏النازعات‏:‏ 24‏]‏، ‏{‏مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 38‏]‏‏.‏ وهذا مكابرة منه لأنه يعلم أن الرب غيره؛ كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا‏}‏ ‏[‏النمل‏:‏ 14‏]‏، وقال تعالى حكاية عن موسى وهو يناظره‏:‏ ‏{‏لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنزَلَ هَؤُلاء إِلاَّ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 102‏]‏؛ فهو في نفسه مقر بأن الرب هو الله -عز وجل-‏.‏
وأنكر توحيد الربوبية على سبيل التشريك المجوس، حيث قالوا‏:‏ إن للعالم خالقين هما الظلمة والنور، ومع ذلك لم يجعلوا هذين الخالقين متساويين، فهم يقولون‏:‏ إن النور خير من الظلمة؛ لأنه يخلق الخير، والظلمة تخلق الشر، والذي يخلق الخير خير من الذي يخلق الشر‏.‏
وأيضًا؛ فإن الظلمة عدم لا يضيء، والنور وجود يضيء؛ فهو أكمل في ذاته‏.‏
ويقولون أيضًا بفرق ثالث، وهو‏:‏ أن النور قديم على اصطلاح الفلاسفة، واختلفوا في الظلمة، هل هي قديمة، أو محدثة‏؟‏ على قولين‏.‏
دلالة العقل على أن الخالق للعالم واحد‏:‏
قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِن وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَّذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 91‏]‏، إذ لو أثبتنا للعالم خالقين؛ لكان كل خالق يريد أن ينفرد بما خلق ويستقل به كعادة الملوك؛ إذا لا يرضى أن يشاركه أحد، وإذا استقل به؛ فإنه يريد أيضًا أمرًا آخر، وهو أن يكون السلطان له لا يشاركه فيه أحد‏.‏
وحينئذ إذا أرادا السلطان؛ فإما أن يعجز كل واحد منهما عن الآخر، أو يسيطر أحدهما على الآخر؛ فإن سيطر أحدهما على الآخر ثبتت الربوبية له، وإن عجز كل منهما عن الآخر زالت الربوبية منهما جميعًا؛ لأن العاجز لا يصلح أن يكون ربًّا‏.‏
القسم الثاني‏:‏ توحيد الألوهية‏:‏
ويقال له‏:‏ توحيد العبادة باعتبارين؛ فاعتبار إضافته إلى الله يسمى‏:‏ توحيد الألوهية، وباعتبار إضافته إلى الخلق يسمى توحيد العبادة‏.‏
وهو إفراد الله - عز وجل - بالعبادة‏.‏
فالمستحق للعبادة هو الله تعالى، قال تعالى‏:‏ ‏{‏ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ الْبَاطِلُ‏}‏ ‏[‏لقمان‏:‏ 30‏]‏‏.‏
والعبادة تطلق على شيئين‏:‏
الأول‏:‏ التعبد‏:‏ بمعنى التذلل لله - عز وجل - بفعل أوامره واجتناب نواهيه؛ محبة وتعظيمًا‏.‏
الثاني‏:‏ المتعبد به؛ فمعناها كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله‏:‏ ‏)‏اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة‏(‏‏.‏
مثال ذلك‏:‏ الصلاة؛ ففعلها عبادة، وهو التعبد، ونفس الصلاة عبادة، وهو المتعبد به‏.‏
فإفراد الله بهذا التوحيد‏:‏ أن تكون عبدًا لله وحده تفرده بالتذلل؛ محبة وتعظيمًا، وتعبده بما شرع، قال تعالى‏:‏ ‏{‏لاَّ تَجْعَل مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَّخْذُولاً‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 22‏]‏‏.‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏الْحَمْدُ للَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ‏}‏ ‏[‏الفاتحة‏:‏ 2‏]‏؛ فوصفه سبحانه بأنه رب العالمين كالتعليل لثبوت الألوهية له؛ فهو الإله لأنه رب العالمين، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 21‏]‏؛ فالمنفرد بالخلق هو المستحق للعبادة‏.‏
إذ من السفه أن تجعل المخلوق الحادث الآيل للفناء إلهًا تعبده؛ فهو في الحقيقة لن ينفعك لا بإيجاد ولا بإعداد ولا بإمداد، فمن السفه أن تأتي إلى قبر إنسان صار رميمًا تدعوه وتعبده، وهو بحاجة إلى دعائك، وأنت لست بحاجة إلى أن تدعوه؛ فهو لا يملك لنفسه نفعًا لا ضرًا؛ فكيف يملكه لغيره‏؟‏‍‏!‏
وهذا القسم كفر به وجحده أكثر الخلق، ومن أجل ذلك أرسل الله الرسل، وأنزل عليهم الكتب، قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 25‏]‏‏.‏
ومع هذا؛ فأتباع الرسل قلة، قال عليه الصلاة والسلام‏:‏ ‏(‏أفرأيت النبي ومعه الرهط، والنبي ومعه الرجل والرجلان، والنبي ليس معه أحد‏)‏ ‏[‏البخاري‏:‏ كتاب الطب/باب من أكتوى أو كوى غيره، ومسلم‏:‏ كتاب الإيمان/باب الدليل على دخول طوائف من المسلمين الجنة بغير حساب ولا عذاب‏.‏‏]‏‏.‏
* تنبيه‏:‏
من العجب أن أكثر المصنفين في علم التوحيد من المتأخرين يركزون على توحيد الربوبية، وكأنما يخاطبون أقوامًا ينكرون وجود الرب - وإن كان يوجد من ينكر الرب ـ لكن ما أكثر المسلمين الواقعين في شرك العبادة‍‍‏!‏‏!‏‏.‏
ولهذا ينبغي أن يركز على هذا النوع من التوحيد حتى نخرج إليه هؤلاء المسلمين الذين يقولون بأنهم مسلمون، وهم مشركون، ولا يعلمون‏.‏
القسم الثالث‏:‏ توحيد الأسماء والصفات‏:‏
وهو إفراد الله - عز وجل - بما له من الأسماء والصفات‏.‏
وهذا يتضمن شيئين‏:‏
الأول‏:‏ الإثبات، وذلك بأن نثبت لله - عز وجل - جميع أسمائه وصفاته التي أثبتها لنفسه في كتابه أو سنة نبيه ـ صلى الله عليه وسلم ـ‏.‏
الثاني‏:‏ نفى المماثلة، وذلك بأن لا نجعل لله مثيلًا في أسمائه وصفاته؛ كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 11‏]‏‏.‏ فدلت هذه الآية على أن جميع صفاته لا يماثله فيها أحد من المخلوقين؛ فهي وإن اشتركت في أصل المعنى، لكن تختلف في حقيقة الحال، فمن لم يثبت ما أثبته الله لنفسه؛ فهو معطل، وتعطيله هذا يشبه تعطيل فرعون، ومن أثبتها مع التشبيه صار مشابهًا للمشركين الذين عبدوا مع الله غيره، ومن أثبتها بدون مماثلة صار من الموحدين‏.‏
وهذا القسم من التوحيد هو الذي ضلت فيه بعض الأمة الإسلامية وانقسموا فيه إلى فرق كثيرة؛ فمنهم من سلك مسلك التعطيل، فعطل، ونفى الصفات زاعمًا أنه منزه لله، وقد ضل، لأن المنزه حقيقةً هو الذي ينفي عنه صفات النقص والعيب، وينزه كلامه من أن يكون تعمية وتضليلًا، فإذا قال‏:‏ بأن الله ليس له سمع، ولا بصر، ولا علم، ولا قدرة، لم ينزه الله، بل وصمه بأعيب العيوب، ووصم كلامه بالتعمية والتضليل، لأن الله يكرر ذلك في كلامه ويثبته، ‏[‏سميع بصير‏]‏، ‏[‏عزيز حكيم‏]‏، ‏[‏غفور رحيم‏]‏، فإذا أثبته في كلامه وهو خال منه؛ كان في غاية التعمية والتضليل والقدح في كلام الله - عز وجل ـ ومنهم من سلك مسلك التمثيل زاعمًا بأنه محقق لما وصف الله به نفسه، وقد ضلوا لأنهم لم يقدروا الله حق قدره؛ إذا وصموه بالعيب والنقص، لأنهم جعلوا الكامل من كل وجه كالناقص من كل وجه‏.‏
وإذا كان اقتران تفضيل الكامل على الناقص يحط من قدره، كما قيل‏:‏
ألم تر أن السيف ينقص قدره ** إذا قيل إن السيف أمضى من العصا
فكيف بتمثيل الكامل بالناقص‏؟‏‏!‏ هذا أعظم ما يكون جنايةً في حق الله - عز وجل ـ، وإن كان المعطوف أعظم جرمًا، لكن الكل لم يقدر الله حق قدره‏.‏
فالواجب‏:‏ أن نؤمن بما وصف الله وسمى به نفسه في كتابه، وعلى لسان رسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ من غير تحريف، ولا تعطيل، ولا تكييف، ولا تمثيل‏.‏
هكذا قال شيخ الإسلام ابن تيمية وغيره من أهل العلم‏.‏
فالتحريف في النصوص، والتعطيل في المعتقد، والتكييف في الصفة، والتمثيل في الصفة، إلا أنه أخص من التكييف؛ فكل ممثل مكيف، ولا عكس، فيجب أن تبرأ عقيدتنا من هذه الأمور الأربعة‏.‏
ونعني بالتحريف هنا‏:‏ التأويل الذي سلكه المحرفون لنصوص الصفات؛ لأنهم سموا أنفسهم أهل التأويل، لأجل تلطيف المسلك الذي سلكوه؛ لأن النفوس تنفرُ من كلمة تحريف، لكن هذا من باب زخرفة القول وتزيينه للناس، حتى لا ينفروا منه‏.‏
وحقيقة تأويلهم‏:‏ التحريف، وهو صرف اللفظ عن ظاهره؛ فنقول‏:‏ هذا الصرف إن دل عليه دليل صحيح؛ فليس تأويلًا بالمعنى الذي تريدون، لكنه تفسير‏.‏
وإن لم يدل عليه دليل؛ فهو تحريف، وتغيير للكلم عن مواضعه؛ فهؤلاء الذين ضلوا بهذه الطريقة، فصاروا يثبتون الصفات لكن بتحريف؛ قد ضلوا، وصاروا في طريق معاكس لطريق أهل السنة والجماعة‏.‏
وعليه لا يمكن أن يوصفوا بأهل السنة والجماعة؛ لأن الإضافة تقتضي النسبة، فأهل السنة منتسبون للسنة؛ لأنهم متمسكون بها، وهؤلاء ليسوا متمسكين بالسنة فيما ذهبوا إليه من التحريف‏.‏
وأيضًا الجماعة في الأصل‏:‏ الاجتماع، وهم غير مجتمعين في آرائهم؛ ففي كتبهم التداخل، والتناقض، والاضطراب، حتى إن بعضهم يضلل بعضًا، ويتناقض هو بنفسه‏.‏
وقد نقل شارع ‏"‏الطحاوية‏"‏ عن الغزالي - وهو ممن بلغ ذروة علم الكلام - كلامًا إذا قرأه الإنسان تبين له ما عليه أهل الكلام من الخطأ والزلل والخطل، وأنهم ليسوا على بينة من أمرهم‏.‏
وقال الرازي وهو من رؤسائهم‏:‏
نهاية إقدام العقول عــــقال ** وأكثر سعي العالمين ضـلال
وأرواحنا في وحشة من جسومنا ** وغاية دنيانا أذى ووبـــال
ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا ** سوى أن جمعنا فيه قيل وقالوا
ثم قال‏:‏ لقد تأملت الطرق الكلامية والمناهج الفلسفية؛ فما رأيتها تشفي عليلًا، ولا تروي غليلًا، ووجدت أقرب الطرق طريقة القرآن، أقرأ في الإثبات‏:‏ ‏{‏الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 5‏]‏ ‏{‏إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ‏}‏ ‏[‏فاطر‏:‏ 10‏]‏؛ يعني‏:‏ فأثبت، وأقرأ في النفي‏:‏ ‏{‏لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 11‏]‏، ‏{‏وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 110‏]‏؛ يعني‏:‏ فأنفي المماثلة، وأنفي الإحاطة به علمًا، ومن جرب مثل تجربتي عرف مثل معرفتي‏.‏
فتجدهم حيارى مضطربين، ليسوا على يقين من أمرهم، وتجد من هداه الله الصراط المستقيم مطمئنًا منشرح الصدر، هادئ البال، يقرأ في كتاب الله وفي سنة رسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ما أثبته الله لنفسه من الأسماء والصفات؛ فيثبت؛ إذ لا أحد أعلم من الله بالله، ولا أصدق خبرًا من خبر الله، ولا أصح بيانًا من بيان الله؛ كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 26‏]‏، ‏{‏يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَن تَضِلُّواْ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 176‏]‏، ‏{‏وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 89‏]‏، ‏{‏وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلاً‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 122‏]‏، ‏{‏وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 87‏]‏‏.‏ فهذه الآيات وغيرها تدل على أن الله يبين للخلق غاية البيان الطريق التي توصلهم إليه، وأعظم ما يحتاج الخلق إلى بيانه ما يتعلق بالله تعالى وبأسماء الله وصفاته حتى يعبدوا الله على بصيرة؛ لأن عبادة من لم نعلم صفاته، أو من ليس له صفة أمر لا يتحقق أبدًا؛ فلابد أن تعلم من صفات المعبود ما تجعلك تلتجئ إليه وتعبده حقًا‏.‏
ولا يتجاوز الإنسان حده إلى التكييف أو التمثيل؛ لأنه إذا كان عاجزًا عن تصور نفسه التي بين جنبيه؛ فمن باب أولى أن يكون عاجزًا عن تصور حقائق ما وصف الله به نفسه، ولهذا يجب على الإنسان أن يمنع نفسه عن السؤال بـ ‏"‏لِمَ‏"‏ و‏"‏كيف‏"‏ فيما يتعلق بأسماء الله وصفاته، وكذا يمنع نفسه من التفكير بالكيفية‏.‏
وهذا الطريق إذا سلكه الإنسان استراح كثيرًا، وهذه حال السلف رحمهم الله، ولهذا لما جاء رجل إلى الإمام مالك بن أنس رحمه الله قال‏:‏ يا أبا عبدالله‏!‏ ‏{‏الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى‏}‏، كيف استوى‏؟‏ فأطرق برأسه وقال‏:‏ ‏"‏الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة، وما أراك إلا مبتدعًا‏"‏‏.‏
أما في عصرنا الحاضر؛ فنجد من يقول إن الله ينزل إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر كل ليلة، فيلزم من هذا أن يكون كل الليل في السماء الدنيا؛ لأن الليل يمشي على جميع الأرض؛ فالثلث ينتقل من هذا المكان إلى المكان الآخر، وهذا لم يقله الصحابة رضوان الله عليهم، ولو كان هذا يرد على قلب المؤمن؛ لبينه الله إما ابتداءً أو على لسان رسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ‏:‏ أو يقيض من يسأله عنه فيجاب، كما سأل الصحابة رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أين كان الله قبل أن يخلق السماوات والأرض، فأجابهم ‏[‏(1)]‏‏.‏
فهذا السؤال العظيم يدل على أن كل ما يحتاج إليه الناس فإن الله يبينه بأحد الطرق الثلاثة‏.‏
والجواب عن الإشكال في حديث النزول ‏[(2)
‏">]‏‏:‏ أن يقال‏:‏ ما دام ثلث الليل الأخير في هذه الجهة باقيًا، فالنزول فيها محقق، وفي غيرها لا يكون نزول قبل ثلث الليل الأخير أو النصف، والله - عز وجل - ليس كمثله شيء، والحديث يدل على أن وقت النزول ينتهي بطلوع الفجر‏.‏
وعلينا أن نستسلم، وأن نقول‏:‏ سمعنًا، وأطعنا، واتبعنا، وآمنا؛ فهذه وظيفتنا لا نتجاوز القرآن والحديث‏.‏
* * *
وقول الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ‏}‏ ‏[‏الذريات‏:‏ 56‏]‏ الآية‏.‏
* الآية الأولى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ‏}‏‏.‏
قوله‏:‏ ‏{‏إلا ليعبدون‏}‏ استثناء مفرغ من أعم الأحوال؛ أي‏:‏ ما خلق الجن والإنس لأي شيء إلا للعبادة‏.‏
واللام في قوله‏:‏ ‏{‏إلا ليعبدون‏}‏ للتعليل، وهذا التعليل لبيان الحكمة من الخلق، وليس التعليل الملازم للمعلول؛ إذ لو كان كذلك للزم أن يكون الخلق كلهم عبادًا يتعبدون له، وليس الأمر كذلك، فهذه العلة غائية، وليست موجبة‏.‏
فالعلة الغائية لبيان الغاية والمقصود من هذا الفعل، لكنها قد تقع، وقد لا تقع، مثل‏:‏ بريت القلم لأكتب به؛ فقد تكتب، وقد لا تكتب‏.‏
والعلة الموجبة معناها‏:‏ أن المعلول مبني عليها؛ فلابد أن تقع، وتكون سابقة للمعلول، ولازمة له، مثل‏:‏ انكسر الزجاج لشدة الحرة‏.‏
قوله‏:‏ ‏{‏خلقت‏}‏، أي أوجدت، وهذا الإيجاد مسبوق بتقدير، وأصل الخلق التقدير‏.‏
قال الشاعر‏.‏
ولأنت تفــري مـا خلقـت ** وبعض الناس يخلق ثم لا يفري
قوله‏:‏ ‏{‏الجن‏}‏‏:‏ هم عالمُ غيبيُ مخفيُ عنا، ولهذا جاءت المادة من الجيم والنون، وهما يدلان على الخفاء والاستتار، ومنه‏:‏ الجَنة، والجِنة، والجُنة‏.‏
قوله‏:‏ ‏{‏الإنس‏}‏ سموا بذلك، لأنهم لا يعيشون بدون إيناس، فهم يأنس بعضهم ببعض، ويتحرك بعضهم إلى بعض‏.‏
قوله‏:‏ ‏{‏إلا ليعبدون‏}‏ فُسِّر‏:‏ إلا ليوحدون، وهذا حق، وفُسِّر‏:‏ بمعنى يتذللون لي بالطاعة فِعلًا للمأمور، وتركًا للمحظور، ومن طاعته أن يوحد سبحانه وتعالى؛ فهذه هي الحكمة من خلق الجن والإنس‏.‏
ولهذا أعطى الله البشر عقولًا، وأرسل إليهم رسلًا، وأنزل عليهم كتبًا، ولو كان الغرض من خلقهم كالغرض من خلق البهائم؛ لضاعت الحكمة من إرسال الرسل، وإنزال الكتب؛ لأنه في النهاية يكون كشجرة نبتت، ونمت، وتحطمت، ولهذا قال تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 85‏]‏؛ فلابد أن يردك إلى معادٍ تجازى على عملك إن خيرًا فخير، وإن شرًا فشر‏.‏
وليست الحكمة من خلقهم نفع الله، ولهذا قال تعالى‏:‏ ‏{‏مَا أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ‏}‏ ‏[‏الذريات‏:‏ 57‏]‏‏.‏
وأما قوله تعالى‏:‏ ‏{‏مَن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 245‏]‏‏.‏
فهذا ليس إقراضًا لله سبحانه، بل هو غنيُّ عنه، لكنه سبحانه شبه معاملة عبده له بالقرض؛ لأنه لا بد من وفائه، فكأنه التزامُ من الله سبحانه أن يوفى العامل أجر عمله كما يوفي المقترض من أقرضه‏.‏
* * *
وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللَّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ‏}‏
‏[‏النحل‏:‏ 36‏]‏
* الآية الثانية قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللَّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 36‏]‏‏.‏
قوله‏:‏ ‏{‏ولقد‏}‏‏:‏ اللام موطئه لقسم مقدر، وقد‏:‏ للتحقيق‏.‏
وعليه؛ فالجملة مؤكدة بالقسم المقدر، واللام، وقد‏.‏
قوله‏:‏ ‏{‏بعثنا‏}‏؛ أي‏:‏ أخرجنا، وأرسلنا في كل أمة‏.‏
والأمة هنا‏:‏ الطائفة من الناس‏.‏
وتطلق الأمة في القرآن على أربعة معانٍ‏:‏
‌أ- الطائفة‏:‏ كما في هذه الآية‏.‏
‌ب- الإمام، ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلّهِ‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 120‏]‏‏.‏
‌ج- الملة‏:‏ ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 23‏]‏‏.‏
‌د- الزمن‏:‏ ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 45‏]‏‏.‏
فكل أمة بعث فيها رسول من عهد نوح إلى عهد نبينا محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ ‏.‏
* والحكمة من إرسال الرسل‏:‏
‌أ- إقامة الحجة‏:‏ قال تعالى‏:‏ ‏{‏رُّسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 165‏]‏‏.‏
‌ب- الرحمة‏:‏ لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 107‏]‏‏.‏
‌ج- بيان الطريق الموصل إلى الله تعالى، لأن الإنسان لا يعرف ما يجب لله على لوجه التفصيل إلا عن طريق الرسل‏.‏
قوله‏:‏ ‏{‏أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ‏}‏ أن‏:‏ قيل تفسيرية، وهي التي سبقت بما يدل على القول دون حروفه؛ كفوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 27‏]‏، والوحي فيه معنى القول دون حروفه، والبعث متضمن معنى الوحي؛ لأن كل رسول موحى إليه‏.‏
وقيل‏:‏ إنها مصدرية على تقدير الباء؛ أي‏:‏ بأن اعبدوا، والراجح الأول؛ لعدم التقرير‏.‏ أي‏:‏ تذللوا له بالعبادة، وسبق تعرف العبادة‏.‏
قوله‏:‏ ‏{‏وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ‏}‏ أي‏:‏ ابتعدوا عنه بأن تكونوا في جانب، وهو في جانب، والطاغوت‏:‏ مشتق من الطغيان، وهو صفة مشبهة، والطغيان‏:‏ مجاورة الحد؛ كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاء حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ‏}‏ ‏[‏الحاقة‏:‏ 11‏]‏؛ أي‏:‏ تجاوز حده‏.‏
وأجمع ما قيل في تعريفه هو ما ذكره ابن القيم رحمه الله بأنه‏:‏ ‏"‏ما تجاوز به العبد حده من متبوع، أو معبود، أو مطاع‏"‏‏.‏
ومراده من كان راضيًا بذلك، أو يقال‏:‏ هو طاغوت باعتبار عابده، وتابعه، ومطيعه؛ لأنه تجاوز به حده حيث نَزَّله فوق منزلته التي جعلها الله له، فتكون عبادته لهذا المعبود، واتباعه لمتبوعه، وطاعته لمطاعه طغيانًا لمجاوزته الحد بذلك‏.‏
فالمتبوع مثل‏:‏ الكهان، والسحرة، وعلماء السوء‏.‏
والمعبود مثل‏:‏ الأصنام‏.‏
والمطاع مثل‏:‏ الأمراء الخارجين عن طاعة الله، فإذا اتخذهم الإنسان أربابًا يحل ما حرم الله من أجل تحليلهم له، ويحرم ما أحل الله من أجل تحريمهم له؛ فهؤلاء طواغيت، والفاعل تابع للطاغوت، قال تعالى‏:‏ ‏{‏أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 51‏]‏، ولم يقل‏:‏ إنهم طواغيت‏.‏
ودلالة الآية على التوحيد‏:‏ أن الأصنام من الطواغيت التي تعبد من دون الله‏.‏ والتوحيد لا يتم إلا بركنين، هما‏:‏
1- الإثبات‏.‏
2- النفي‏.‏
إذ النفي المحض تعطيل محض، والإثبات المحض لا يمنع المشاركة‏.‏
مثال ذلك‏:‏ زيد قائم، يدل على ثبوت القيام لزيد، لكن لا يدل على انفراده به‏.‏
ولم يقم أحد، هذا نفي محض‏.‏
ولم يقم إلا زيد، هذا توحيد له بالقيام؛ لأنه اشتمل على إثبات ونفي‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏الآية‏"‏ أي‏:‏ إلى آخر الآية، وتقرأ بالنصب؛ إما على أنها مفعول به لفعل محذوف تقديره أكمل الآية، أو أنها منصوب بنزع الخافض؛ أي‏:‏ إلى آخر الآية‏.‏
ووجه الاستشهاد بهذه الآية لكتاب التوحيد‏:‏ أنها دالة على إجماع الرسل عليهم الصلاة والسلام على الدعوة إلى التوحيد، وأنهم أرسلوا به؛ لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَنِ اعْبُدُواْ اللَّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ‏}‏‏.‏
* * *
وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا‏}‏‏.‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 23‏]‏ الآية‏.‏
* الآية الثالثة قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏.‏
قوله‏:‏ ‏{‏قضى‏}‏ قضاء الله - عز وجل - ينقسم إلى قسمين‏:‏
1- قضاء شرعي‏.‏ 2- قضاء كوني‏.‏
فالقضاء الشرعي‏:‏ يجوز وقوعه من المقضي عليه وعدمه، ولا يكون إلا فيما يحبه الله‏.‏
مثال ذلك‏:‏ هذه الآية‏:‏ ‏{‏وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 23‏]‏؛ فتكون قضى بمعنى‏:‏ شرع، أو بمعنى‏:‏ وصى، وما أشبههما‏.‏
والقضاء الكوني‏:‏ لابد من وقوعه، ويكون فيما أحبه الله، وفيما لا يحبه‏.‏
مثال ذلك‏:‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 4‏]‏ فالقضاء هنا كوني؛ لأن الله لا يشرع الفساد في الأرض، ولا يحبه‏.‏
قوله‏:‏ ‏{‏أن لا تعبدوا‏}‏‏.‏ ‏{‏أن‏}‏ هنا مصدرية بدليل حذف النون من تعبدوا، والاستثناء هنا مفرغ؛ لأن الفعل لم يأخذ مفعوله؛ فمفعوله ما بعد إلا‏.‏
قوله‏:‏ ‏{‏إلا إياه‏}‏ ضمير نصب منفصل واجب الانفصال؛ لأن المتصل لا يقع بعد إلا، قال ابن مالك‏:‏
وذو اتصال منه ما لا يبتدا** ولا يلي إلا اختيارًا أبدًا
* إشكال وجوابه‏:‏
إذا قيل‏:‏ ثبت أن الله قضى كونًا ما لا يحبه؛ فكيف يقضي الله ما لا يحبه‏؟‏
فالجواب‏:‏ أن المحبوب قسمان‏:‏
1- محبوب لذاته‏.‏
2- محبوب لغيره‏.‏
فالمحبوب لغيره قد يكون مكروهًا لذاته، ولكن يحب لما فيه من الحكمة والمصلحة؛ فيكون حينئذ محبوبًا من وجه، مكروهًا من وجه آخر‏.‏
مثال ذلك‏:‏ الفساد في الأرض من بني إسرائيل في حد ذاته مكروه إلى الله؛ لأن الله لا يحب الفساد، ولا المفسدين، ولكن للحكمة التي يتضمنها يكون بها محبوبًا إلى الله - عز وجل - من وجه آخر‏.‏
ومن ذلك‏:‏ القحط، والجدب، والمرض، والفقر؛ لأن الله رحيم لا يحب أن يؤذي عباده بشيء من ذلك، بل يريد بعباده اليسر، لكن يقدره للحكم المترتبة عليه؛ فيكون محبوبًا إلى الله من وجه، مكروهًا من وجه آخر‏.‏
قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ‏}‏ ‏[‏الروم‏:‏ 41‏]‏‏.‏
فإن قيل‏:‏ كيف يتصور أن يكون الشيء محبوبًا من وجه مكروهًا من وجه آخر‏؟‏
فيقال‏:‏ هذا الإنسان المريض يعطى جرعة من الدواء مُرَّة كريهة الرائحة واللون، فيشربها، وهو يكرهها لما فيها من المرارة واللون والرائحة، ويحبها لما فيها من الشفاء، وكذا الطبيب يكوي المريض بالحديدة المحماة على النار، ويتألم منها؛ فهذا الألم مكروه له من وجه، محبوب له من وجه أخر‏.‏
فإن قيل‏:‏ لماذا لم يكن قوله‏:‏ ‏{‏وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ‏}‏ من باب القضاء القدري‏؟‏
أجيب‏:‏ بأنه لا يمكن؛ إذ لو كان قضاءً قدريًا لعبد الناس كلهم ربهم، لكنه قضاء شرعي قد يقع وقد لا يقع‏.‏
والخطاب في الآية للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ولكن، لكنه قال‏:‏ ‏{‏وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ‏}‏، ولم يقل ‏"‏أن لا تعبد‏"‏، ونظير ذلك في القرآن قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاء‏}‏ ‏[‏الطلاق‏:‏ 1‏]‏ ؛ فالخطاب الأول للرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ والثاني عام؛ فما الفائدة من تغيير الأسلوب‏؟‏
أجيب‏:‏ إن الفائدة من ذلك‏:‏
1- التنبيه؛ إذ تنبيه المخاطب أمر مطلوب للمتكلم، وهذا حاصل هنا بتغيير الأسلوب‏.‏
2- أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ زعيم أمته، والخطاب الموجه إليه موجه لجميع الأمة‏.‏
3- الإشارة إلى أن ما خوطب به الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ فهو له ولأمته؛ إلا ما دلّ الدليل على أنه مختص به‏.‏
4- وفي هذه الآية خاصة الإشارة إلى أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ مربوب لا رب، عابد لا معبود؛ فهو داخل في قوله‏:‏ ‏{‏تعبدوا‏}‏، وكفى به شرفًا أن يكون عبدًا لله - عز وجل - ولهذا يصفه الله تعالى بالعبودية في أعلى مقاماته؛ فقال في مقام التحدي والدفاع عنه‏:‏ ‏{‏وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 23‏]‏، وقال في مقام إثبات نبوته ورسالته إلى الخلق‏:‏ ‏{‏تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 1‏]‏، وقال في مقام الإسراء والمعراج ‏{‏سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 1‏]‏، ‏{‏فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى‏}‏ ‏[‏النجم‏:‏ 10‏]‏‏.‏
* أقسام العبودية‏:‏
تنقسم العبودية إلى ثلاثة أقسام‏:‏
1- عامة، وهي عبودية الربوبية، وهي لكل الخلق، قال تعالى‏:‏ ‏{‏إِن كُلُّ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ إِلاَّ آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 93‏]‏، ويدخل في ذلك الكفار‏.‏
2- عبودية خاصة، وهي عبودية الطاعة العامة، قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 63‏]‏، وهذه تعم كل من تعبد لله بشرعه‏.‏
3- خاصّة الخاصّة، وهي عبودية الرسل عليهم الصلاة والسلام، قال تعالى عن نوح‏:‏ ‏{‏إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 3‏]‏، وقال عن محمد‏:‏ ‏{‏وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 23‏]‏، وقال في آخرين من الرسل‏:‏ ‏{‏وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إبْرَاهِيمَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ أُوْلِي الأَيْدِي وَالأَبْصَارِ‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 45‏]‏‏.‏
فهذه العبودية المضافة إلى الرسل خاصة الخاصة؛ لأنه لا يباري أحد هؤلاء الرسل في العبودية‏.‏
قوله‏:‏ ‏{‏وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا‏}‏ أي‏:‏ قضى ربك أن نحسن بالوالدين إحسانا، والوالدان‏:‏ يشمل الأم، والأب، ومن فوقهما، لكنه في الأم والأب أبلغ، وكلما قربا منك كانا أولى بالإحسان، والإحسان، بذل المعروف، وفي قوله‏:‏ ‏{‏وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا‏}‏ بعد قوله‏:‏ ‏{‏وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ‏}‏ دليل على أن حق الوالدين بعد حق الله- عز وجل -‏.‏
فإن قيل‏:‏ فأين حق الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ ‏؟‏
أجيب‏:‏ بأن حق الله متضمن لحق الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ ؛ لأن الله لا يعبد إلا بما شرع الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ‏}‏ أي‏:‏ كف الأذى عنهما؛ ففي قوله‏:‏ ‏{‏إحسانًا‏}‏‏:‏ بذل المعروف، وفي قوله‏:‏ ‏{‏فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ‏}‏‏:‏ كف الأذى، ومعنى ‏"‏أف‏"‏‏:‏ أتضجر؛ لأنك إذا قلته؛ فقد يتأذّيان بذلك، وفي الآية إشارة إلى أنهما إذا بلغا الكبر صارا عبئًا على ولدهما؛ فلا يتضجر من الحال، ولا ينهرهما في المقال إذا أساءا في الفعل أو القول‏.‏
قوله‏:‏ ‏{‏وقل لهما قولًا كريمًا‏}‏، أي‏:‏ لينا حسنًا بهدوء وطمأنينة؛ كقولك‏:‏ أعظم الله أجرك، أبشري يا أمي، أبشر يا أبي، وما أشبه ذلك؛ فالقول الكريم يكون في صيغته، وأدائه، والخطاب به، فلا يكون مزعجًا كرفع الصوت مثلًا، بل يتضمن الدعاء والإيناس لهما‏.‏
والشاهد في هذه الآية‏:‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ‏}‏؛ فهذا هو التوحيد لتضمنه للنفي والإثبات‏.‏
* * *
وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَاعْبُدُواْ اللَّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 36‏]‏‏.‏
* الآية الرابعة قوله تعالى‏:‏ ‏{‏واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئًا‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏.‏
‏{‏ولا تشركوا‏}‏ في مقابل ‏"‏لا إله‏"‏؛ لأنها نفي‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏واعبدوا‏}‏ في مقابل ‏"‏إلا إله‏"‏؛ لأنها إثبات‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏شيئًا‏}‏ نكرة في سياق النهي؛ فتعم كل شيء‏:‏ لا نبيًا، ولا ملكًا، ولا وليًا، بل ولا أمرًا من أمور الدنيا؛ فلا تجعل الدنيا شريكًا مع الله، والإنسان إذا كان همه الدنيا كان عابدًا لها؛ كما قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ ‏:‏ ‏(‏تعس عبد الدينار، تعس عبد الدرهم، تعس عبد الخميلة، تعس عبد الخميصة‏)‏ ‏[‏‏)‏ البخاري‏:‏ كتاب الجهاد/ باب الحراسة في الغزو‏.‏‏]‏‏.‏
قوله‏:‏ ‏{‏وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا‏}‏ يقال فيها ما قيل في الآية السابقة (3).‏
قوله‏:‏ ‏{‏وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ‏}‏؛ أي‏:‏ إحسانًا‏.‏
وذو القربى هم من يجتمعون بالشخص في الجد الرابع‏.‏
واليتامى‏:‏ جَمْعُ يتيم، وهو الذي مات أبوه، ولم يبلغ‏.‏
والمساكين‏:‏ هم الذين عدموا المال فأسكنهم الفقر‏.‏
وابن السبيل‏:‏ هو المسافر الذي انقطعت به النفقة‏.‏
قوله‏:‏ ‏{‏وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ‏}‏ الجار‏:‏ الملاصق للبيت، أو من حوله، وذي القربى؛ أي‏:‏ القريب، والجار الجنب؛ أي‏:‏ الجار البعيد‏.‏
قوله‏:‏ ‏{‏وَالصَّاحِبِ بِالجَنبِ‏}‏، قيل‏:‏ إنه الزوجة، وقيل‏:‏ صاحبك في السفر، لأنه يكون إلى جنبك، ولكل منهما حق؛ فالآية صالحة لهما‏.‏
قوله‏:‏ ‏{‏وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ‏}‏ هذا يشمل الإحسان إلى الأرقّاء والبهائم؛ لأن الجميع ملك اليمين‏.‏
قوله‏:‏ ‏{‏إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالاً فَخُورًا‏}‏‏.‏
المختال‏:‏ في هيئته‏.‏
والفخور‏:‏ في قوله، والله لا يحب هذا ولا هذا‏.‏
* * *
وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 151‏]‏ الآيات‏.‏

نور الزعبي
29-01-12, 07:58 PM
* الآية الخامسة إلى السابعة قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏‏.‏
الخطاب للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أمره الله أن يقول للناس‏:‏ ‏{‏تعالوا‏}‏؛ أي أقبلوا، وهلموا، وأصله من العلو كأن المنادي يناديك أن تعلو إلى مكانه، فيقول‏:‏ تعالى؛ أي‏:‏ ارتفع إلي‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏أتل‏}‏ بالجزم جوابًا للأمر في قوله‏:‏ ‏{‏تعالوا‏}‏‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ‏}‏ ‏"‏ما‏"‏ اسم موصول مفعول لأتل، والعائد محذوف، والتقدير‏:‏ ما حرمه ربكم عليكم‏.‏
وقال‏:‏ ‏{‏ربكم‏}‏ ولم يقل‏:‏ ما حرم الله؛ لأن الرب هنا أنسب، حيث إن الرب له مطلق التصرف في المربوب، والحكم عليه بما تقتضيه حكمته‏.‏
قوله‏:‏ ‏{‏ألا تشركوا‏}‏ أن‏:‏ تفسيرية، تفسر ‏{‏أتل ما حرم‏}‏؛ أي‏:‏ أتلو عليكم ألا تشركوا به شيئًا، وليست مصدرية، وقد قيل به، وعلى هذا القول تكون ‏"‏لا‏"‏ زائدة، ولكن القول الأول أصح، أي‏:‏ أتل عليكم عدم الإشراك؛ لأن الله لم يحرم علينا أن لا نشرك به، بل حرم علينا أن نشرك به، وما يؤيد أنّ ‏"‏أنْ‏"‏ تفسيرية أن ‏"‏لا‏"‏ هنا ناهية لتتناسب الجمل؛ فتكون كلها طلبية‏.‏
قوله‏:‏ ‏{‏وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا‏}‏، أي‏:‏ وأتل عليكم الأمر بالإحسان إلى الوالدين‏.‏
قوله‏:‏ ‏{‏وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلاَدَكُم‏}‏، بعد أن ذكر حق الأصول ذكر حق الفروع‏.‏
والأولاد في اللغة العربية‏:‏ يشمل الذكر والأنثى، قال تعالى‏:‏ ‏{‏يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 11‏]‏‏.‏
قوله‏:‏ ‏{‏من إملاق‏}‏، الإملاق‏:‏ الفقر، و ‏{‏من‏}‏ للسببية والتعليل؛ أي‏:‏ بسبب الإملاق‏.‏
قوله‏:‏ ‏{‏نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ‏}‏، أي‏:‏ إذا أبقيتموهم؛ فإنّ الرزق لن يضيق عليكم بإبقائهم، لأن الذي يقوم بالرزق هو الله‏.‏
وبدأ هنا برزق الوالدين؛ وفي سورة الإسراء بدأ برزق الأولاد، والحكمة في ذلك أنه قال هنا‏:‏ ‏{‏من إملاق‏}‏؛ فالإملاق حاصل، فبدأ بذكر الوالدين اللذين أملقا، وهناك قال‏:‏ ‏{‏خشية إملاق‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 31‏]‏؛ فهما غنيان، لكن يخشيان الفقر، فبدأ برزق الأولاد قبل رزق الوالدين‏.‏
وتقييد النهي عن قتل الأولاد بخشية الإملاق بناءٍ على واقع المشركين غالبًا، فلا مفهوم له‏.‏
قوله‏:‏ ‏{‏وَلاَ تَقْرَبُواْ الْفَوَاحِشَ‏}‏، لم يقل‏:‏ لا تأتوا؛ لأن النهي عن القرب أبلغ من النهي عن الإتيان؛ لأن النهي عن القرب نهي عنها، وعما يكون ذريعة إليها، ولذلك حَرُم على الرجل أن ينظر إلى المرأة الأجنبية، وأن يخلو بها، وأن تسافر المرأة بلا محرم؛ لأن ذلك يقرب من الفواحش‏.‏
قوله‏:‏ ‏{‏مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ‏}‏، قيل‏:‏ ما ظهر فحشه، وما خفي؛ لأن الفواحش منها شيء مستفحش في نفوس جميع الناس، ومنها شيء فيه خفاء‏.‏
وقيل‏:‏ ما أظهرتموه، وما أسررتموه، فالإظهار‏:‏ فعل الزنا - والعياذ بالله - مجاهرةً، والإبطان فعله سرًا‏.‏
وقيل‏:‏ ما عظم فحشه، وما كان دون ذلك؛ لأنّ الفواحش ليست على حد سواء، ولهذا جاء في الحديث‏:‏ ‏(‏ألا أنبئكم بأكبر الكبائر‏)‏‏[‏البخاري‏:‏ كتاب الشهادات/ باب ما قيل في شهادة الزور، ومسلم‏:‏ كتاب الإيمان/ باب بيان الكبائر‏)‏‏.‏‏]‏، وهذا يدل على أن الكبائر فيها أكبر وفيها ما دون ذلك‏.‏
قوله‏:‏ ‏{‏وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ‏}‏، النفس التي حرم الله‏:‏ هي النفس المعصومة، وهي نفس المسلم، والذمي، والمعاهد، والمستأمن؛ بكسر الميم‏.‏
والحق‏:‏ ما أثبته الشرع‏.‏
والباطل‏:‏ ما نفاه الشرع‏.‏
فمن الحق الذي أثبته الشرع في قتل النفس المعصومة أن يزني المحصن فيرجم حتى يموت، أو يقتل مكافئه، أو يخرج على الجماعة، أو يقطع الطريق؛ فإنه يقتل، قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ‏:‏ ‏(‏لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث‏:‏ النفس بالنفس، والثّيب الزاني، والتارك لدينه المفارق للجماعة‏)‏ ‏[‏البخاري‏:‏ كتاب الديات/ باب قول الله تعالى‏:‏ ‏(‏أن النفس بالنفس‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏(‏، ومسلم‏:‏ كتاب القسامة/ باب ما يباح به دم المسلم‏.‏‏]‏‏.‏
وقال هناك‏:‏ ‏{‏وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالحَقِّ‏}‏، وقال قبلها‏:‏ ‏{‏وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلاَدَكُم‏}‏؛ فيكون النهي عن قتل الأولاد مكررًا مرتين‏:‏ مرة بذكر الخصوص، ومرة بذكر العموم‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ‏}‏، المشار إليه ما سبق، والوصية بالشيء هي العهد به على وجه الاهتمام، ولهذا يقال‏:‏ وصيته على فلان؛ أي‏:‏ عهدت به إليه ليهتم به‏.‏
قوله‏:‏ ‏{‏تعقلون‏}‏، العقل هنا‏:‏ حسن التصرف، وأما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّا َعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 3‏]‏، فمعناه‏:‏ تفهمون‏.‏
وفي هذا دليلٌ على أن هذه الأمور إذا التزم بها الإنسان؛ فهو عاقل رشيد، وإذا خالفها؛ فهو سفيه ليس بعاقل‏.‏
وقد تضمنت هذه الآية خمس وصايا‏:‏
الأولى ‏:‏ توحيد الله‏.‏
الثانية ‏:‏ الإحسان بالوالدين‏.‏
الثالثة ‏:‏ أن لا نقتل أولادنا‏.‏
الرابعة‏:‏ أن لا نقرب الفواحش‏.‏
الخامسة ‏:‏ أن لا نقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق‏.‏
قوله‏:‏ ‏{‏وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ‏}‏، قوله‏:‏ ‏{‏ولا تقربوا‏}‏ هذا حماية لأموال اليتامى أن لا نقربها إلا بالخصلة التي هي أحسن؛ فلا نقربها بأي تصرف إلا بما نرى أنه أحسن، فإذا لاح للولي تصرفان أحدهما أكثر ربحًا؛ فالواجب عليه أن يأخذ بما هو أكثر ربحًا لأنه أحسن‏.‏
والحسن هنا يشمل‏:‏ الحسن الدنيوي، والحسن الديني، فإذا لاح تصرفان أحدهما أكثر ربحًا وفيه ربًا، والآخر أقل ربحًا وهو أسلم من الربا؛ فنقدم الأخير؛ لأن الحسن الشرعي مقدم على الحسن الدنيوي المادي‏.‏
قوله‏:‏ ‏{‏حتى يبلغ أشده‏}‏، ‏{‏حتى‏}‏ هنا‏:‏ حرف غاية؛ فما بعدها مخالف لما قبلها‏.‏
أي‏:‏ إذا بلغ أشده؛ فإننا ندفعه إليه بعد أن نختبره، وننظر في حسن تصرفه، ولا يجوز لنا أن نبقيه عندنا‏.‏
ومعنى أشده‏:‏ قوته العقلية والبدنية، والخطاب هنا لأولياء اليتامى أو للحاكم على قول بعض أهل العلم، وبلوغ الأشد يختلف، والمراد به هنا الأشد الذي يكون به التكليف، وهو تمام خمسة عشرة سنة، أو إنبات العانة أو الإنزال‏.‏
قوله‏:‏ ‏{‏وَأَوْفُواْ الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ‏}‏، أي‏:‏ أوفوا الكيل إذا كلتم فيما يكال من الأطعمة والحبوب‏.‏
وأوفوا الميزان‏:‏ إذا وزنتم فيما يوزن؛ كاللحوم مثلًا‏.‏
والأمر بالإيفاء شاملٌ لجميع ما تتعامل به مع غيرك؛ فيجب عليك أن توفي بالكيل والوزن وغيرهما في التعامل‏.‏
قوله‏:‏ ‏{‏بالقسط‏}‏، أي‏:‏ بالعدل، ولما كان قوله‏:‏ ‏{‏بالقسط‏}‏ قد يشق بعض الأحيان؛ لأن الإنسان قد يفوته أن يوفي الكيل أو الوزن أحيانًا، أعقب ذلك بقوله‏:‏ ‏{‏لا نكلف نفسًا إلا وسعها‏}‏، أي‏:‏ طاقتها، فإذا بذل جهده وطاقته، وحصل النقص؛ فلا يعد مخالفًا؛ لأن ما خرج عن الطاقة معفو عنه فيه، كما أن هذه الجملة تفيد العفو من وجه، وهو ما خرج عن الوسع؛ فإنها تفيد التغليظ من وجه، وهو أن على المرء أن يبذل وسعه في الإيفاء بالقسط، ولكن منى تبين الخطأ وجب تلافيه لأنه داخل في الوسع‏.‏
قوله‏:‏ ‏{‏وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُواْ‏}‏، معناه‏:‏ أي قول تقوله؛ فإنه يجب عليك أن تعدل فيه، سواء كان ذلك لنفسك على غيرك، أو لغيرك على نفسك، أو لغيرك على غيرك، أو لتحكم بين اثنين؛ فالواجب العدل؛ إذ العدل في اللغة الاستقامة، وضده الجور والميل، فلا تمل يمينًا ولا شمالًا، ولم يقل هنا ‏{‏لاَ نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا‏}‏؛ لأن القول لا يشق فيه العدل غالبًا‏.‏
قوله‏:‏ ‏{‏وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى‏}‏، أي‏:‏ المقول له ذا قرابة، أي‏:‏ صاحب قرابة، فلا تحابيه لقرابته، فتميل معه على غيره من أجله؛ فأجعل أمرك إلى الله - عزّ وجلّ- الذي خلقك، وأمرك بهذا، وإليه سترجع‏.‏ ويسألك - عز وجل - ماذا فعلت في هذه الأمانة‏.‏
وقد أقسم أشرف الخلق، وسيد ولد آدم، وأعدل البشر، محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ وقال‏:‏ ‏(‏وايم الله؛ لو أن فاطمة بنت محمد سرقت؛ لقطعت يدها‏)‏ ‏[‏البخاري‏:‏ كتاب الحدود/ باب كراهية الشفاعة في الحد إذا رفع إلى السلطان، ومسلم‏:‏ كتاب الحدود/ باب قطع السارق الشريف‏.‏
‏]‏‏.‏
قوله‏:‏ ‏{‏وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُواْ‏}‏، قدم المتعلق؛ للاهتمام به، وعهد الله‏:‏ ما عهد به إلى عباده، وهي عبادته سبحانه وتعالى والقيام بأمره؛ كما قال عز وجل‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَآئِيلَ وَبَعَثْنَا مِنهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاَةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنتُم بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 12‏]‏، هذا ميثاق من جانب المخلوق، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لأُكَفِّرَنَّ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 12‏]‏، هذا من جانب الله - عز وجل -‏.‏
قوله‏:‏ ‏{‏ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ‏}‏، هذه الآية الكريمة فيها أربع وصايا من الخالق عز وجل‏:‏
الأولى‏:‏ أن لا نقرب مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن‏.‏
الثانية‏:‏ أن نوفي الكيل والميزان بالقسط‏.‏
الثالثة‏:‏ أن نعدل إذا قلنا‏.‏
الرابعة‏:‏ أن نوفي بعهد الله‏.‏
والآية الأولى فيها خمس وصايا‏.‏ صار الجميع تسع وصايا‏.‏
ثم قال عز وجل‏:‏ ‏{‏وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ‏}‏، هذه هي الوصية العاشرة، فقوله‏:‏ ‏{‏وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي‏}‏ يحتمل أن المشار إليه ما سبق؛ لأنك لو تأملته وجدته محيطًا بالشرع كله؛ إما نصًا، وإما إيماءً، ويحتمل أن المراد به ما علم من دين الله؛ أي‏:‏ هذا الذي جاءكم به الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ هو صراطي؛ أي‏:‏ الطريق الموصل إليه سبحانه وتعالى‏.‏
والصراط يضاف إلى الله - عز وجل ـ، ويضاف إلى سالكه؛ ففي قوله تعالى‏:‏ ‏{‏صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ‏}‏ ‏[‏الفاتحة‏:‏ 7‏]‏ هنا أضيف إلى سالكه، وفي قوله تعالى‏:‏ ‏{‏صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 53‏]‏ هنا أضيف إلى الله - عز وجل - ؛ فإضافته إلى الله - عز وجل - لأنه موصل إليه، ولأنه هو الذي وضعه لعباده - جل وعلا ـ، وإضافته إلى سالكه لأنهم هم الذين سلكوه‏.‏
قوله‏:‏ ‏{‏مستقيمًا‏}‏ هذه حال من ‏"‏صراط‏"‏؛ أي‏:‏ حال كونه مستقيمًا لا اعوجاج فيه فاتبعوه‏.‏
قوله ‏{‏وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ‏}‏ السبل؛ أي‏:‏ الطرق الملتوية الخارجة عنه‏.‏
وتفرق‏:‏ فعل مضارع منصوب بأن بعد فاء السببية، لكن حذفت منه تاء المضارعة، وأصلها‏:‏ ‏"‏تتفرق‏"‏، أي أنكم إذا اتبعتم السبل تفرقت بكم عن سبيله، وتشتت بكم الأهواء وبعدت‏.‏
وهنا قال‏:‏ ‏{‏السبل‏}‏‏:‏ جمع سبيل، وفي الطريق التي أضافها الله إلى نفسه قال‏:‏ ‏{‏سبيله‏}‏ سبيل واحد؛ لأن سبيل الله - عز وجل - واحد، وأما ما عداه؛ فسبل متعددة، ولهذا قال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ‏:‏ ‏(‏وستفترق هذه الأمة إلى ثلاث وسبعين فرقة، كلها في النار، إلا واحدة‏)‏ ‏[‏مسند الإمام أحمد ‏(‏2/332‏)‏، ‏(‏3/145‏)‏، ‏(‏4/120‏)‏، وسنن أبي داود ‏(‏4596‏)‏، والترمذي ‏(‏2640‏)‏، وابن ماجة‏(‏3991‏)‏، والحاكم وصححه ‏(‏1/128‏)‏‏.‏
‏]‏؛ فالسبيل المنجي واحد، والباقية متشعبة متفرقة، ولا يرد على هذا قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلاَمِ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 16‏]‏، لأن ‏"‏سبل‏"‏ في الآية الكريمة؛ وإن كانت مجموعة؛ لكن أضيفت إلى السلام فكانت منجية، ويكون المراد بها شرائع الإسلام‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ‏}‏، أي‏:‏ ذلك المذكور وصاكم لتنالوا به درجة التقوى، والالتزام بما أمر الله به ورسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ‏.‏
* * *
قال ابن مسعود‏:‏ ‏(‏من أراد أن ينظر إلى وصية محمد ـ صل الله عليه وسلم ـ التي عليها خاتمة؛ فليقرأ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا ‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 151 - 153‏]‏ الآية ‏[‏الترمذي ‏(‏أبواب تفسير القرآن، 8/230‏)‏، وقال‏:‏ ‏"‏حديث حسن غريب‏"‏‏.‏
‏]‏‏.‏
* قوله‏:‏ قال ابن مسعود‏:‏ ‏(‏من أراد‏.‏‏.‏‏.‏‏)‏ إلخ‏.‏ الاستفهام هنا للحث والتشويق، واللام في قوله‏:‏ ‏"‏فليقرأ‏"‏ للإرشاد‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏وصية محمد‏"‏، الوصية بمعنى العهد، ولا يكون العهد وصية إلا إذا كان في أمر هام‏.‏
وقوله‏:‏ ‏(‏محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ‏)‏، أي‏:‏ رسول الله محمد بن عبدالله الهاشمي القرشي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وهذا التعبير من ابن مسعود يدل على جواز مثله، مثل‏:‏ قال محمد رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ووصية محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ ولا ينافي قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لا تَجْعَلُوا دُعَاء الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاء بَعْضِكُم بَعْضًا‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 63‏]‏؛ لأن دعاء الرسول هنا أي‏:‏ مناداته؛ فلا تقولوا عند المناداة‏:‏ يا محمد‏!‏ ولكن قولوا‏:‏ يا رسول الله‏!‏ أما الخبر؛ فهو أوسع من باب الطلب، ولهذا يجوز أن تقول‏:‏ أنا تابعٌ لمحمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ أو اللهم‏!‏ صل على محمد، وما أشبه ذلك‏.‏
قوله‏:‏ ‏(‏التي عليها خاتمه‏)‏، الخاتم بمعنى التوقيع‏.‏
وقوله‏:‏ ‏(‏وصية محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ‏)‏ ليست وصية مكتوبة مختومًا عليها؛ لأن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لم يوص بشيء، ويدل لذلك‏:‏ أن أبا جحيفة سأل علي بن أبي طالب‏:‏ هل عهد إليكم النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بشيء‏؟‏ فقال‏:‏ لا‏.‏ والذي فلق الحبة وبرأ النسمة إلا فهمًا يؤتيه الله تعالى في القرآن، وما في هذه الصحيفة‏.‏ قيل‏:‏ وما في هذه الصحيفة‏؟‏ قال‏:‏ العقل، وفكاك الأسير، وأن لا يقتل مسلم بكافر ‏[‏‏)‏ البخاري‏:‏ كتاب الديات/باب العاقلة‏.‏‏]‏‏.‏
فلا يظنّ أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أوصى بهذه الآيات وصية خاصة مكتوبة، لكن ابن مسعود رضي الله عنه يرى أن هذه الآيات قد شملت الدين كلّه؛ فكأنها الوصية التي ختم عليها رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأبقاها لأمته‏.‏
وهي آيات عظيمة، إذا تدبرها الإنسان وعمل بها؛ حصلت له الأوصاف الثلاثة الكاملة‏:‏ العقل، والتذكر، والتقوى‏.‏
وقوله‏:‏ ‏"‏فليقرأ قوله تعالى‏.‏‏.‏‏.‏‏"‏ إلخ الآيات سبق الكلام عليها‏.‏
* * *
وعن معاذ بن جبل ‏(‏رضي الله عنه‏)‏؛ قال‏:‏ ‏"‏كنت رديف النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ على حمار، فقال لي‏:‏ ‏(‏يا معاذ‏!‏ أتدري ما حق الله على العباد، وما حق العباد على الله‏؟‏‏)‏‏.‏ قلت‏:‏ الله ورسوله أعلم‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئًا‏)‏‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏رديف‏"‏ بمعنى رادف؛ أي‏:‏ راكب معه خلفه؛ فهو فعيل بمعنى فاعل، مثل‏:‏ رحيم بمعنى راحم، وسميع بمعنى سامع‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏على حمار‏"‏، أي‏:‏ أهلي؛ لأن الوحشي لا يركب‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏أتدري‏"‏، أي ‏:‏ أتعلم‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏ما حق الله على العباد‏؟‏‏"‏، أي‏:‏ ما أوجبه عليهم، وما يجب أن يعاملوه به، وألقاه على معاذ بصيغة السؤال؛ ليكون أشد حضورًا لقلبه حتى يفهم ما يقول ـ صلى الله عليه وسلم ـ ‏.‏
قوله‏:‏ ‏(‏وما حق العباد على الله‏؟‏‏)‏، أي‏:‏ ما يجب أن يعاملهم به، والعباد لم يوجبوا شيئًا، بل الله أوجبه على نفسه فضلًا منه على عباده، قال تعالى‏:‏ ‏{‏كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَن عَمِلَ مِنكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِن بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 54‏]‏‏.‏
فأوجب سبحانه على نفسه أن يرحم من عمل سوءًا بجهالة؛ أي‏:‏ بسفه وعدم حسن تصرف ثم تاب من بعد ذلك وأصلح‏.‏
ومعنى كتب؛ أي‏:‏ أوجب‏.‏
قوله‏:‏ ‏(‏قلت‏:‏ الله ورسوله أعلم‏)‏، لفظ الجلالة الله‏:‏ مبتدأ، و‏"‏رسوله‏"‏‏:‏ معطوف عليه، وأعلم‏:‏ خبر المبتدأ، وأفرد الخبر هنا مع أنه لاثنين؛ لأنه على تقدير‏:‏ ‏"‏مِنْ‏"‏، واسم التفضيل إذا كان على تقدير‏:‏ ‏"‏مِنْ‏"‏؛ فإن الأشهر فيه الإفراد والتذكير‏.‏
والمعنى‏:‏ أعلم من غيرهما، وأعلم مني أيضًا‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏يعبدوه‏"‏، أي‏:‏ يتذللوا له بالطاعة‏.‏
قوله‏:‏ ‏{‏ولا يشركوا به شيئًا‏}‏، أي‏:‏ في عبادته وما يختص به، وشيئًا نكرة في سياق النفي؛ فتعم كل شيء لا رسولًا ولا ملكًا ولا وليًا ولا غيرهم‏.‏
* * *
وحق العباد على الله أن لا يعذب من لا يشرك به شيئًا‏"‏‏.‏ قلت‏:‏ يا رسول الله‏!‏ أفلا أبشر الناس‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏لا تبشرهم فيتكلوا‏)‏‏.‏ أخرجاه في ‏"‏الصحيحين‏"‏ ‏[‏البخاري‏:‏ كتاب الجهاد/باب اسم الفرس والحمار، ومسلم‏:‏ كتاب الإيمان/باب الدليل على أن من مات على التوحيد دخل الجنة‏.‏‏]‏‏.‏
وقوله‏:‏ ‏(‏وحق العباد على الله أن لا يعذب من لا يشرك به شيئًا‏)‏، وهذا الحق تفضل الله به على عباده، ولم يوجبه عليه أحد، ولا تظن أن قوله‏:‏ ‏(‏من لا يشرك به شيئًا‏)‏ أنه مجرد عن العبادة؛ لأن التقدير‏:‏ من يعبده ولا يشرك به شيئًا، ولم يذكر قوله‏:‏ ‏"‏من يعبده‏"‏؛ لأنه مفهوم من قوله‏:‏ ‏"‏وحق العباد‏"‏، ومن كان وصفه العبودية؛ فلابد أن يكون عابدًا‏.‏
ومن لم يعبد الله ولم يشرك به شيئًا؛ هل يعذب‏؟‏
الجواب‏:‏ نعم، يعذب؛ لأن الكلام فيه حذف، وتقديره‏:‏ من يعبده ولا يشرك به شيئًا، ويدل لهذا أمران‏:‏
الأول‏:‏ قوله‏:‏ ‏"‏حق العباد‏"‏، ومن كان وصفه العبودية؛ فلابد أن يكون عابدًا‏.‏
الثاني‏:‏ أن هذا في مقابل قوله فيما تقدم‏:‏ ‏(‏أن يعبدوه، ولا يشركوا به شيئًا‏)‏؛ فعلم أن المراد بقوله‏:‏ ‏"‏لا يشركوا به شيئًا‏"‏؛ أي‏:‏ في العبادة‏.‏
قوله‏:‏ ‏(‏أفلا أبشر الناس‏)‏، أي‏:‏ أأسكت فلا أبشر الناس‏؟‏ ومثل هذا التركيب‏:‏ الهمزة ثم حرف العطف ثم الجملة لعلماء النحو فيه قولان‏:‏
الأول‏:‏ أنّ بين الهمزة وحرف العطف محذوفًا يقدر بما يناسب المقام، وتقديره هنا‏:‏ أأسكت فلا أبشر الناس‏؟‏‏.‏
الثاني‏:‏ أنه لا شيء محذوف، لكن هنا تقديم وتأخير، وتقديره‏:‏ فألا أبشر‏؟‏ فالجملة معطوفة على ما سبق، وموضع الفاء سابق على الهمزة؛ فالأصل‏:‏ فألا أبشر الناس‏؟‏ لكن لما كان مثل هذا التركيب ركيكًا، وهمزة الاستفهام لها الصدارة؛ قدمت على حرف العطف، ومثل ذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَفَلا يَنظُرُونَ إِلَى الإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ‏}‏ ‏[‏الغاشية‏:‏ 17‏]‏، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أفلا تبصرون‏}‏ ‏[‏السجدة‏:‏ 27‏]‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 46‏]‏‏.‏
والبشارة‏:‏ هي الإخبار بما يسر‏.‏
وقد تستعمل في الإخبار بما يضر، ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ‏}‏ ‏[‏الانشقاق‏:‏ 24‏]‏، لكن الأكثر الأول‏.‏
قوله‏:‏ ‏(‏لا تبشرهم‏)‏، أي‏:‏ لا تخبرهم، ولا ناهية‏.‏
ومعنى الحديث أن الله لا يعذب من لا يشرك به شيئًا، وأن المعاصي تكون مغفورة بتحقيق التوحيد، ونهى ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن إخبارهم؛ لئلا يعتمدوا على هذه البشرى دون تحقيق مقتضاها؛ لأن تحقيق التوحيد يستلزم اجتناب المعاصي؛ لأن المعاصي صادرة عن الهوى، وهذا نوع من الشرك، قال تعالى‏:‏ ‏{‏أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ‏}‏ ‏[‏الجاثية‏:‏ 23‏]‏‏.‏
ومناسبة الحديث للترجمة‏:‏ فضيلة التوحيد، وأنه مانع من عذاب الله‏.‏
* * *
*
فيه مسائل‏:‏
الأولى‏:‏ الحكمة من خلق الجن والإنس‏.‏ الثانية‏:‏ أن العبادة هي التوحيد، لأن الخصومة فيه‏.‏
المسائل‏:‏
* الأولى‏:‏ الحكمة من خلق الجن والإنس، أخذها رحمه الله من قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ‏}‏ ‏[‏الذاريات‏:‏ 56‏]‏؛ فالحكمة هي عبادة الله لا أن يتمتعوا بالمآكل والمشارب والمناكح‏.‏
الثانية‏:‏ أن العبادة هي التوحيد، أي‏:‏ أن العبادة مبنية على التوحيد؛ فكل عبادة لا توحيد فيها ليست بعباده، لاسيما أن بعض السلف فسروا قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إلا ليعبدون‏}‏‏:‏ إلا ليوحدون‏.‏
وهذا مطابق تمامًا لما استنبطه المؤلف رحمه الله من أن العبادة هي التوحيد؛ فكل عبادة لا تبنى على التوحيد فهي باطلة، قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ ‏:‏ ‏(‏قال الله تعالى‏:‏ أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملًا أشرك فيه معي غيري؛ تركته وشركه‏)‏ ‏[‏مسلم‏:‏ كتاب الزهد/باب من أشرك في عمله غير الله‏.‏‏]‏‏.‏
وقوله‏:‏ ‏(‏لأن الخصومة فيه‏)‏، أي‏:‏ في التوحيد بين الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ وقريش؛ فقريش يعبدون الله يطوفون له ويصلون، ولكن على غير الإخلاص والوجه الشرعي؛ فهي كالعدم لعدم الإتيان بالتوحيد، قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا مَنَعَهُمْ أَن تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلاَّ أَنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 54‏]‏‏.‏
* * *
* الثالثة‏:‏ أن من لم يأت به، لم يعبد الله، ففيه معنى قوله‏:‏ ‏{‏وَلا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ‏}‏ ‏[‏الكافرون‏:‏ 3‏]‏‏.‏
* الرابعة‏:‏ الحكمة في إرسال الرسل‏.‏
* الخامسة‏:‏ أن الرسالة عمت كل أمة‏.‏
* وقوله في الثالثة‏:‏ ففيه معنى قوله‏:‏ ‏{‏وَلا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ‏}‏، لستم عابدين عبادتي؛ لأن عبادتكم مبنية على الشرك، فليست بعبادة لله تعالى‏.‏
* الرابعة‏:‏ الحكمة في إرسال الرسل، أخذها رحمه الله تعالى من قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللَّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 36‏]‏‏.‏

غادة شعبان
30-01-12, 09:43 AM
جزاك الله خيرا اختى طالبة العلم جعله الله فى موازينك ارجو ان تضعى باقى شرح الشيخ بارك الله فيك

نور الزعبي
30-01-12, 05:51 PM
* الخامسة‏:‏ أن الرسالة عمت كل أمة‏.‏

* وقوله في الثالثة‏:‏ ففيه معنى قوله‏:‏ ‏{‏وَلا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ‏}‏، لستم عابدين عبادتي؛ لأن عبادتكم مبنية على الشرك، فليست بعبادة لله تعالى‏.‏

* الرابعة‏:‏ الحكمة في إرسال الرسل، أخذها رحمه الله تعالى من قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللَّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 36‏]‏‏.‏

فالحكمة هي‏:‏ الدعوة إلى عبادة الله وحده، واجتناب عبادة الطاغوت‏.‏

* الخامسة‏:‏ أن الرسالة عمت كل أمة، أخذها من قوله تعال‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 36‏]‏‏.‏

* * *

السادسة‏:‏ أن دين الأنبياء واحد‏.‏ السابعة‏:‏ المسألة الكبيرة أن عبادة الله لا تحصل إلى بالكفر بالطاغوت؛ ففيه معنى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَمَنْ يَكْفُرْ بالطاغوت ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 256‏]‏‏.‏

* السادسة‏:‏ أن دين الأنبياء واحد، أخذها من قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللَّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ‏}‏، ومثله قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 25‏]‏، وهذا لا ينافى قوله تعالى ‏:‏ ‏{‏لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 48‏]‏؛ لأن الشرعة العملية تختلف باختلاف الأمم والأماكن والأزمنة، وأما أصل الدين؛ فواحد، قال تعالى‏:‏ ‏{‏شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَن يَشَاء وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَن يُنِيبُ‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 13‏]‏‏.‏

* السابعة‏:‏ المسالة الكبيرة أن عبادة الله لا تحصل إلا بالكفر بالطاغوت ‏.‏ودليله قوله تعالى‏:‏ ‏{‏واجتنبوا الطاغوت‏}‏، فمن عبَدَ الله ولم يكفر بالطاغوت؛ فليس بموحد، ولهذا جعل المؤلف رحمه الله هذه المسألة كبيرة؛ لأن كثيرًا من المسلمين جهلها في زمانه وفي زماننا الآن‏.‏

* تنبيه

لا يجوز إطلاق الشرك أو الكفر أو اللعن على من فعل شيئًا من ذلك؛ لأن الحكم بذلك في هذه وغيرها له أسباب وله موانع؛ فلا نقول لمن أكل الربا‏:‏ ملعون؛ لأنه قد يوجد مانع يمنع من حلول اللعنة عليه؛ كالجهل مثلًا، أو الشبهة، وما أشبه ذلك، وكذا الشرك لا نطلقه على من فعل شركًا؛ فقد تكون الحجة ما قامت عليه بسبب تفريط علمائهم، وكذا نقول‏:‏ من صام رمضان إيمانًا واحتسابًا؛ غفر له ما تقدم من ذنبه، ولكن لا نحكم بهذا لشخص معين، إذ إن الحكم المعلق على الأوصاف لا ينطبق على الأشخاص إلا بتحقق شروط انطباقه وانتفاء موانعه‏.‏

فإذا رأينا شخصًا يتبرز في الطريق؛ فهل نقول له‏:‏ لعنك الله‏؟‏

الجواب‏:‏ لا، إلا إذا أريد باللعن في قوله‏:‏ ‏(‏اتقوا الملاعن‏)‏ ‏[‏مسند الإمام أحمد 1/299، سنن أبي داود‏:‏ كتاب الطهارة/ باب المواضع التي نهى النبي ‏(‏ عن البول فيها، وابن ماجة‏:‏ كتاب الطهارة/ باب النهي عن الخلاء على قارعة الطريق، والحاكم - وقال‏:‏ ‏"‏صحيح‏"‏، ووافقه الذهبي

‏]‏ أن الناس أنفسهم يلعنون هذا الشخص ويكرهونه، ويرونه مخلًا بالأدب مؤذيًا للمسلمين؛ فهذا شيء آخر‏.‏

فدعاء القبر شرك، لكن لا يمكن أن نقول لشخص معين فعله‏:‏ هذا مشرك؛ حتى نعرف قيام الحجة عليه، أو نقول‏:‏ هذا مشرك باعتبار ظاهر حاله‏.‏

* * *

الثامنة‏:‏ أن الطاغوت عام في كل ما عبد من دون الله‏.‏ التاسعة‏:‏ عظم شأن الثلاث آيات المحكمات في سورة الأنعام عند السلف، وفيها عشر مسائل، أولها النهي عن الشرك‏.‏

* الثامنة‏:‏ أن الطاغوت عام في كل ما عبد من دون الله‏.‏ فكل ما عبد من دون الله، فهو طاغوت، وقد عرّفه ابن القيم‏:‏ بأنه كل ما تجاوز به العبد حده من معبود أو متبوع أو مطاع، فالمعبود كالصنم، والمتبوع كالعالم، والمطاع كالأمير‏.‏

* التاسعة‏:‏ عظم شأن الثلاث آيات المحكمات في سورة الأنعام، المحكمات؛ أي‏:‏ التي ليس فيها نسخ، أخذ ذلك من قول ابن مسعود رضي الله عنه‏.‏

* * *

العاشرة‏:‏ الآيات المحكمات في سورة الإسراء، وفيها ثماني عشر مسألةً، بدأها الله بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لاَّ تَجْعَل مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَّخْذُولاً‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 22‏]‏‏.‏ وختمها بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلاَ تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَّدْحُورًا‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 39‏]‏، ونبهنا الله سبحانه على عظم شأن هذه المسائل بقوله‏:‏ ‏{‏ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 39‏]‏‏.‏

* العاشرة‏:‏ الآيات المحكمات في سورة الإسراء‏.‏ وهي قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 23‏]‏، وفيها ثماني عشرة مسألة بدأها بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لاَّ تَجْعَل مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَّخْذُولاً‏}‏، وختمها بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلاَ تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَّدْحُورًا‏}‏‏.‏

وقد نبهنا الله - سبحانه - على عظم شأن هذه المسائل بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ‏}‏‏.‏

فبدأها الله بالنهي عن الشرك بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لاَّ تَجْعَل مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَّخْذُولاً‏}‏، والقاعد ليس قائمًا؛ لأنه لا خير لمن أشرك بالله، مذمومًا عند الله وعند أوليائه، مخذولًا لا ينتصر في الدنيا ولا في الآخرة‏.‏

وختمها بقوله‏:‏ ‏{‏لاَّ تَجْعَل مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَّخْذُولاً‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 39‏]‏، فهذه عقوبته عندما يلقى في النار كلٌّ يلومه ويدحره فيندحر والعياذ بالله‏.‏

* * *

الحادية عشرة‏:‏ آية سورة النساء التي تسمى آية الحقوق العشرة، بدأها الله تعالى بقوله‏:‏ ‏{‏وَاعْبُدُواْ اللَّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 36‏]‏، الثانية عشرة‏:‏ التنبيه على وصية رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ عند موته‏.‏ الثالثة عشرة‏:‏ معرفة حق الله علينا‏.‏

* الحادية عشرة‏:‏ آية سورة النساء التي تسمى آية الحقوق العشرة، بدأها بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَاعْبُدُواْ اللَّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا‏}‏، فأحق الحقوق حق الله، ولا تنفع الحقوق إلا به فبدئت هذه الحقوق به، ولهذا لما سأل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ حكيم بن حزام عمن كان يتصدق ويعتق ويصل رحمه في الجاهلية هل له من أجر‏؟‏ فقال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ‏:‏ ‏(‏أسلمت على ما أسلفت من الخير‏)‏ ‏[‏البخاري‏:‏ كتاب الأدب/ باب شراء من وصل رحمه في الشرك ثم أسلم، ومسلم‏:‏ كتاب الإيمان/ باب بيان حكم عمل الكافر إذا أسلم بعده‏.‏‏]‏؛ فدل على أنه إذا لم يسلم لم يكن له أجر، فصارت الحقوق كلها لا تنفع إلا بتحقيق حق الله ‏.‏

* الثانية عشرة ‏:‏التنبيه على وصية رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ عند موته ‏.‏ وذلك من حديث ابن مسعود رضى الله عنه، ولكن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لم يوص بها حقيقةً، بل أشار إلى أننا إذا تمسكنا بكتاب الله؛ فلن نضلّ بعده، ومن أعظم ما جاء به كتاب الله قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 151‏]‏‏.‏

* الثالثة عشرة‏:‏ معرفة حق الله علينا‏.‏ وذلك بأن نعبده ولا نشرك به شيئًا‏.‏

* * *

الرابعة عشرة‏:‏ معرفة حق العباد عليه إذا أدوا حقه‏.‏ الخامسة عشرة‏:‏ أن هذه المسألة لا يعرفها أكثر الصحابة‏.‏ السادسة عشرة‏:‏ جواز كتمان العلم للمصلحة‏.‏

* الرابعة عشرة‏:‏ معرفة حق العباد عليه إذا أدوا حقّه‏.‏ وذلك بأن لا يعذّب من لا يشرك به شيئًا، أما من أشرك؛ فإنه حقيقٌ أن يعذّب‏.‏

* الخامسة عشرة‏:‏ أن هذه المسألة لا يعرفها أكثر الصحابة‏.‏ وذلك أن معاذًا أخبر بها تأثمًا، أي خروجًا من إثم الكتمان عند موته بعد أن مات كثيرٌ من الصحابة؛ وكأنه رضي الله عنه علم أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان يخشى أن يفتتن الناس بها ويتكلوا، ولم يرد ـ صلى الله عليه وسلم ـ كتمها مطلقًا؛ لأنه لو أراد ذلك لم يخبر بها معاذًا ولا غيره‏.‏

* السادسة عشرة‏:‏ جواز كتمان العلم للمصلحة‏.‏ هذه ليست على إطلاقها؛ إذ إن كتمان العلم على سبيل الإطلاق لا يجوز لأنه ليس بمصلحة، ولهذا أخبر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ معاذًا ولم يكتم ذلك مطلقًا، وأما كتمان العلم في بعض الأحوال، أو عن بعض الأشخاص لا على سبيل الإطلاق؛ فجائزٌ للمصلحة؛ كما كتم النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ذلك عن بقية الصحابة خشية أن يتّكلوا عليه، وقال لمعاذ‏:‏ ‏(‏لا تبشّرهم فيتّكلوا‏)‏‏.‏

ونظير هذا الحديث قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لأبي هريرة‏:‏ ‏(‏بشّر الناس أن من قال‏:‏ لا إله إلا الله خالصًا من قلبه دخل الجنّة‏)‏ ‏(‏2‏)‏ ‏[‏مسلم‏:‏ كتاب الإيمان/باب الدليل على أن من مات على التوحيد دخل الجنة‏]‏

بل قد تقتضي المصلحة ترك العمل؛ وإن كان فيه مصلحة لرجحان مصلحة الترك، كما هم النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن يهدم الكعبة ويبنيها على قواعد إبراهيم، ولكن ترك ذلك خشية افتتان الناس، لأنهم حديثو عهد بكفرٍ ‏[‏البخاري‏:‏ كتاب العلم/ باب ترك بعض الاختيار مخافة أن يقصر فهم بعض الناس عنه، ومسلم‏:‏ كتاب الحج/باب نقض الكعبة‏]‏‏.‏

* * *

السابعة عشرة‏:‏ استحباب بشارة المسلم بما يسرّه‏.‏ الثامنة عشرة‏:‏ الخوف من الاتكال على سعة رحمة الله‏.‏

* السابعة عشرة‏:‏ استجاب بشارة المسلم بما يسره‏.‏ لقوله‏:‏ ‏(‏أفلا أبشّر الناس‏؟‏‏)‏، وهذه من أحسن الفوائد‏.‏

* الثامنة عشرة‏:‏ الخوف من الاتّكال على سعة رحمة الله‏.‏ وذلك لقوله‏:‏ ‏(‏لا تبشّرهم فيتكلوا‏)‏، لأن الاتّكال على رحمة الله يسبب مفسدة عظيمة هي الأمن من مكر الله‏.‏

وكذلك القنوط من رحمة الله يبعد الإنسان من التوبة ويسبب اليأس من رحمة الله، ولهذا قال الإمام أحمد‏:‏ ‏(‏ينبغي أن يكون سائرًا إلى الله بين الخوف والرجاء؛ فأيهما غلب هلك صاحبه‏)‏ فإذا غلب الرجاء أدى ذلك إلى الأمن من مكر الله، وإذا غلب الخوف أدى ذلك إلى القنوط من رحمة الله‏.‏

وقال بعض العلماء‏:‏ إن كان مريضًا غلّب جانب الرجاء، وإن كان صحيحًا غلّب جانب الخوف‏.‏

وقال بعض العلماء‏:‏ إذا نظر إلى رحمة الله وفضله غلّب جانب الرّجاء، وإذا نظر إلى فعله وعمله غلب جانب الخوف لتحصل التوبة‏.‏

ويستدلون بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 60‏]‏؛ أي‏:‏ خائفة أن لا يكون تقبّل منهم لتقصير أو قصور، وهذا القول جيد، وقيل‏:‏ يغلب الرجاء عند فعل الطاعة ليحسن الظن بالله، ويغلب جانب الخوف إذا هم بالمعصية لئلا ينتهك حرمات الله‏.‏

وفي قوله‏:‏ ‏(‏أفلا أبشّر الناس‏؟‏‏)‏ دليل على أن التبشير مطلوب فيما يسرّ من أمر الدين

والدنيا، ولذلك بشّرت الملائكة إبراهيم، قال تعالى ‏:‏ ‏{‏وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ‏}‏ ‏[‏الذريات‏:‏ 28‏]‏، وهو إسحاق، والحليم إسماعيل، وبشّر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أهله بابنه إبراهيم، فقال‏:‏ ‏(‏ولد لي الليلة ولد سميته باسم أبي إبراهيم‏)‏ ‏[‏مسلم‏:‏ كتاب الفضائل/باب رحمته ‏(‏ الصبيان والعيال‏]‏ ؛ فيؤخذ منه أنه ينبغي للإنسان إدخال السرور على إخوانه المسلمين ما أمكن بالقول أو بالفعل؛ ليحصل له بذلك خيرٌ كثيرٌ وراحة وطمأنينة قلب وانشراح صدر‏.‏

وعليه، فلا ينبغي أن يدخل السوء على المسلم، ولهذا يروى عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ‏:‏ ‏(‏لا يحدثني أحدٌ عن أحد بشيء، فإني أحبّ أن أخرج إليكم وأنا سليم الصّدر‏)‏ ‏[‏مسند الإمام أحمد 1/396، وقال أحمد شاكر‏:‏ إسناده حسن على الأقل‏.‏ وسنن أبي داود‏:‏ كتاب الأدب/باب في رفع الحديث من المجلس، - وسكت عنه -‏]‏‏.‏

وهذا الحديث فيه ضعفٌ، لكن معناه صحيح؛ لأنه إذا ذكر عندك رجلٌ بسوءٍ؛ فسيكون في قلبك عليه شيءٌ ولو أحسن معاملتك، لكن إذا كنت تعامله وأنت لا تعلم عن سيئاته، ولا محذور في أن تتعامل معه؛ كان هذا طيبًا، وربما يقبل منك النصيحة أكثر، والنفوس ينفر بعضها من بعضٍ قبل الأجسام، وهذه مسائل دقيقةٌ تظهر للعاقل بالتأمّل‏.‏

* * *

التاسعة عشرة‏:‏ قول المسؤول عما لا يعلم‏:‏ الله ورسوله أعلم‏.‏

* التاسعة عشرة‏:‏ قول المسؤول عما لا يعلم‏:‏ الله ورسوله أعلم، وذلك لإقرار النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ معاذًا لما قالها، ولم ينكر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ على معاذٍ، حيث عطف رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ على الله بالواو، وأنكر على من قال‏:‏ ‏(‏ما شاء الله وشئت‏"‏، وقال‏:‏ ‏(‏أجعلتني لله ندًا‏؟‏‏!‏ بل ما شاء الله وحده‏)‏ ‏[‏مسند الإمام أحمد ‏(‏1/214‏)‏، وابن ماجة‏:‏ كتاب الكفارات/باب النهي أن يقال‏:‏ ما شاء الله وشئت، وقال أحمد شاكر، إسناده صحيح ‏(‏1839‏)‏‏.‏‏]‏

فيُقال‏:‏ إن الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ عنده من العلوم الشرعية ما ليس عند القائل، ولهذا لم ينكر الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ على معاذ‏.‏

بخلاف العلوم الكونية القدرية؛ فالرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ ليس عنده علم منها‏.‏

فلو قيل‏:‏ هل يحرم صوم العيدين‏؟‏

جاز أن نقول‏:‏ الله ورسوله أعلم، ولهذا كان الصحابة إذا أشكلت عليهم المسائل ذهبوا إلى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فيبينها لهم، ولو قيل‏:‏ هل يتوقع نزول مطر في هذا الشهر‏؟‏ لم يجز أن نقول‏:‏ الله ورسوله أعلم، لأنه من العلوم الكونية‏.‏

* * *

العشرون‏:‏ جواز تخصيص بعض الناس بالعلم دون بعض‏.‏ الحادية والعشرون‏:‏ تواضعه ـ صلى الله عليه وسلم ـ لركوب الحمار مع الإرداف عليه‏.‏ الثانية والعشرون‏:‏ جواز الأرداف على الدابة‏.‏

* العشرون‏:‏ جواز تخصيص بعض الناس بالعلم دون بعض‏.‏ وذلك لأن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ خص هذا العلم بمعاذ دون أبي بكر وعمر وعثمان وعلي‏.‏

فيجوز أن نخصص بعض الناس بالعلم دون بعض، حيث أن بعض الناس لو أخبرته بشيء من العلم افتتن، قال ابن مسعود‏:‏ ‏(‏إنك لن تحدث قومًا بحدث لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة‏)‏ ‏[‏رواه‏:‏ مسلم‏:‏ المقدمة/ باب النهي عن الحديث بكل ما سمع‏.‏

‏]‏ ‏(‏1‏)‏، وقال علي‏:‏ ‏(‏حدثوا الناس بما يعرفون‏)‏ ‏[‏البخاري‏:‏ كتاب العلم/ باب من خص بالعلم قومًا دون قوم كراهية أن لا يفهموا‏.‏‏]‏، فيحدث كل أحد حسب مقدرته وفهمه وعقله‏.‏

* الحادية والعشرون‏:‏ تواضعه ـ صلى الله عليه وسلم ـ لكروب الحمار مع الإرداف عليه‏.‏ النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أشرف الخلق جاهًا، ومع ذلك هو أشد الناس تواضعًا‏.‏ حيث ركب الحمار وأردف عليه، وهذا في غاية التواضع؛ إذ إن عادة الكبراء عدم الإرداف، وركب ـ صلى الله عليه وسلم ـ الحمار، ولو شاء لركب ما أراد، ولا منقصة في ذلك؛ إذ إن من توضع لله - عز وجل - رفعه‏.‏

* الثانية والعشرون‏:‏ جواز الإرداف على الدابة‏.‏ وذلك أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أردف معاذًا، لكن يشترط للإرداف أن لا يشق على الدابة، فإن شق؛ لم يجز ذلك‏.‏

* * *

الثالثة والعشرون‏:‏ عظم شأن هذه المسألة‏.‏ الرابعة والعشرون‏:‏ فضيلة معاذ بن جبل‏.‏

* الثالثة والعشرون‏:‏ عظم شأن هذه المسألة‏.‏ حيث أخبر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ معاذًا، وجعلها من الأمور التي يبشر بها‏.‏

* الرابعة والعشرون‏:‏ فضيلة معاذ رضي الله عنه‏.‏ وذلك أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ خصه بهذا العلم، وأردفه معه على الحمار‏.‏

نور الزعبي
30-01-12, 05:52 PM
باب فضل التوحيد وما يكفر من الذنوب

سبق أن ذكر المؤلف كتاب التوحيد؛ أي‏:‏ وجوب التوحيد، وأنه لا بد منه، وأن معنى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ‏}‏ ‏[‏الذاريات‏:‏ 56‏]‏‏:‏ أن العبادة لا تصح إلا بالتوحيد‏.‏

وهنا ذكر المؤلف فضل التوحيد، ولا يلزم من ثبوت الفضل للشيء أن يكون غير واجب، بل الفضل من نتائجه وآثاره‏.‏

ومن ذلك صلاة الجماعة ثبت فضلها بقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ‏:‏ ‏(‏صلاة الجماعة أفضل من صلاة الفذ بسبع وعشرين درجة‏)‏ ‏.‏ متفق عليه ‏[‏البخاري‏:‏ كتاب الجماعة والإمامة/ باب فضل صلاة الجماعة، ومسلم‏:‏ كتاب المساجد/ باب فضل صلاة الجماعة‏.‏

‏]‏‏.‏

ولا يلزم من ثبوت الفضل فيها أن تكون غير واجبة؛ إذ إن التوحيد أوجب الواجبات، ولا تقبل الأعمال إلا به، ولا يتقرب العبد إلى ربه إلا به، ومع ذلك؛ ففيه فضل‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وما يكفر من الذنوب‏)‏‏.‏ معطوف على ‏"‏فضل‏"‏؛ فيكون المعنى‏:‏ باب فضل التوحيد، وباب ما يكفر من الذنوب، وعلى هذا؛ فالعائد محذوف والتقدير ما يكفره من الذنوب، وعقد هذا الباب لأمرين‏:‏

الأول‏:‏ بيان فضل التوحيد‏.‏

الثاني‏:‏ بيان ما يكفره من الذنوب، لأن من آثار فضل التوحيد تكفير الذنوب‏.‏

فمن فوائد التوحيد‏:‏

1- أنه أكبر دعامة للرغبة في الطاعة؛ لأن الموحد يعمل لله - سبحانه وتعالى - ؛ وعليه، فهو يعمل سرًا وعلانية، أما غير الموحد؛ كالمرائي مثلًا، فإنه يتصدق ويصلى، ويذكر الله إذا كان عنده من يراه فقط، ولهذا قال بعض السلف‏:‏ ‏"‏إني لأود أن أتقرب إلى الله بطاعة لا يعلمها إلا هو‏"‏‏.‏

2- أن الموحدين لهم الأمن وهم مهتدون؛ كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 82‏]‏‏.‏

* * *

وقول الله تعالى‏:‏ ‏{‏الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ‏}‏ الآية ‏[‏الأنعام‏:‏ 82‏]‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏لم يلبسوا‏}‏، أي‏:‏ يخلطوا‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏بظلمٍ‏}‏، الظلم هنا ما يقابل الإيمان، وهو الشرك، ولما نزلت هذه الآية شق ذلك على الصحابة، وقالوا‏:‏ أينا لم يظلم نفسه‏؟‏ فقال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ‏:‏ ‏(‏ليس الأمر كما تظنون، إنما المراد به الشرك، ألم تسمعوا إلى قول الرجل الصالح - يعني لقمان - ‏:‏ ‏{‏إن الشرك لظلمٌ عظيم‏}‏‏"‏ ‏[‏‏(‏1‏)‏ البخاري‏:‏ كتاب الإيمان/ باب ظلم دون ظلم، مسلم‏:‏ كتاب الإيمان/ باب صدق الإيمان وإخلاصه‏.‏

‏]‏‏.‏

* والظلم أنواع‏:‏

1- أظلم الظلم، وهو الشرك في حق الله‏.‏

2- ظلم الإنسان نفسه؛ فلا يعطيها حقها، مثل أن يصوم فلا يفطر، ويقوم فلا ينام‏.‏

3- ظلم الإنسان غيره، مثل أن يتعدى على شخص بالضرب، أو القتل، أو أخذ مال، أو ما أشبه ذلك‏.‏

وإذا انتفى الظلم، حصل الأمن، لكن هل هو أمنٌ كامل‏؟‏

الجواب‏:‏ أنه إن كان الإيمان كاملًا لم يخالطه معصيةٌ؛ فالأمن أمنٌ مطلق، أي كامل، وإذا كان الإيمان مطلق إيمانٍ - غير كامل ـ؛ فله مطلق الأمن؛ أي‏:‏ أمن ناقص‏.‏

مثال ذلك‏:‏ مرتكب الكبيرة، أمنٌ من الخلود في النار، وغير آمن من العذاب، بل هو تحت المشيئة، قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 116‏]‏‏.‏

وهذه الآية قالها الله تعالى حكمًا بين إبراهيم وقومه حين قال لهم‏:‏ ‏{‏وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 81،82‏]‏؛ فقال الله تعالى‏:‏ ‏{‏الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية ‏[‏الأنعام‏:‏ 82‏]‏، على أنه قد يقول قائلٌ‏:‏ إنها من كلام إبراهيم ليبين لقومه، ولهذا قال بعدها‏:‏ ‏{‏وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ‏}‏ ‏[‏ الأنعام 83‏]‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏الأمن‏}‏، أل فيها للجنس، ولهذا فسرنا الأمن بأنه إما أمن مطلق، وإما مطلق أمن حسب الظلم الذي تلبس به‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏وَهُم مُّهْتَدُونَ‏}‏، أي‏:‏ في الدنيا إلى شرع الله بالعلم والعمل؛ فالاهتداء بالعلم هداية الإرشاد كما قال الله تعالى في أصحاب الجحيم‏:‏ ‏{‏احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 22‏:‏ 23‏]‏‏.‏

والاهتداء بالعمل‏:‏ هداية توفيق، وهم مهتدون في الآخرة إلى الجنة‏.‏

فهذه هداية الآخرة، وهي للذين ظلموا إلى صراط الجحيم؛ فيكون مقابلها أن الذين آمنوا ولم يظلموا يهدون إلى صراط النعيم‏.‏

وقال كثير من المفسرين في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ‏}‏‏:‏ إن الأمن في الآخرة، والهداية في الدنيا، والصواب أنها عامةٌ بالنسبة للأمن والهداية في الدنيا والآخرة‏.‏

مناسبة الآية للترجمة‏:‏

أن الله أثبت الأمن لمن لم يشرك، والذي لم يشرك يكون موحدا ؛ فدل على أن من فضائل التوحيد استقرار الأمن‏.‏

* * *

عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه؛ قال‏:‏ قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ‏:‏ ‏(‏من شهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدًا عبده ورسوله، وأن عيسى عبدالله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، والجنة حق، والنار حق؛ أدخله الله الجنة على ما كان من العمل‏)‏ أخرجاه ‏[‏البخاري‏:‏ كتاب أحاديث الأنبياء/ باب قوله تعالى‏:‏ ‏(‏يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم‏(‏، ومسلم‏:‏ كتاب الإيمان/ باب الدليل على أن من مات على التوحيد دخل الجنة‏.‏‏]‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏من شهد أن لا اله إلا الله‏)‏، الشهادة لا تكون إلا عن علم سابق، قال تعالى‏:‏ ‏{‏إِلاَّ مَن شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 86‏]‏، وهذا العلم قد يكون مكتسبًا وقد يكون غريزيًا‏.‏

فالعلم بأنه لا إله إلا الله غريزيٌ، قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ‏:‏ ‏(‏كل مولودٍ يولد على الفطرة‏)‏ ‏[‏‏)‏ البخاري‏:‏ كتاب الجنائز/ باب ما قيل في أولاد المشركين، ومسلم‏:‏ كتاب القدر/ باب معنى كل مولود يولد على الفطرة‏.‏‏]‏‏.‏ وقد يكون مكتسبًا، وذلك بتدبر آيات الله، والتفكر فيها‏.‏

ولابد أن يوجد العلم بلا إله إلا الله ثم الشهادة بها‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏أنْ‏}‏، مخففة من الثقيلة، والنطق بأن مشددة خطأٌ، لأن المشددة لا يمكن حذف اسمها، والمخفّفة يمكن حذفه‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏لا إله‏}‏، أي‏:‏ لا مألوه، وليس بمعنى لا آله، والمألوه‏:‏ هو المعبود محبةً وتعظيماُ، تحبه وتعظمه لما تعلم من صفاته العظيمة وأفعاله الجليلة‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏إلا الله‏}‏، أي‏:‏ لا مألوه إلا الله، ولهذا حكي عن قريش قولهم‏:‏ ‏{‏أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 5‏]‏‏.‏

أما قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مِن شَيْءٍ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 101‏]‏، فهذا التأله باطل؛ لأنه بغير حق، فهو منفيٌ شرعًا، وإذا انتفى شرعًا؛ فهو كالمنتفي وقوعًا؛ فلا قرار له، ‏{‏وَمَثلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِن فَوْقِ الأَرْضِ مَا لَهَا مِن قَرَارٍ‏}‏ ‏[‏إبراهيم‏:‏ 26‏]‏‏.‏

وبهذا يحصل الجمع بين قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 101‏]‏، وقوله تعالى حكايةً عن قريش‏:‏ ‏{‏أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 5‏]‏، وبين قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلاَّ اللَّهُ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 62‏]‏؛ فهذه الآلهة مجرد أسماء لا معاني لها ولا حقيقة؛ إذ هي باطلة شرعًا، لا تستحق أن تسمى آلهة؛ لأنها لا تنفع ولا تضر، ولا تخلق ولا ترزق؛ كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَآؤُكُم مَّا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 40‏]‏‏.‏

* التوحيد عند المتكلمين‏:‏

يقولون‏:‏ إن معنى إله‏:‏ آله، والآله‏:‏ القادر على الاختراع؛ فيكون معنى لا إله إلا الله‏:‏ لا قادر على الاختراع إلا الله‏.‏

والتوحيد عندهم‏:‏ أن توحد الله، فتقول‏:‏ هو واحد في ذاته، لا قسيم له، وواحد في أفعاله لا شريك له، وواحد في صفاته لا شبيه له، ولو كان هذا معنى لا إله إلا الله؛ لما أنكرت قريش على النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ دعوته ولآمنت به وصدقت؛ لأن قريشًا تقول‏:‏ لا خالق إلا الله، ولا خالق أبلغ من كلمة لا قادر، لأن القادر قد يفعل وقد لا يفعل، أما الخالق؛ فقد فعل وحقق بقدرة منه، فصار فهم المشركين خيرًا من فهم هؤلاء المتكلمين والمنتسبين للإسلام؛ فالتوحيد الذي جاءت به الرسل في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 59‏]‏؛ أي من إله حقيقي يستحق أن يعبد، وهو الله‏.‏

ومن المؤسف أنه يوجد كثير من الكتاب الآن الذين يكتبون في هذه الأبواب تجدهم عندما يتكلمون على التوحيد لا يقررون أكثر من توحيد الربوبية، وهذا غلط ونقص عظيم، ويجب أن نغرس في قلوب المسلمين توحيد الألوهية أكثر من توحيد الربوبية، لأن توحيد الربوبية لم ينكره أحد إنكارًا حقيقيًا، فكوننا لا نقرر إلا هذا الأمر الفطري المعلوم بالعقل، ونسكت عن الأمر الذي يغلب فيه الهوى هو نقص عظيم، فعبادة غير الله هي التي يسيطر فيها هوى الإنسان على نفسه حتى يصرفه عن عبادة الله وحده، فيعبد الأولياء ويعبد هواه، حتى جعل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ الذي همه الدرهم والدينار ونحوهما عابدًا، وقال الله - عز وجل ـ‏:‏ ‏{‏أفرأيت من اتخذ إلهه هواه‏}‏ ‏[‏الجاثية‏:‏ 23‏]‏‏.‏

فالمعاصي من حيث المعنى العام أو الجنس العام يمكن أن نعتبرها من الشرك‏.‏ وأما بالمعنى الأخص؛ فتنقسم إلى أنواع‏:‏

1- شرك أكبر‏.‏

2- شرك أصغر‏.‏

3- معصية كبيرة‏.‏

4- معصية صغيرة‏.‏

وهذه المعاصي منها ما يتعلق بحق الله، ومنها ما يتعلق بحق الإنسان نفسه، ومنها ما يتعلق بحق الخلق‏.‏

وتحقيق لا إله إلا الله أمر في غاية الصعوبة، ولهذا قال بعض السلف‏:‏ ‏"‏كل معصية، فهي نوع من الشرك‏"‏‏.‏

وقال بعض السلف‏:‏ ‏"‏ما جاهدت نفسي على شيء مجاهدتها على الإخلاص‏"‏، ولا يعرف هذا إلا المؤمن، أما غير المؤمن؛ فلا يجاهد نفسه على الإخلاص، ولهذا قيل لابن عباس‏:‏ ‏"‏إنّ اليهود يقولون‏:‏ نحن لا نوسوس في الصلاة‏.‏ قال‏:‏ فما يصنع الشيطان بقلبٍ خرب‏؟‏‏!‏‏"‏؛ فالشيطان لا يأتي ليخرّب المهدوم، ولكن يأتي ليخرّب المعمور، ولهذا لما شُكي إلى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن الرجل يجد في نفسه ما يستعظم أن يتكلم به؛ قال‏:‏ ‏(‏وجدتم ذلك‏؟‏‏)‏‏.‏ قالوا‏:‏ نعم‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏ذاك صريح الإيمان‏)‏ ‏[‏مسلم‏:‏ كتاب الإيمان/ باب الوسوسة في الإيمان‏.‏‏]‏؛ أي‏:‏ أن ذاك هو العلامة البينة على أنّ إيمانكم صريح لأنّه ورد عليه، ولا يرد إلا على قلب صحيح خالص‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏من شهد أن لا إله إلا الله‏)‏، من‏:‏ شرطية، وجواب الشرط‏:‏ ‏(‏أدخله الله الجنة على ما كان من العمل‏)‏‏.‏

والشهادة‏:‏ هي الاعتراف باللسان، والاعتقاد بالقلب، والتصديق بالجوارح، ولهذا لما قال المنافقون للرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ‏:‏ ‏{‏نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ‏}‏ ‏[‏المنافقون‏:‏ 1‏]‏ وهذه جملة مؤكدة بثلاث مؤكدات‏:‏ الشهادة، وإن، واللام، كذبهم الله بقوله‏:‏ ‏{‏وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ‏}‏ ‏[‏المنافقون‏:‏ 1‏]‏؛ فلم ينفعهم هذا الإقرار باللسان لأنه خالٍ من الاعتقاد بالقلب، وخالٍ من التصديق بالعمل، فلم ينفع؛ فلا تتحقق الشهادة إلا بعقيدة في القلب، واعتراف باللسان، وتصديق بالعمل‏.‏

وقوله‏:‏ ‏"‏لا إله إلا الله‏"‏، أي‏:‏ لا معبود على وجه يستحق أن يعبد إلا الله، وهذه الأصنام التي تعبد لا تستحق العبادة؛ لأنه ليس فيها من خصائص الألوهية شيء‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏وحده لا شريك له‏}‏، وحده‏:‏ توكيد للإثبات، لا شريك له‏:‏ توكيد للنفي في كل ما يختص به من الربوبية والألوهية والأسماء والصفات‏.‏

ولهذا كان النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وغيره من المؤمنين يلجؤون إلى الله تعالى عند الشدائد؛ فقد جاء أعرابي إلى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وعنده أصحابه، وقد علق سيفه على شجرة فاخترطه الأعرابي، وقال‏:‏ من يمنعك مني‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏يمنعني الله‏)‏ ‏[‏البخاري‏:‏ كتاب المغازي/ باب غزوة ذات الرقاع، ومسلم‏:‏ كتاب صلاة المسافرين/ باب صلاة الخوف‏.‏‏]‏ ولم يقل أصحابي، وهذا هو تحقيق توحيد الربوبية؛ لأن الله هو الذين يملك النفع، والضر، والخلق، والتدبير، والتصرف في الملك؛ إذ لا شريك له فيما يختص به من الربوبية والألوهية والأسماء والصفات‏.‏

وقولنا فيما يختص به حتى نسلم من شبهات كثيرة، منها شبهات النّافين للصفات؛ لأن النّافين للصفات زعموا أن إثبات الصفات إشراك بالله - عز وجل ـ، حيث قالوا‏:‏ يلزم من ذلك التمثيل، لكننا نقول‏:‏ للخالق صفات تختص به، وللمخلوق صفات تختص به‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وأنّ محمدًا‏)‏، محمد‏:‏ هو محمد بن عبدالله بن عبد المطلب، القرشي، الهاشمي، خاتم النبيين‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏عبده‏)‏؛ أي‏:‏ ليس شريكًا مع الله‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏ورسوله‏)‏؛ أي‏:‏ المبعوث بما أوحى إليه، فليس كاذبًا على الله‏.‏

فالرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ عبدٌ مربوب، جميع خصائص البشرية تلحقه ما عدا شيئًا واحدًا، وهو ما يعود إلى أسافل الأخلاق؛ فهو منزه معصوم منه، قال تعالى‏:‏ ‏{‏قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلاَ ضَرًّا إِلاَّ مَا شَاء اللَّهُ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 188‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا رَشَدًا قُلْ إِنِّي لَن يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَدًا‏}‏ ‏[‏الجن‏:‏ 21، 22‏]‏‏.‏

فهو بشر مثلنا؛ إلا أنه يوحى إليه، قال تعال‏:‏ ‏{‏قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 6‏]‏‏.‏

ومن قال‏:‏ إن الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ ليس له ظل، أو أن نوره يطفئ ظله إذا مشى في الشمس؛ فكله كذب باطل، ولهذا قالت عائشة رضي الله عنها‏:‏ ‏(‏كنت أمد رجلي بين يديه، وتعتذر بأن البيوت ليس فيها مصابيح‏)‏، فلو كان النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ له نور؛ لم تعتذر رضي الله عنها، ولكنه الغلو الذي أفسد الدين والدنيا، والعياذ بالله‏.‏

ومن الغلو قول البوصيري في ‏"‏البردة‏"‏ المشهورة‏:‏

يا أكرم الخلق ما لي من ألوذ به ** سواك عند حلول الحادث العمم

إن لم تكن آخذًا يوم المعاد يدي ** فضلًا وإلا فقل يا زلة القدم

فإن من جودك الدنيا وضرتها ** ومن علومك علم اللوح والقلم

قال ابن رجب وغيره‏:‏ إنه لم يترك لله شيئًا ما دامت الدنيا والآخرة من جود الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ‏.‏

ونشهد أن من يقول هذا؛ ما شهد أن محمدًا عبدالله، بل شهد أن محمدًا فوق الله‏!‏ كيف يصل بهم الغلو إلى هذا الحد‏؟‏‏!‏

وهذا الغلو فوق غلو النصارى الذين قالوا‏:‏ إن المسيح ابن الله، وقالوا‏:‏ إن الله ثالث ثلاثة‏.‏

هم قالوا فوق ذلك، قالوا‏:‏ إن الله يقول‏:‏ ‏(‏من ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منه، وأنا مع عبدي إذا ذكرني‏)‏ ‏[‏البخاري‏:‏ كتاب التوحيد/ باب قول الله تعالى‏:‏ ‏(‏ويحذركم الله نفسه‏(‏، ومسلم‏:‏ كتاب الذكر والدعاء/ باب الحث على ذكر الله تعالى‏.‏‏]‏، والرسول معنا إذا ذكرناه، ولهذا كان أولئك الغلاة ليلة المولد إذا تلى التالي ‏"‏المخرّف‏"‏ كلمة المصطفى قاموا جميعًا قيام رجل واحد، يقولون‏:‏ لأن الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ حضر مجلسنا بنفسه، فقمنا إجلالًا له، والصحابة رضي الله عنهم أشدّ إجلالًا منهم ومنا، ومع ذلك إذا دخل عليهم الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ وهو حيٌ يكلمهم لا يقومون له، وهؤلاء يقومون إذا تخيلوا أو جاءهم شبح إن كانوا يشاهدون شيئًا، فانظر كيف بلغت بهم عقولهم إلى هذا الحد‏!‏ فهؤلاء ما شهدوا أن محمدًا عبدالله ورسوله، وهؤلاء المخرفون مساكين، إن نظرنا إليهم بعين القدر؛ فنرق لهم، ونسأل الله لهم السلامة والعافية، وإن نظرنا إليهم بعين الشرع؛ فإننا يجب أن ننابذهم بالحجة حتى يعودوا إلى الصراط المستقيم، والرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ أشد الناس عبودية لله، أخشاهم لله، واتقاهم لله، قام يصلي حتى تورمت قدماه، وقيل له في ذلك؛ فقال‏:‏ (‏أفلا أكون عبدًا شكورًا‏) ‏[‏البخاري‏:‏ كتاب التهجد/ باب قيام النبي ‏(‏ حتى تورم قدماه، ومسلم‏:‏ كتاب صفات المنافقين/ باب إكثار الأعمال‏.‏‏]‏، وقد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، هذا تحقيق العبادة العظيمة‏.‏

أما الرسالة؛ فهو رسول أرسله الله - عزوجل - بأعظم شريعة إلى جميع الخلق، فبلغها غاية البلاغ، مع أنه أوذي وقوتل، حتى إنهم جاؤوا بسلا الجزور وهو ساجد عند الكعبة ووضعوه على ظهره، كل ذلك كراهيةً له ولما جاء به، ومع ذلك صبر، يلقون الأذى والأنتان والأقذار على عتبة بابه، لكن هذا للنبي الكريم امتحان من الله - عز وجل ـ؛ لأجل أن يتبين صبره وفضله، يخرج ويقول‏:‏ ‏(‏أي جوار هذا يا بني عبد مناف‏؟‏‏)‏ ‏[‏ذكره ابن هشام في ‏"‏السيرة النبوية‏"‏ ‏(‏2/416‏)‏، وابن كثير في ‏"‏البداية والنهاية‏"‏‏(‏3/133‏)‏‏.‏‏]‏، فصبر ـ صلى الله عليه وسلم ـ ؛ حتى فتح الله عليه، وأنذر أم القرى ومن حولها، ثم إنه حمل هذه الشريعة من بعده أشد الناس أمانةً وأقواهم على الاتباع؛ الصحابة رضي الله عنهم، وأدوها إلى الأمة نقيّة سليمة، ولله الحمد‏.‏

ونحب الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ لله وفي الله؛ فحب الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ من حبّ الله، ونقدمه على أنفسنا وأهلنا وأولادنا والناس أجمعين، وأحببناه من أجل أنه رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ‏.‏

ونحقق شهادة أن محمدًا رسول الله، وذلك بأن نعتقد ذلك بقلوبنا، ونعترف به بألسنتنا، ونطبق ذلك في متابعته ـ صلى الله عليه وسلم ـ بجوار حنا، فنعمل بهديه، ولا نعمل له‏.‏

أما ما ينقض تحقيق هذه الشهادة، فهو‏:‏

1- فعل المعاصي؛ فالمعصية نقص في تحقيق هذه الشهادة؛ لأنك خرجت بمعصيتك من اتباع النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ‏.‏

2- الابتداع في الدين ما ليس منه؛ لأنك تقربت إلى الله بما لم يشرعه الله ولا رسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ والابتداع في الدين في الحقيقة من الاستهزاء بالله، لأنك تقرّبت إليه بشيء لم يشرعه‏.‏

فإن قال قائل‏:‏ أنا نويت التقرب إلى الله بهذا العمل الذي أبتدعه‏.‏

قيل له‏:‏ أنت أخطأت الطريق؛ فتعذر على نيتك، ولا تعذر على مخالفة الطريق متى علمت الحق‏.‏

فالمبتدعون قد يقال‏:‏ إنهم يثابون على حسن نيتهم إذا كانوا لا يعلمون الحق، ولكننا نخطّئهم فيما ذهبوا إليه، أما أئمتهم الذين علموا الحق، ولكن ردّوه ليبقوا جاههم؛ ففيهم شبه بأبي جهل، وعتبة بن ربيعة، والوليد بن المغيرة، وغيرهم الذين قابلوا رسالة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بالرد إبقاءً على رئاستهم وجاههم‏.‏

أما بالنسبة لأتباع هؤلاء الأئمة؛ فينقسمون إلى قسمين‏:‏

القسم الأول‏:‏ الذين جهلوا الحق، فلم يعلموا عنه شيئًا، ولم يحصل منهم تقصير في طلبه، حيث ظنّوا أن ما هم عليه هو الحق؛ فهؤلاء معذورون‏.‏

القسم الثاني‏:‏ من علموا الحق، ولكنهم ردّوه تعصّبًا لأئمتهم؛ فهؤلاء لا يعذرون، وهم كمن قال الله فيهم‏:‏ ‏{‏إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّهْتَدُونَ‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 22‏]‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وإن عيسى عبدالله ورسوله‏)‏، الكلام فيها كالكلام في شهادة أن محمدًا رسول الله، إلا أننا نؤمن برسالة عيسى، ولا يلزمنا اتباعه إذا خالفت شريعته شريعتنا‏.‏

فشريعة من قبلنا لها ثلاث حالات‏:‏

الأولى‏:‏ أن تكون مخالفة لشريعتنا؛ فالعمل على شرعنا‏.‏

الثانية‏:‏ أن تكون موافقة لشريعتنا؛ فنحن متبعون لشريعتنا‏.‏

الثالثة‏:‏ أن يكون مسكوتًا عنها في شريعتنا، وفى هذه الحال اختلف علماء الأصول‏:‏ هل نعمل بها، أو ندعها‏؟‏

والصحيح أنها شرع لنا، ودليل ذلك‏:‏

1- قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 90‏]‏‏.‏

2- قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُوْلِي الأَلْبَابِ‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 111‏]‏‏.‏

وقد تطرّف في عيسى طائفتان‏:‏

الأولى‏:‏ اليهود كذبوه، فقالوا‏:‏ بأنه ولد زنى، وأنّ أمه من البغايا، وأنه ليس بنبي، وقتلوه شرعًا؛ أي‏:‏ محكوم عليهم عند الله أنهم قتلوه في حكم الله الشرعي؛ لقوله تعالى عنهم‏:‏ ‏{‏إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 157‏]‏، وأما بالنسبة لحكم الله القدري؛ فقد كذبوا، وما قتلوه يقينًا، بل رفعه الله إليه، ولكن شبه لهم، فقتلوا المشبّه لهم وصلبوه‏.‏

الثانية‏:‏ النصارى قالوا‏:‏ إنه ابن الله، وإنه ثالث ثلاثة، وجعلوه إلهًا مع الله، وكذبوا فيما قالوا‏.‏

أما عقيدتنا نحن فيه‏:‏ فنشهد أنه عبد الله ورسوله، وأن أمه صديقة؛ كما أخبر الله تعالى بذلك، وأنها أحصنت فرجها، وأنّها عذراء، ولكن مثله عند الله كمثل آدم، خلقه من تراب ثم قال له‏:‏ كن؛ فيكون‏.‏

وفي قوله‏:‏ ‏{‏عبدالله‏}‏، رد على النصارى‏.‏

وفي قوله‏:‏ ‏{‏ورسوله‏}‏، رد على اليهود‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ‏}‏، أطلق الله عليه كلمة؛ لأنه خلق بالكلمة عليه السلام؛ فالحديث ليس على ظاهره؛ إذ عيسى عليه السلام ليس كلمة؛ لأنه يأكل، ويشرب، ويبول، ويتغوط، وتجري عليه جميع الأحوال البشرية، قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثِمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 59‏]‏‏.‏

وعيسى عليه السلام ليس كلمة الله؛ إذ إن كلام الله وصف قائم به، لا بائن منه، أما عيسى؛ فهو ذات بائنة عن الله - سبحانه -، يذهب ويجيء، ويأكل الطعام ويشرب‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏ألقاها إلى مريم‏}‏، أي‏:‏ وجّهها إليها بقوله‏:‏ ‏{‏كن فيكون‏}‏؛ كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثِمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 59‏]‏‏.‏

ومريم ابنة عمران ليست أخت موسى وهارون عليهما السلام كما يظنه بعض الناس، ولكن كما قال الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ كانوا يسمون بأسماء أنبيائهم ‏[‏مسلم‏:‏ كتاب الآداب/ باب النهي عن التكني بأبي القاسم وما يستحب من الأسماء‏.‏‏]‏ ، فهارون أخو مريم، ليس هارون أخا موسى، بل هو آخر يسمى باسمه، وكذلك عمران سمي باسم أبي موسى‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏وروح منه‏}‏، أي‏:‏ صار جسده عليه السلام بالكلمة، فنفخت فيه هذه الروح التي هي من الله؛ أي‏:‏ خلق من مخلوقاته أضيفت إليه تعالى للتشريف والتكريم‏.‏

وعيسى عليه السلام ليس روحًا، بل جسد ذو روح، قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏مَّا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلاَنِ الطَّعَامَ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 75‏]‏‏.‏

فبالنفخ صار جسدًا، وبالروح صار جسدًا وروحًا‏.‏

قوله‏:‏ ‏"‏منه‏"‏، هذه هي التي أضلّت النصارى، فظنوا أنه جزء من الله، فضلوا وأضلوا كثيرًا، ولكننا نقول‏:‏ إن الله قد أعمى بصائركم؛ فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور؛ فمن المعلوم أن عيسى عليه السلام كان يأكل الطعام، وهذا شيء معروف، ومن المعلوم أيضًا أن اليهود يقولون‏:‏ إنهم صلبوه، وهل يمكن لمن كان جزءًا من الرب أن ينفصل عن الرب ويأكل ويشرب ويدّعى أنه قتل وصلب‏؟‏

وعلى هذا تكون ‏"‏من‏"‏ للابتداء، وليس للتبعيض؛ فهي كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ‏}‏ ‏[‏الجاثية‏:‏ 13‏]‏؛ فلا يمكن أن نقول‏:‏ إن الشمس والقمر والأنهار جزء من الله، وهذا لم يقل به أحد‏.‏

فقوله‏:‏ ‏"‏منه‏"‏؛ أي‏:‏ روح صادرة من الله - عز وجل ـ وليست جزءًا من الله كما تزعم النصارى‏.‏

وأعلم أن ما أضافه الله إلى نفسه ينقسم إلى ثلاثة أقسام‏:‏

الأول‏:‏ العين القائمة بنفسها، وإضافتها إليه من باب إضافة المخلوق إلى خالقه، وهذه الإضافة قد تكون على سبيل عموم الخلق؛ كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ‏}‏ ‏[‏الجاثية‏:‏ 13‏]‏، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ‏}‏ ‏[‏العنكبوت‏:‏ 56‏]‏‏.‏

وقد تكون على سبيل الخصوص لشرفه، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 26‏]‏، وكقوله تعالى‏:‏ ‏{‏نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا‏}‏ ‏[‏الشمس‏:‏ 13‏]‏، وهذا القسم مخلوق‏.‏

الثاني‏:‏ أن يكون شيئًا مضافًا إلى عين مخلوقة يقوم بها، مثاله قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَرُوحٌ مِّنْهُ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 171‏]‏؛ فإضافة هذه الروح إلى الله من باب إضافة المخلوق إلى خالقه تشريفًا؛ فهي روح من الأرواح التي خلقها الله، وليست جزءً أو روحًا من الله؛ إذ أنّ هذه الروح حلت في عيسى عليه السلام، وهو عين منفصلة عن الله، وهذا القسم مخلوق أيضًا‏.‏

الثالث‏:‏ أن يكون وصفًا غير مضاف إلى عين مخلوقة، مثال ذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاَتِي وَبِكَلاَمِي‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 144‏]‏، فالرسالة والكلام أضيفا إلى الله من باب إضافة الصفة إلى الموصوف، فإذا أضاف الله لنفسه صفة؛ فهذه الصفة غير مخلوقة، وبهذا يتبين أن هذه الأقسام الثلاثة‏:‏ قسمان منها مخلوقان، وقسم غير مخلوق‏.‏

فالأعيان القائمة بنفسها والمتصل بهذه الأعيان مخلوقة، والوصف الذي لم يذكر له عين يقوم بها غير مخلوق؛ لأنه يكون من صفات الله، وصفات الله غير مخلوقة‏.‏

وقد اجتمع القسمان في قوله‏:‏ ‏{‏كلمته، وروح منه‏}‏؛ فكلمته هذه وصف مضاف إلى الله، وعلى هذا، فتكون كلمته صفة من صفات الله‏.‏

وروح منه‏:‏ هذه أضيفت إلى عين، لأن الروح حلت في عيسى، فهي مخلوقة‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏أدخله الله الجنة‏)‏ إدخال الجنة ينقسم إلى قسمين‏:‏

الأول‏:‏ إدخال كامل لم يسبق بعذاب لمن أتمّ العمل‏.‏

الثاني‏:‏ إدخال ناقص مسبوق بعذاب لمن نقص العمل‏.‏

فالمؤمن إذا غلبت سيئاته حسناته إن شاء الله عذّبه بقدر عمله، وإن شاء لم يعذّبه، قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 116‏]‏‏.‏

* * *

نور الزعبي
30-01-12, 05:53 PM
ولهما ‏[‏البخاري‏:‏ كتاب الصلاة/ باب المساجد في البيوت، ومسلم‏:‏ كتاب المساجد/ باب الرخصة في التخلف عن الجماعة بعذر‏.‏

‏]‏ في حديث عتبان‏:‏ فإن الله حرم على النار من قال‏:‏ لا إله إلا الله؛ يبتغي بذلك وجه الله‏.‏

قوله‏:‏ ‏"‏عتبان‏"‏، هو عتبان بن مالك الأنصاري رضي الله عنه، كان يصلي بقومه، فضعف بصره، وشق عليه الذهاب إليهم، فطلب من النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن يخرج إليه وأن يصلي في مكان من بيته ليتخذه مصلى، فخرج إليه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ومعه طائفة من أصحابه، منهم أبو بكر وعمر رضي الله عنهما، فلما دخل البيت، قال‏:‏ ‏(‏أين تريد أن أصلي‏؟‏‏)‏‏.‏ قال‏:‏ صل ها هنا‏.‏ وأشار إلى ناحية من البيت، فصلى بهم النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ركعتين، ثم جلس على طعام صنعوه له، فجعلوا يتذاكرون، فذكروا رجلًا يقال له‏:‏ مالك بن الدُّخْشُم، فقال بعضهم‏:‏ هو منافق‏.‏ فقال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ‏:‏ ‏(‏لا تقل هكذا؛ أليس قال‏:‏ لا إله إلا الله يريد بذلك وجه الله‏؟‏‍‏!‏‏"‏‏.‏ ثم قال‏:‏ ‏"‏فإن الله حرم على النار‏.‏‏.‏‏.‏‏"‏ الحديث‏.‏

فنهاهم أن يقولوا هكذا، لأنهم لا يدرون عما في قلبه؛ لأنه يشهد أن لا إله إلا الله، وهنا الرسول قال هكذا، ولم يبرئ الرجل، إنّما أتى بعبارة عامة بأن الله حرّم على النار من قال‏:‏ لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله، ونهى أن نطلق ألسنتنا في عباد الله الذي ظاهرهم الصلاح، ونقول‏:‏ هذا مراء، هذا فاسق، وما أشبه ذلك؛ لأننا لو أخذنا بما نظن فسدت الدنيا والآخرة؛ فكثير من الناس نظن بهم سوءً، ولكن لا يجوز أن نقول ذلك وظاهرهم الصلاح، ولهذا قال العلماء‏:‏ يحرم ظن السوء بمسلم ظاهره العدالة‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فإن الله حرم على النار‏)‏، أي‏:‏ منع من النار، أو منع النار أن تصيبه‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏من قال‏:‏ لا إله إلا الله‏)‏، أي‏:‏ بشرط الإخلاص، بدليل قوله‏:‏ ‏(‏يبتغي بذلك وجه الله‏)‏، أي‏:‏ يطلب وجه الله، ومن طلب وجهًا؛ فلا بد أن يعمل كل ما في وسعه للوصول إليه؛ لأن مبتغي الشيء يسعى في الوصول إليه، وعليه؛ فلا نحتاج إلى قول الزهري رحمه الله بعد أن ساق الحديث؛ كما في ‏"‏صحيح مسلم‏"‏ ‏[‏مسلم‏:‏ كتاب المساجد/ باب الرخصة في التخلف عن الجماعة بعذر‏.‏‏]‏، حيث قال‏:‏ ‏(‏ثم وجبت بعد ذلك أمور، وحُرّمت أمور؛ فلا يغتر مغترٌ بهذا‏)‏؛ فالحديث واضح الدلالة على شرطية العمل لمن قال‏:‏ لا إله إلا الله، حيث قال‏:‏ ‏(‏يبتغي بذلك وجه الله‏)‏، ولهذا قال بعض السلف عن قول النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ‏:‏ ‏(‏مفتاح الجنة‏:‏ لا إله إلا الله‏)‏ ‏[‏الإمام أحمد في ‏"‏المسند‏"‏ 5/242، والهيثمي في ‏"‏المجمع‏"‏ 1/16، والخطيب في ‏"‏المشكاة‏"‏ 1/91، قال الهيثمي‏:‏ ‏"‏رواه أحمد والبزار وفيه انقطاع‏"‏، وضعفه الألباني في ‏"‏الضعيفة‏"‏ 3/477‏.‏‏]‏، لكن من أتى بمفتاح لا أسنان له لا يفتح له‏.‏

قال شيخ الإسلام‏:‏ إنّ المبتغي لا بد أن يكمّل وسائل البغية، وإذا أكملها حرمت عليه النار تحريمًا مطلقًا، وإن أتى بالحسنات على الوجه الأكمل؛ فإنّ النار تحرم عليه تحريمًا مطلقًا، وإن أتى بشيء ناقص، فإن الابتغاء فيه نقص، فيكون تحريم النار عليه فيه نقص، لكن يمنعه ما معه من التوحيد من الخلود في النار، وكذا من زنى، أو شرب الخمر، أو سرق، فإذا فعل شيئًا من ذلك ثم قال حين فعله‏:‏ أشهد أن لا إله إلا الله ابتغي بذلك وجه الله؛ فهو كاذب في زعمه؛ لأن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال‏:‏ ‏(‏لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن‏)‏ ‏[‏البخاري‏:‏ كتاب الأشربة/ باب قوله تعال‏:‏ ‏(‏إنما الخمر والميسر‏.‏‏.‏‏.‏‏(‏، ومسلم‏:‏ كتاب الإيمان/ باب نقصان الإيمان بالمعاصي‏.‏‏]‏، فضلًا عن أن يكون مبتغيًا وجه الله‏.‏

وفي الحديث ردٌّ على المرجئة الذين يقولون‏:‏ يكفي قول‏:‏ لا إله إلا الله، دون ابتغاء وجه الله‏.‏

وفيه ردٌّ على الخوارج والمعتزلة؛ لأن ظاهر الحديث أن من فعل هذه المحرمات لا يخلد في النار، لكنه مستحق للعقوبة، وهم يقولون‏:‏ إن فاعل الكبيرة مخلد في النار‏.‏

* * *

وعن أبي سعيدٍ الخدري رضي الله عنه، عن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ؛ قال‏:‏ ‏(‏قال موسى عليه السلام‏:‏ يارب‏!‏ علمني شيئًا أذكرك وأدعوك به‏.‏ قال‏:‏ قل يا موسى‏:‏ لا إله إلا الله‏.‏ قال‏:‏ يارب‏!‏ كل عبادك يقولون هذا‏؟‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏أذكرك وأدعوك به‏)‏، صفة لشيء، وليست جواب الطلب؛ فموسى عليه السلام طلب شيئًا يحصل به أمران‏:‏

1- ذكر الله‏.‏

2- دعاؤه‏.‏

فأجابه الله بقوله‏:‏ ‏(‏قل لا إله إلا الله‏)‏، وهذه الجملة ذكر متضمن للدعاء؛ لأن الذاكر يريد رضا الله عنه، والوصول إلى دار كرامته إذًا؛ فهو متضمن للدعاء، قال الشاعر‏:‏

أأذكر حاجتي أم قد كفاني ** حباؤك إن شيمتك الحباء‏.‏

يعني‏:‏ عطاؤك‏.‏

واستشهد ابن عباس على أن الذكر بمعنى الدعاء بقول الشاعر‏:‏

إذا أثنى عليك العبد يومًا ** كفاه من تعرضه الثناء

قوله‏:‏ ‏(‏كل عبادك يقولون هذا‏)‏، ليس المعنى أنها كلمة هينة كلٌّ يقولها؛ لأنّ موسى عليه الصلاة والسلام يعلم عظَم هذه الكلمة، ولكنه أراد شيئًا يختص به؛ لأن تخصيص الإنسان بالأمر يدل على منقبة له ورفعة؛ فبين الله لموسى أنه مهما أعطي فلن يعطى أفضل من هذه الكلمة، وأنّ لا إله إلا الله أعظم من السماوات والأرض وما فيهن؛ لأنها تميل بهن وترجح، فدل ذلك على فضل لا إله إلا الله وعظَمها، لكن لابد من الإتيان بشروطها، أما مجرد أن يقولها القائل بلسانه؛ فكم من إنسان يقولها لكنها عنده كالريشة لا تساوي شيئًا؛ لأنّه لم يقلها على الوجه الذي تمت به الشروط وانتفت به الموانع‏.‏

* * *

قال‏:‏ يا موسى‏!‏ لو أن السماوات السبع وعامرهن غيري، والأرضين السبع في كفة و‏(‏لا إله إلا الله‏)‏ في كفة، مالت بهن لا إله إلا الله‏)‏ رواه ابن حبان والحاكم وصححه‏[‏ابن حبان ‏(‏2324‏)‏، والحاكم ‏(‏1/528‏)‏ - وصححه ووافقه الذهبي ـ، وقال الحافظ في ‏"‏الفتح‏"‏‏:‏ أخرجه النسائي بسند صحيح‏.‏

‏]‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏والأرضين السبع‏)‏، في بعض النسخ بالرفع، وهذا لا يصلح؛ لأنه إذا عطف على اسم أنّ قبل استكمال الخبر وجب النصب‏.‏

قوله‏:‏ ‏"‏مالت‏"‏، أي‏:‏ رجحت حتى يملن‏.‏

قوله‏:‏ ‏"‏عامرهن‏"‏، أي‏:‏ ساكنهن، فالعامر للشيء هو الذي عمر به الشيء‏.‏

قوله‏:‏ ‏"‏غيري‏"‏، استثنى نفسه تبارك وتعالى؛ لأن قول لا إله إلا الله ثناء عليه، والمثنى عليه أعظم من الثناء، وهنا يجب أن تعرف أن كون الله تعالى في السماء ليس ككون الملائكة في السماء؛ فكون الملائكة في السماء كون حاجي، فهم ساكنون في السماء؛ لأنهم محتاجون إلى السماء، لكن الرب تبارك وتعالى ليس محتاجًا إليها، بل إن السماء وغير السماء محتاج إلى الله تعالى؛ فلا يظن ظانٌّ أن السماء تقل الله أو تظله أو تحيط به، وعليه؛ فالسماوات باعتبار الملائكة أمكنة مقلة للملائكة، وما فوقهم منها مظل لهم، أما بالنسبة لله؛ فهي جهة لأن الله تعالى مستوٍ على عرشه، لا يقله شيء من خلقه‏.‏

* * *

وللترمذي وحسنه عن أنسٍ‏:‏ سمعت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ؛ يقول‏:‏ ‏(‏قال الله تعالى‏:‏ يا ابن آدم‏!‏ لو أتيتني بقراب الأرض خطايا، ثم لقيتني لا تشرك به شيئًا؛ لأتيتك بقرابها مغفرة‏)‏ ‏[‏مسند الإمام أحمد ‏(‏5/147‏)‏، والترمذي‏:‏ كتاب الدعوات/ باب غفران الذنوب، وقال‏:‏ ‏"‏حسن غريب‏"‏‏.‏‏]‏

قوله‏:‏ ‏"‏قال الله تعالى ‏:‏ يا ابن آدم‏.‏‏.‏‏.‏‏"‏ إلخ‏.‏

هذا من الأحاديث القدسية، والحديث القدسي‏:‏ ما رواه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن ربه، وقد أدخله المحدثون في الأحاديث النبوية؛ لأنه منسوب إلى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ تبليغًا، وليس من القرآن بالإجماع، وإن كان كل واحد منهما قد بلغه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أمته عن الله- عز وجل -‏.‏

وقد اختلف العلماء رحمهم الله في لفظ الحديث القدسي‏:‏ هل هو كلام الله تعالى، أو أن الله تعالى أوحى إلى رسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ معناه واللفظ لفظ رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ‏؟‏

على قولين‏:‏

القول الأول‏:‏ أن الحديث القدسي من عند الله لفظه ومعناه؛ لأن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أضافه إلى الله تعالى، ومن المعلوم أن الأصل في القول المضاف أن يكون بلفظ قائله لا ناقله، لاسيما والنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أقوى الناس أمانةً وأوثقهم روايةً‏.‏

القول الثاني‏:‏ أن الحديث القدسي معناه من عند الله ولفظه لفظ النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وذلك لوجهين‏:‏

الوجه الأول‏:‏ لو كان الحديث القدسي من عند الله لفظًا ومعنى؛ لكان أعلى سندًا من القرآن، لأن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يرويه عن ربه تعالى بدون واسطة؛ كما هو ظاهر السياق، أما القرآن، فنزل على النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بواسطة جبريل؛ كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِن رَّبِّكَ‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 102‏]‏، وقال‏:‏ ‏{‏نزل به الروح الأمين * على قلبك لتكون من المنذرين * بلسان عربي مبين‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 193-195‏]‏‏.‏

الوجه الثاني‏:‏ أنه لو كان لفظ الحديث القدسي من عند الله، لم يكن بينه وبين القرآن فرق؛ لأن كليهما على هذا التقدير كلام الله تعالى، والحكمة تقتضي تساويهما في الحكم حين اتفقا في الأصل، ومن المعلوم أن بين القرآن والحديث القدسي فروق كثيرة‏:‏

منها‏:‏ أن الحديث القدسي لا يتعبد بتلاوته، بمعنى أن الإنسان لا يتعبد لله تعالى بمجرد قراءته؛ فلا يثاب على كل حرف منه عشر حسنات، والقرآن يتعبد بتلاوته بكل حرف منه عشر حسنات‏.‏

ومنها‏:‏ أن الله تعالى تحدى أن يأتي الناس بمثل القرآن أو آية منه، ولم يرد مثل ذلك في الأحاديث القدسية‏.‏

ومنها‏:‏ أن القرآن محفوظ من عند الله تعالى؛ كما قال سبحانه‏:‏ ‏{‏إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏ 9‏]‏، والأحاديث القدسية بخلاف ذلك؛ ففيها الصحيح والحسن، بل أضيف إليها ما كان ضعيفًا أو موضوعًا، وهذا وإن لم يكن منها لكن نسب إليها وفيها التقديم والتأخير والزيادة والنقص‏.‏

ومنها‏:‏ أن القرآن لا تجوز قراءته بالمعنى بإجماع المسلمين، وأما الأحاديث القدسية، فعلى الخلاف في جواز نقل الحديث النبوي بالمعنى والأكثرون على جوازه‏.‏

ومنها‏:‏ أن القرآن تشرع قراءته في الصلاة ومنه ما لا تصح الصلاة بدون قراءته، بخلاف الأحاديث القدسية‏.‏

ومنها‏:‏ أن القرآن لا يمسه إلا طاهر على الأصح، بخلاف الأحاديث القدسية‏.‏

ومنها‏:‏ أن القرآن لا يقرؤه الجنب حتى يغتسل على القول الراجح، بخلاف الأحاديث القدسية‏.‏

ومنها‏:‏ أن القرآن ثبت بالتواتر القطعي المفيد للعلم اليقيني، فلو أنكر منه حرفًا أجمع القراء عليه؛ لكان كافرًا، بخلاف الأحاديث القدسية؛ فإنه لو أنكر شيئًا منها مدعيًا أنه لم يثبت؛ لم يكفر، أما لو أنكره مع علمه أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قاله؛ لكان كافرًا لتكذيبه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ‏.‏

وأجاب هؤلاء عن كون النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أضافه إلى الله، والأصل في القول المضاف أن يكون لفظ قائله بالتسليم أن هذا هو الأصل، لكن قد يضاف إلى قائله معنىً لا لفظًا؛ كما في القرآن الكريم؛ فإن الله تعالى يضيف أقوالًا إلى قائليها، ونحن نعلم أنها أضيفت معنىً لا لفظًا، كما في ‏"‏قصص الأنبياء‏"‏ وغيرهم، وكلام الهدهد والنملة؛ فإنه بغير هذا اللفظ قطعًا‏.‏

وبهذا يتبين رجحان هذا القول، وليس الخلاف في هذا كالخلاف بين الأشاعرة وأهل السنة في كلام الله تعالى؛ لأن الخلاف بين هؤلاء في أصل كلام الله تعالى؛ فأهل السنة يقولون‏:‏ كلام الله تعالى، لأن الخلاف بين هؤلاء في أصل كلام الله تعالى، فأهل السنة يقولون‏:‏ كلام الله تعالى كلام حقيقي مسموع يتكلم سبحانه بصوت وحرف، والأشاعرة لا يثبتون ذلك، وإنما يقولون‏:‏ كلام الله تعالى هو المعنى القائم بنفسه وليس بحرف وصوت، وكلن الله تعالى يخلق صوتًا يعبر به عن المعنى القائم بنفسه، ولا شك في بطلان قولهم، وهو في الحقيقة قول المعتزلة، لأن المعتزلة يقولون‏:‏ القرآن مخلوق، وهو كلام الله وهؤلاء يقولون‏:‏ القرآن مخلوق، وهو عبارة عن كلام، فقد اتفق الجميع على أن ما بين دفتي المصحف مخلوق‏.‏

ثم لو قيل في مسألتنا - الكلام في الحديث القدسي ـ‏:‏ إن الأولى ترك الخوض في هذا؛ خوفًا من أن يكون من التنطع الهالك فاعله، والاقتصار على القول بأن الحديث القدسي ما رواه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن ربه وكفى؛ لكان ذلك كافيًا، ولعله أسلم والله أعلم‏.‏

* ‏(‏فائدة‏)‏‏:‏

إذا انتهى سند الحديث إلى الله تعالى سمي ‏(‏قدسيًا‏)‏؛ لقدسيته وفضله، وإذا انتهى إلى الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ سمي مرفوعًا، وإذا انتهى إلى الصحابي سمي موقوفًا، وإذا انتهى إلى التابعي فمن بعده سمي مقطوعًا‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏بقراب الأرض‏)‏، أي‏:‏ ما يقاربها؛ إما ملئًا، أو ثقلًا، أو حجمًا‏.‏

قوله‏:‏ ‏"‏خطايا‏"‏، جمع خطيئة، وهي الذنب، والخطايا الذنوب، ولو كانت صغيرة؛ لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏بَلَى مَن كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 81‏]‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏لا تشرك بي شيئًا‏)‏ جملة ‏"‏لا تشرك‏"‏ في موضع نصب على الحال في التاء، أي‏:‏ لقيتني في حال لا تشرك بي شيئًا‏.‏

قوله‏:‏ ‏"‏شيئًا‏"‏ نكرة في سياق النفي تفيد العموم؛ أي‏:‏ لا شركًا أصغر ولا أكبر‏.‏

وهذا قيد عظيم قد يتهاون به الإنسان، ويقول‏:‏ أنا غير مشرك وهو لا يدري؛ فحب المال مثلًا بحيث يلهي عن طاعة الله من الإشراك، قال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ‏:‏ ‏(‏تعس عبد الدينار، تعس عبد الدرهم، تعس عبد الخميصة، تعس عبد الخميلة‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏)‏

الحديث‏.‏ فسمى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ من كان هذا همه سماه‏:‏ عبدًا له‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏لأتيتك بقرابها مغفرة‏)‏، أي‏:‏ أن حسنة التوحيد عظيمة تكفر الخطايا الكبيرة إذا لقي الله وهو لا يشرك به شيئًا، والمغفرة ستر الذنب والتجاوز عنه‏.‏

* مناسبة الحديث للترجمة‏:‏

أن في هذا الحديث فضل التوحيد، وأنه سبب لتكفير الذنوب؛ فهو مطابق لقوله في الترجمة‏:‏ ‏(‏وما يكفر من الذنوب‏)‏‏.‏

* * *

* فيه مسائل‏:‏

الأولى‏:‏ سعة فضل الله‏.‏ الثانية‏:‏ كثرة ثواب التوحيد عند الله‏.‏ الثالثة‏:‏ تكفيره مع ذلك الذنوب‏.‏ الرابعة‏:‏ تفسير الآية التي في سورة الأنعام‏.‏

قوله‏:‏ ‏"‏فيه مسائل‏"‏‏:‏

* الأولى‏:‏ ‏"‏سعة فضل الله‏"‏، لقوله‏:‏ ‏"‏أدخله الله الجنة على ما كان من العمل‏"‏‏.‏

* الثانية‏:‏ كثرة ثواب التوحيد عند الله، لقوله‏:‏ ‏"‏مالت بهن لا إله إلا الله‏"‏‏.‏

* الثالثة‏:‏ تكفيره مع ذلك للذنوب، لقوله‏:‏ ‏(‏لأتيتك بقرابها مغفرة‏)‏؛ فالإنسان قد تغلبه نفسه أحيانًا؛ فيقع في الخطايا، لكنه مخلص لله في عبادته وطاعته؛ فحسنة التوحيد تكفر عنه الخطايا إذا لقي الله بها‏.‏

* الرابعة‏:‏ تفسير الآية التي في سورة الأنعام، وهي قوله تعالى‏:‏ ‏{‏الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم‏}‏؛ فالظلم هنا الشّرك، لقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ‏:‏ ‏(‏ألم تسمعوا قول الرجل الصالح‏:‏ ‏{‏إن الشرك لظلم عظيم‏}‏‏)‏‏.‏

* * *

الخامسة‏:‏ تأمل الخمس اللواتي في حديث عبادة‏.‏ السادسة‏:‏ أنك إذا جمعت بينه وبين حديث عتبان وما بعده؛ تبين لك معنى قول‏:‏ ‏(‏لا إله إلا الله‏)‏، وتبين لك خطأ المغرورين‏.‏ السابعة‏:‏ التنبيه للشرط الذي في حديث عتبان‏.‏ الثامنة‏:‏ كون الأنبياء يحتاجون للتنبيه على فضل ‏(‏لا إله إلا الله‏)‏‏.‏

* الخامسة‏:‏ تأمل الخمس اللواتي في حديث عبادة‏:‏

1- 2- الشهادتان‏.‏

3- أن عيسى عبد الله، ورسوله، وكلمته ألقاها إلى مريم، وروح منه‏.‏

4- أن الجنة حق‏.‏

5- أن النار حق‏.‏

* السادسة‏:‏ أنك إذا جمعت بينه وبين حديث عتبان، وحديث أبي سعيد، وحديث أنس؛ تبين لك معنى قوله‏:‏ لا إله إلا الله، وتبين لك خطأ المغرورين، لأنّه لا بد أن يبتغي بها وجه الله، وإذا كان كذلك؛ فلابد أن تحمل المرء على العمل الصالح‏.‏

* السابعة‏:‏ التنبيه للشرط الذي في حديث عتبان، وهو أن يبتغي بقولها وجه الله، ولا يكفي مجرد القول؛ لأن المنافقين كانوا يقولونها ولم تنفعهم‏.‏

* الثامنة‏:‏ كون الأنبياء يحتاجون للتنبيه على فضل لا إله إلا الله، فغيرهم من باب أولى‏.‏

* * *

التاسعة‏:‏ التنبيه لرجحانها بجميع المخلوقات، مع أن كثيرًا ممن يقولها بخف ميزانه‏.‏ العاشرة‏:‏ النص على أن الأرضين سبعٌ كالسماوات‏.‏

* التاسعة‏:‏ التنبيه لرجحانها بجميع المخلوقات، مع أن كثيرًا ممن يقولها يخف ميزانه، فالبلاء من القائل لا من القول؛ لأنه قد يكون اختل شرطٌ من الشروط؛ أو وجد مانع من الموانع؛ فإنها تخف بحسب ما عنده، أما القول نفسه؛ فيرجح بجميع المخلوقات‏.‏

* العاشرة‏:‏ النص على أن الأرضين سبع كالسماوات، لم يرد في القرآن تصريح بذلك، بل ورد صريحًا أن السماوات سبع بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏قل من رب السماوات السبع‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 86‏]‏، لكن بالنسبة للأرضين لم يرد إلا قوله تعالى‏:‏ ‏{‏اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ‏}‏ ‏[‏الطلاق‏:‏ 12‏]‏؛ فالمثلية بالكيفية غير مرادة لظهور الفرق بين السماء والأرض في الهيئة، والكيفية، والارتفاع، والحسن؛ فبقيت المثلية في العدد‏.‏

أما السنة؛ فهي صريحة جدًا بأنها سبع؛ مثل قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ‏:‏ ‏(‏من اقتطع شبرًا من الأرض؛ طوقه يوم القيامة من سبع أرضين‏)‏ ‏[‏البخاري يلفظ ‏"‏من ظلم قيد شبر‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏"‏‏:‏ كتاب المظالم/ باب إثم من ظلم شيئًا من الأرض، ومسلم‏:‏ كتاب المساقاة/باب تحريم الظلم وغصب الأرض‏.‏ ‏]‏

وقد اختلف في قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ‏:‏ ‏(‏من سبع أرضين‏)‏؛ كيف تكون سبعًا‏؟‏

فقيل‏:‏ المراد‏:‏ القارات السبع، وهذا ليس بصحيح؛ لأن هذا يمتنع بالنسبة لقوله‏:‏ ‏(‏طوقه من سبع أرضين‏)‏، وقيل‏:‏ المراد المجموعة الشمسية، لكن ظاهر النصوص أنها طباق كالسماوات، وليس لنا أن نقول إلا ما جاء في الكتاب والسنة عن هذه الأرضين؛ لأننا لا نعرفها‏.‏

* * *

الحادية عشرة‏:‏ أن لهن عمارًا‏.‏ الثانية عشرة‏:‏ إثبات الصفات خلافًا للأشعرية‏.‏ الثالثة عشرة‏:‏ أنك إذا عرفت حديث أنس؛ عرفت أن قوله في حديث عتبان‏:‏ ‏(‏فإن الله حرم على النار من قال‏:‏ لا إله إلا الله؛ يبتغي بذلك وجه الله‏)‏؛ أن ترك الشرك، ليس قولها باللسان‏.‏ الرابعة عشرة‏:‏ تأمل الجمع بين كون عيسى ومحمد عبدي الله ورسوليه‏.‏

* الحادية عشرة‏:‏ أن لهن عمارًا، أي‏:‏ السماوات، وعمارهن الملائكة‏.‏

* الثانية عشرة‏:‏ إثبات الصفات خلافًا للأشعرية، وفي بعض النسخ خلافًا للمعطلة، وهذه أحسن؛ لأنها أعم، حيث تشمل الأشعرية والمعتزلة والجهمية وغيرهم؛ ففيه إثبات الوجه لله سبحانه بقوله‏:‏ ‏(‏يبتغي وجه الله‏)‏، وإثبات الكلام بقوله‏:‏ ‏(‏وكلمته ألقاها‏)‏، وإثبات القول في قوله‏:‏ ‏(‏قل لا إله إلا الله‏)‏‏.‏

* الثالثة عشرة‏:‏ أنك إذا عرفت حديث أنس؛ عرفت أن قوله في حديث عتبان‏:‏ ‏(‏فإن الله حرم على النار من قال‏:‏ لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله‏)‏ أن ترك الشرك‏.‏ وفي بعض النسخ‏:‏ إذا ترك الشرك‏.‏ أي‏:‏ أن قوله‏:‏ ‏(‏حرم على النار من قال‏:‏ لا إله إلا الله يبتغي بذلك ‏(‏يعني‏:‏ ترك الشرك‏)‏‏)‏، وليس مجرد قولها باللسان؛ لأن من ابتغى وجه الله في هذا القول لا يمكن أن يشرك أبدًا‏.‏

* الرابعة عشرة‏:‏ تأمل الجمع بين كون كل من عيسى ومحمد عبدي الله ورسوليه‏.‏ عبدي‏:‏ منصوب على أنه خبر كون؛ لأن كون مصدر كان وتعمل عملها‏.‏

وعيسى ومحمد‏:‏ اسم كون‏.‏

وتأمل الجميع من وجهين‏:‏

الأول‏:‏ أنه جمع لكل منهما بين العبودية والرسالة‏.‏

الثاني‏:‏ أنه جمع بين الرجلين؛ فتبين أن عيسى مثل محمد، وأنه عبد ورسول، وليس ربًا ولا ابنًا للرب - سبحانه -‏.‏

وقول المؤلف‏:‏ ‏"‏تأمل‏"‏؛ لأنّ هذا يحتاج إلى تأمل‏.‏

* * *

الخامسة عشرة‏:‏ معرفة اختصاص عيسى بكونه كلمة الله‏.‏ السادسة عشرة‏:‏ معرفة كونه روحًا منه‏.‏ السابعة عشرة‏:‏ معرفة فضل الإيمان بالجنة والنار‏.‏ الثامنة عشرة‏:‏ معرفة قوله ‏"‏على ما كان من العمل‏"‏‏.‏

* الخامسة عشرة‏:‏ معرفة اختصاص عيسى بكونه كلمة الله، أي‏:‏ أن عيسى انفرد عن محمد في أصل الخلقة؛ فقد كان بكلمة، أما محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ ؛ فقد خلق من ماء أبيه‏.‏

* السادسة عشرة‏:‏ معرفة كونه روحًا منه، أي‏:‏ أن عيسى روح من الله، و‏"‏من‏"‏ هنا بيانية أو للابتداء، وليست للتبعيض؛ أي‏:‏ روح جاءت من قبل الله وليست بعضًا من الله، بل هي من جملة الأرواح المخلوقة‏.‏

* السابعة عشرة‏:‏ معرفة فضل الإيمان بالجنة والنار، لقوله في حديث عبادة‏:‏ ‏(‏وأن الجنة حق، والنار حق‏)‏، والفضل أنه من أسباب دخول الجنة‏.‏

* الثامنة عشرة‏:‏ معرفة قوله‏:‏ ‏(‏على ما كان من العمل‏)‏، أي‏:‏ على ما كان من العمل الصالح ولو قل، أو على ما كان من العمل السيئ ولو كثر، بشرط أن لا يأتي بما ينافي التوحيد ويوجب الخلود في النار، لكن لا بد من العمل‏.‏

ولا يلزم استكمال العمل الصالح كما قالت المعتزلة والخوارج، ولم تذكر أركان الإسلام هنا؛ لأن منها ما يكفر الإنسان بتركه، ومنها ما لا يكفر، فإن الصحيح أنه لا يكفر إلا بترك الشهادتين والصلاة، وإن كان روي عن الإمام أحمد أن جميع أركان الإسلام يكفر بتركها، لكن الصحيح خلاف ذلك‏.‏

* * *

التاسعة عشرة‏:‏ معرفة أن الميزان له كفتان‏.‏

العشرون‏:‏ معرفة ذِكر الوجه‏.‏

* التاسعة عشرة‏:‏ معرفة أن الميزان له كفتان، أخذها المؤلف من قوله‏:‏ ‏(‏لو أن السماوات‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏ إلخ، وضعت في كفّة ولا إله إلا الله في كفة‏)‏، والظاهر أن الذي في الحديث تمثيل، يعني أن قول‏:‏ لا إله إلا الله أرجح من كل شيء، وليس في الحديث أن هذا الوزن في الآخرة، وكأن المؤلف رحمه الله حصل عنده انتقال ذهني؛ فانتقل ذهنه من هذا إلى ميزان الآخرة‏.‏

* العشرون‏:‏ معرفة ذكر الوجه، يعني‏:‏ وجه الله تعالى، وهو صفة من صفاته الخبرية الذاتية التي مسماها بالنسبة لنا أبعاض وأجزاء؛ لأن من صفات الله تعالى ما هو معنى محض، ومنه ما مسماه بالنسبة لنا أبعاض وأجزاء، ولا نقول بالنسبة لله تعالى أبعاض؛ لأننا نتحاشى كلمة التبعيض في جانب الله تعالى الله‏.‏


وهذا كتاب القول المفيد شرح كتاب التوحيد للشيخ محمد بن صالح العثيمين
كملف وورد الجزء الاول

نور الزعبي
30-01-12, 08:26 PM
باب من حقق التوحيد؛ دخل الجنة بغير حساب

هذا الباب كالمتمم للباب الذي قبله؛ لأن الذي قبله‏:‏ ‏"‏باب فضل التوحيد وما يكفر من الذنوب‏"‏، فمن فضله هذا الفضل العظيم الذي يسعى إليه كل عاقل، وهو دخول الجنة بغير حساب‏.‏

قوله‏:‏ ‏"‏من‏"‏، شرطية، وفعل الشرط‏:‏ ‏"‏حقق‏"‏، وجوابه‏:‏ ‏"‏دخل‏"‏، قوله‏:‏ ‏"‏بلا حساب‏"‏؛ أي‏:‏ لا يحاسب لا على المعاصي ولا على غيرها‏.‏

وتحقيق التوحيد‏:‏ تخليصة من الشرك، ولا يكون إلا بأمور ثلاثة‏:‏

الأول‏:‏ العلم؛ فلا يمكن أن تحقق شيئًا قبل أن تعلمه، قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏فاعلم أنه لا إله إلا الله‏}‏ ‏[‏محمد‏:‏ 19‏]‏‏.‏

الثاني‏:‏ الاعتقاد، فإذا علمت ولم تعتقد واستكبرت؛ لم تحقق التوحيد، قال الله تعالى عن الكافرين‏:‏ ‏{‏أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ‏}‏‏.‏ ‏[‏ص‏:‏5‏]‏؛ فما اعتقدوا انفراد الله بالألوهية‏.‏

الثالث‏:‏ الانقياد، فإذا علمت واعتقدت ولم تنقد؛ لم تحقق التوحيد، قال تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُوا آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَّجْنُونٍ‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 35/36‏]‏‏.‏

فإذا حصل هذا وحقق التوحيد؛ فإن الجنة مضمونة له بغير حساب، ولا يحتاج أن نقول إن شاء الله؛ لأن هذا حكاية حكم ثابت شرعًا، ولهذا جزم المؤلف رحمه الله تعالى بذلك في الترجمة دون أن يقول‏:‏ إن شاء الله‏.‏

أما بالنسبة للرجل المعين؛ فإننا نقول‏:‏ إن شاء الله‏.‏

وقد ذكر المؤلف في هذا الباب آيتين، ومناسبتهما للباب الإشارة إلى تحقيق التوحيد، وأنه لا يكون إلا بانتفاء الشرك كله‏:‏

* * *

وقول الله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 120‏]‏

* الآية الأولى‏:‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏أمة‏}‏، أي‏:‏ إمامًا، وقد سبق أن أمة تأتي في القرآن على أربعة أوجه، إمام، ودهر، وجماعة، ودين‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً‏}‏، هذا ثناء من الله - سبحانه وتعالى - على إبراهيم بأنه إمام متبوع؛ لأنه أحد الرسل الكرام من أولي العزم، ثم إنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ قدوة في أعماله وأفعاله وجهاده؛ فإنه جاهد قومه وحصل منهم عليه ما حصل، وألقي في النار فصبر‏.‏

ثم ابتلاه الله - سبحانه وتعالى - بالأمر بذبح ابنه، وهو وحيده، وقد بلغ معه السعي ‏(‏أي‏:‏ شب وترعرع‏)‏؛ فليس كبيرًا قد طابت النفس منه، ولا صغيرًا لم تتعلق به النفس كثيرًا، فصار على منتهى تعلق النفس به‏.‏

ثم وفق إلى ابن بار مطيع لله، قال الله تعالى عنه‏:‏ ‏{‏قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 102‏]‏، لم يحنث والده ويتمرد ويهرب، بل أراد من والده أن يوافق أمر ربه، وهذا من بره بأبيه وطاعته لمولاه سبحانه وتعالى، وأنظر إلى هذه القوة العظيمة مع الاعتماد على الله في قوله‏:‏ ‏{‏سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ‏}‏‏.‏

فالسين في قوله‏:‏ ‏{‏ستجدني‏}‏ تدل على التحقيق، وهو مع ذلك لم يعتمد على نفسه، بل استعان بالله في قوله‏:‏ ‏{‏إن شاء الله‏}‏‏.‏

وامتثلا جميعًا وأسلما، وانقادًا لله - عز وجل ـ، وتله للجبين؛ أي‏:‏ على الجبين، أي جبهته؛ لأجل أن يذبحه وهو لا يرى وجهه، فجاء الفرج من الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 104، 105‏]‏، ولا يصح ما ذكره بعضهم من أن السكين انقلبت، أو أن رقبته صارت حديدًا، ونحو ذلك‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏قانتًا‏}‏، القنوت‏:‏ دوام الطاعة، والاستمرار فيها على كل حال؛ فهو مطيع لله، ثابت على طاعته، مديم لها في كل حال‏.‏

كما أن ابنه محمدًا ـ صلى الله عليه وسلم ـ يذكر الله على كل أحيانه ‏[‏مسلم‏:‏ كتاب الحيض/ باب ذكر الله تعالى حال الجنابة‏.‏‏]‏‏:‏ إن قام ذكر الله، وإن جلس ذكره، وإن نام، وإن أكل، وإن قضى حاجته ذكر الله؛ فهو قانت آناء الليل والنهار‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏حنيفًا‏}‏، أي‏:‏ مائلًا عن الشرك، مجانبًا لكل ما يخالف الطاعة، فوصف بالإثبات والنفي، أي‏:‏ بالوصفين الإيجابي والسلبي‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ‏}‏، تأكيد، أي لم يكن مشركًا طول حياته؛ فقد كان عليه الصلاة والسلام معصومًا عن الشرك، مع أن قومه كانوا مشركين، فوصفه الله بامتناعه عن الشرك استمرارًا في قوله‏:‏ ‏{‏حنيفًا‏}‏، وابتداءً في قوله‏:‏ ‏{‏وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ‏}‏، والدليل على ذلك‏:‏ أن الله جعله إمامًا، ولا يجعل الله للناس إمامًا من لم يحقق التوحيد أبدًا‏.‏

ومن تأمل حال إبراهيم عليه السلام وما جرى عليه وجد أنه في غاية ما يكون من مراتب الصبر، وفى غاية ما يكون من مراتب اليقين؛ لأنه لا يصبر على هذه الأمور العظيمة إلا من أيقن بالثواب، فمن عنده شك أو تردد لا يصبر على هذا؛ لأن النفس لا تدع شيئًا إلا لما هو أحب إليها منه، ولا تحب شيئًا إلا ما ظنت فائدته، أو تيقنت‏.‏

ويجب أن نعلم أن ثناء الله على أحد من خلقه لا يقصد منه أن يصل إلينا الثناء فقط، لكن يقصد منه أمران هامان‏:‏

الأول‏:‏ محبة هذا الذي أثنى الله عليه خيرًا، كما أن من أثنى الله عليه شرًا، فإننا نبغضه ونكرهه، فنحب إبراهيم عليه السلام؛ لأنه كان إمامًا حنيفًا قانتًا لله ولم يكن من المشركين، ونكره قومه؛ لأنهم كانوا ضالين، ونحب الملائكة وإن كانوا من غير جنسنا؛ لأنهم قائمون بأمر الله، ونكره الشياطين، لأنهم عاصون لله وأعداء لنا ولله، ونكره أتباع الشياطين؛ لأنهم عاصون لله أيضًا وأعداء لله ولنا‏.‏

الثاني‏:‏ أن نقتدي به في هذه الصفات التي أثنى الله بها عليه؛ لأنها محل الثناء، ولنا من الثناء بقدر ما اقتدينا به فيها، قال تعالى‏:‏ ‏{‏لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُوْلِي الأَلْبَابِ‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 111‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ‏}‏ ‏[‏الممتحنة‏:‏ 4‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ‏}‏ ‏[‏الممتحنة‏:‏6‏]‏‏.‏

وهذه مسألة مهمة؛ لأن الإنسان أحيانًا يغيب عن باله الغرض الأول، وهو محبة هذا الذي أثنى الله عليه خيرًا، ولكن لا ينبغي أن يغيب؛ لأن الحب في الله، والبغض في الله من أوثق عرى الإيمان‏.‏

* فائدة‏:‏

أبو إبراهيم مات على الكفر، والصواب الذي نعتقده أن اسمه آزر؛ كما قال الله تعال‏:‏ ‏{‏وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 74‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ إِلاَّ عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 114‏]‏؛ لأنه قال‏:‏ ‏{‏وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ إِلاَّ عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 47‏]‏، ‏{‏فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأوَّاهٌ حَلِيمٌ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 114‏]‏، وفي سورة إبراهيم قال‏:‏ ‏{‏رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ‏}‏ ‏[‏إبراهيم‏:‏ 41‏]‏، ولكن فيما بعد تبرأ منه‏.‏

أما نوح؛ فقال‏:‏ ‏{‏رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَن دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ‏}‏ ‏[‏نوح‏:‏ 28‏]‏، وهذا يدل على أن أبوي نوح كانا مؤمنين‏.‏

* فائدة أخرى‏:‏

قال الإمام أحمد‏:‏ ثلاثة ليس لها أصل‏:‏ المغازي، والملاحم، والتفسير؛ فهذه الغالب فيها أنها تذكر بدون إسناد، ولهذا؛ فإن المفسرين يذكرون قصة آدم، ‏{‏فلما آتاهما صالحًا‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 190‏]‏، وقليل منهم من ينكر القصة المكذوبة في ذلك‏.‏

فالقاعدة إذًا‏:‏ أنه لا أحد يعلم عن الأمم السابقة شيئًا إلا من طريق الوحي، قال تعالى‏:‏ ‏{‏أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِن بَعْدِهِمْ لاَ يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ اللَّهُ‏}‏ ‏[‏إبراهيم‏:‏ 9‏]‏‏.‏

* * *

وقال‏:‏ ‏{‏وَالَّذِينَ هُم بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 59‏]‏‏.‏

* الآية الثانية‏:‏ قوله‏:‏ ‏{‏وَالَّذِينَ هُم بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ‏}‏‏.‏

هذه الآية سبقها آية، وهي قوله‏:‏ ‏{‏إِنَّ الَّذِينَ هُم مِّنْ خَشْيَةِ رَبِّهِم مُّشْفِقُونَ‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 57‏]‏‏.‏

لكن المؤلف ذكر الشاهد‏.‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏مِّنْ خَشْيَةِ رَبِّهِم‏}‏؛ أي‏:‏ من خوفهم منه على علم، و ‏{‏مشفقون‏}‏؛ أي‏:‏ خائفون من عذابه إن خالفوه‏.‏

فالمعاصي بالمعنى الأعم - كما سبق ـ شرك؛ لأنها صادرة عن هوى مخالف للشرع، وقد قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ‏}‏ ‏[‏الجاثية‏:‏ 23‏]‏‏.‏

أما بالنسبة للمعنى الأخص؛ فيقسمها العلماء قسمين‏:‏

1- شرك‏.‏

2- فسوق‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏لا يشركون‏}‏، يراد به الشرك بالمعنى الأعم؛ إذ تحقيق التوحيد لا يكون إلا باجتناب الشرك بالمعنى الأعم، ولكن ليس معنى هذا ألا تقع منهم المعاصي؛ لأن كل ابن آدم خطاء، وليس بمعصوم، ولكن إذا عصوا؛ فإنهم بتوبون ولا يستمرون عليها؛ كما قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 135‏]‏‏.‏

* * *

وعن حصين بن عبد الرحمن؛ قال‏:‏ كنت عند سعيد بن جبيرٍ، فقال‏:‏ أيكم رأى الكوكب الذي أنقض البارحة‏؟‏ فقلت‏:‏ أنا‏.‏ ثم قلت‏:‏ أما إني لم أكن في صلاةٍ‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏عن حصين بن عبد الرحمن؛ قال‏:‏ كنت عند سعيد بن جبير‏)‏‏.‏

وهما رجلان من التابعين ثقتان‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏انقض البارحة‏)‏، أي‏:‏ سقط البارحة، والبارحة‏:‏ أقرب ليلة مضت، وقال بعض أهل اللغة‏:‏ تقول فعلنا الليلة كذا إن قلته قبل الزوال، وفعلنا البارحة كذا إن قلته بعد الزوال‏.‏

وفي عرفنا؛ فمن طلوع الشمس إلى الغروب نقول‏:‏ البارحة لليلة الماضية، ومن غروب الشمس إلى طلوعها نقول‏:‏ الليلة لليلة التي نحن فيها‏.‏

بل بعض العامة يتوسع متى قام من الليل قال‏:‏ البارحة؛ وإن كان في ليلته‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فقلت أنا‏)‏، أي‏:‏ حصين‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏أما إني لم أكن في صلاة‏)‏، أما‏:‏ أداة استفتاح، وقيل‏:‏ إنها بمعنى حقًا، وعلى هذا؛ فتفتح همزة ‏"‏إن‏"‏، فيقال‏:‏ أما أني لم أكن في صلاة، أي حقًا لم أكن في صلاة‏.‏

وقال هذا رحمه الله لئلا يظن أنه قائم يصلي فيحمد بما لم يفعل، وهذا خلاف ما عليه بعضهم، يفرح أن الناس يتوهمون أنه يقوم يصلي، وهذا من نقص التوحيد‏.‏

وقول حصين رحمه الله ليس من باب المراءاة، بل هو من باب الحسنات، وليس كمن يترك الطاعات خوفًا من الرياء؛ لأن الشيطان قد يلعب على الإنسان، ويزيِّن له ترك الطاعة خشية الرياء، بل أفعل الطاعة، ولكن لا يكن في قلبك أنك ترائي الناس‏.‏

* * *

ولكني لدغت‏.‏ قال‏:‏ فما صنعت‏؟‏ قلت‏:‏ ارتقيت‏.‏ قال‏:‏ فما حملك على ذلك‏؟‏ قلت‏:‏ حديث حدثناه الشعبي‏.‏ قال‏:‏ وما حدثكم‏؟‏ قلت‏:‏ حدثنا عن بريده بن الحصيب؛ أنه قال‏:‏ لا رقية إلا من عين أو حمة‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏لدغت‏)‏، أي‏:‏ لدغته عقرب أو غيرها، والظاهر أنها شديدة؛ لأنه لم ينم منها‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ارتقيت‏)‏، أي‏:‏ استرقيت؛ لأن افتعل مثل استفعل، وفي رواية مسلم‏:‏ ‏"‏استرقيت‏"‏؛ أيك طلبت الرقية‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فما حملك على ذلك‏)‏، أي‏:‏ قال سعيد‏:‏ ما السبب أنك استرقيت‏.‏

قوله‏:‏ ‏"‏حديث حدثناه الشعبي‏"‏، وهذا يدل على أن السلف رضي الله عنهم يتحاورون حتى يصلوا إلى الحقيقة، فسعيد بن جبير لم يقصد الانتقاد على هذا الرجل، بل قصد أن يستفهم منه ويعرف مستنده‏.‏

قوله‏:‏ ‏"‏لا رقية‏"‏، أي‏:‏ لا قراءة أو لا استرقاء على مريض أو مصاب‏.‏

قوله‏:‏ ‏"‏إلا من عين‏"‏، وهي نظرة من حاسد، نفسه خبيثة، تتكيف بكيفية خاصة فينبعث منها ما يؤثر على المصاب، ويسميها العامة الآن‏:‏ ‏"‏النحاتة‏"‏، وبعضهم يسميها ‏"‏النفس‏"‏، وبعضهم يسميها ‏"‏الحسد‏"‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏"‏حُمَة‏"‏، بضم الحاء، وفتح الميم، مع تخفيفها‏:‏ وهي كل ذات سم، والمعنى لدغته إحدى ذوات السموم، والعقرب من ذوات السموم‏.‏

* * *

قال‏:‏ قد أحسن من انتهى إلى ما سمع

فقال سعيد بن جبير‏:‏ قد أحسن من انتهى إلى ما سمع، ولكن حدثنا ابن عباس‏.‏‏.‏ إلخ‏.‏

إذن، فحصين استند على حديث‏:‏ ‏(‏لا رقية إلا من عين أو حمة‏)‏، وهذا يدل على أن الرقية من العين أو الحمة مفيدة، وهذا أمر واقع؛ فإن الرُّقى تنفع بإذن الله من العين ومن الحمة أيضًا، وكثير من الناس يقرؤون على الملدوغ فيبرأ حالًا، ويدل لهذا قصة الرجل الذي بعثه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في سرية، فاستضافوا قومًا، فلم يضيفوهم، فلدغ سيدهم لدغة عقرب، فقالوا‏:‏ من يرقي‏؟‏ فقالوًا‏:‏ لعل هؤلاء الركب عندهم راقٍ، فجاؤوا إلى السرية، قالوا‏:‏ هل فيكم من راقٍ‏؟‏ قالوا‏:‏ نعم، ولكن لا نرقي لكم إلا بشيء من الغنم، فقالوا‏:‏ نعطيكم‏.‏ فاقتطعوا لهم من الغنم، ثم ذهب أحدهم يقرأ عليه الفاتحة، قرأها ثلاثًا أو سبعًا، فقام كأنما نشط من عقال، فانتفع اللديغ بقراءتها، ولهذا قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ‏:‏ ‏(‏وما يدريك أنها رقية‏؟‏‏)‏ ‏(‏يعني‏:‏ الفاتحة‏)‏، وكذا القراءة من العين مفيدة‏.‏

ويستعمل للعين طريقة أخرى غير الرقية، وهو الاستغسال، وهي أن يؤتي بالعائن، ويطلب منه أن يتوضأ، ثم يؤخذ ما تناثر من الماء من أعضائه، ويصب على المصاب، ويشرب منه، ويبرأ بإذن الله‏.‏

وهناك طريقة أخرى، ولا مانع منها أيضًا، وهي أن يؤخذ شيء من شعاره، أي‏:‏ ما يلي جسمه من الثياب، كالثوب، والطاقية، والسروال، وغيرها، أو التراب إذا مشى عليه وهو رطب، ويصب على ذلك ماء يرش به المصاب أو يشربه، وهو مجرب‏.‏

وأما العائن؛ فينبغي إذا رأى ما يعجبه أن يبرّك عليه؛ لقول النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لعامر بن ربيعة لما عان سهل بن حنيف‏:‏ ‏(‏هلا برّكت عليه‏)‏؛ أي‏:‏ قلت‏:‏ بارك الله عليك‏.‏

* * *

ولكن حدثنا ابن عباس عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ؛ أنه قال‏:‏ ‏(‏عرضت علي الأمم، فرأيت النبي ومعه الرهط، والنبي ومعه الرجل والرجلان، والنبي وليس معه أحد‏)‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏"‏ولكن حدثنا‏"‏، القائل‏:‏ سعيد بن جبير‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏عرضت علي الأمم‏)‏، العارض لها الله - سبحانه وتعالى ـ، وهذا في المنام فيما يظهر‏.‏ وانظر‏:‏ ‏"‏فتح الباري‏"‏ ‏(‏11/407، باب يدخل الجنة سبعون ألفًا، كتاب الرقاق‏)‏، والأمم‏:‏ جمع أمة وهي أمم الرسل‏.‏

قوله‏:‏ ‏"‏الرهط‏"‏، من الثلاثة إلى التسعة‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏والنبي ومعه الرجل والرجلان‏)‏، الظاهر أن الواو بمعنى أو؛ أي‏:‏ ومعه الرجل أو الرجلان؛ لأنه لو كان معه الرجل والرجلان صار يغني أن يقول‏:‏ ومعه ثلاثة، لكن المعنى‏:‏ والنبي ومعه الرجل، النبي الثاني ومعه الرجلان‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏والنبي وليس معه أحد‏)‏، أي‏:‏ يبعث ولا يكون معه أحد، لكن يبعثه الله لإقامة الحجة، فإذا قامت الحجة حينئذ، يعذر الله من الخلق، ويقيم عليهم الحجة‏.‏

* * *

إذ رفع لي سوادٌ عظيمٌ، فظننت أنهم أمتي، فقيل لي‏:‏ هذا موسى وقومه، فنظرت؛ فإذا سوادٌ عظيمٌ، فقيل لي‏:‏ هذه أمتك، ومعهم سبعون ألفًا يدخلون الجنة بغير حسابٍ ولا عذابٍ‏"‏‏.‏ ثم نهض‏.‏ فدخل منزله، فخاض الناس في أولئك‏.‏ فقال بعضهم‏:‏ فلعلهم الذين صحبوا رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏إذ رفع لي‏)‏، هذا على تقدير محذوف؛ أي‏:‏ بينما أنا كذلك؛ إذ رفع لي‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏سواد عظيم‏)‏، المراد بالسواد هنا الظاهر أنه الأشخاص، ولهذا يقال‏:‏ ما رأيت سواده، أي‏:‏ شخصه، أي أشخاصًا عظيمة كانوا من كثرتهم سوادًا‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فظنت أنهم أمتي‏)‏، لأن الأنبياء عرضوا عليه بأممهم؛ فظن هذا السواد أمته - عليه الصلاة والسلام - ‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فقيل لي‏:‏ هذا موسى وقومه‏)‏، وهذا يدل على كثرة أتباع موسى عليه السلام وقومه الذين أرسل إليهم‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فإذا سواد عظيم، فقيل لي‏:‏ هذه أمتك‏)‏، وهذا أعظم من السواد الأول؛ لأن أمة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أكثر بكثير من أمة موسى عليه السلام‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏بغير حساب ولا عذاب‏)‏، أي‏:‏ لا يعذبون ولا يحاسبون كرامةً لهم، وظاهره أنه لا في قبورهم ولا بعد قيام الساعة‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فخاض الناس في أولئك‏)‏، هذا الخوض للوصول إلى الحقيقة نظريًا وعمليًا حتى يكونوا منهم‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏الذين صحبوا رسول الله‏)‏، يحتمل أن المراد الصحبة المطلقة، ويؤيده ظاهر اللفظ‏.‏

ويحتمل أن المراد الذين صحبوه في هجرته، ويؤيده أنه لو كان المراد الصحبة المطلقة، لقالوا‏:‏ نحن؛ لأن المتكلم هم الصحابة، ويدل على هذا قول الرسول ـ صل الله عليه وسلم ـ لخالد بن الوليد‏:‏ ‏(‏لا تسبوا أصحابي‏)‏؛ فإن المراد بهم الذين صحبوه في هجرته، لكن يمنع منه أن المهاجرين لا يبلغون سبعين ألفًا‏.‏

ويمنع الاحتمال الأول‏:‏ أن الصحابة أكثر من سبعين ألفًا، ويحتمل أن المراد من كان مع الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى فتح مكة؛ لأنه بعد فتح مكة دخل الناس في دين الله أفواجًا‏.‏

وهذه المسألة تحتاج إلى مراجعة أكثر‏.‏

* * *

وقال بعضهم‏:‏ فلعلهم الذين ولدوا في الإسلام فلم يشركوا بالله شيئًا‏.‏‏.‏‏.‏ وذكروا أشياء، فخرج عليهم رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فأخبروه، فقال‏:‏ ‏(‏هم الذين لا يسترقون‏)‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏الذين ولدوا في الإسلام‏)‏، أي‏:‏ من ولد بعد البعثة وأسلم، وهؤلاء كثيرون، ولو قلنا‏:‏ ولدوا في الإسلام من الصحابة ما بلغوا سبعين ألفًا‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فخرج عليهم رسول الله، فأخبروه‏)‏، أي‏:‏ أخبروه بما قالوا وما جرى بينهم‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏لا يسترقون‏)‏، في بعض روايات مسلم‏:‏ ‏(‏لا يرقون‏)‏‏.‏

ولكن هذه الرواية خطأ؛ كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية؛ لأن الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان يرقي، ورقاه جبريل، وعائشة، وكذلك الصحابة كانوا يرقون‏.‏

واستفعل بمعنى طلب الفعل، مثل‏:‏ استغفر؛ أي‏:‏ طلب المغفرة، واستجار‏:‏ طلب الجوار، وهنا استرقى؛ أي‏:‏ طلب الرقية، أي لا يطلبون من أحد أن يقرأ عليهم، لما يلي‏:‏

1- لقوة اعتمادهم على الله‏.‏

2- لعزة نفوسهم عن التذلل لغير الله‏.‏

3- ولما في ذلك من التعلق بغير الله‏.‏

* * *

ولا يكتوون ولا يتطيرون‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏ولا يكتوون‏)‏، أي‏:‏ لا يطلبون من أحد أن يكويهم‏.‏

ومعنى اكتوى‏:‏ طلب من يكويه، وهذا مثل قوله‏:‏ ‏(‏ولا يسترقون‏)‏‏.‏

أما بالنسبة لمن أعد للكي من قبل الحكومة، فطلب الكي منه ليس فيه ذل؛ لأنه معد من قبل الحكومة يأخذ الأجر على ذلك من الحكومة، ولأن هذا الطلب مجرد إخبار من الطالب بأنه محتاج إلى الكي، وليس سؤال تذلل‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ولا يتطيرون‏)‏، مأخوذ من الطير، والمصدر منه تطيّر، والطيرة اسم المصدر، وأصله‏:‏ التشاؤم بالطير، ولكنه أعم من ذلك؛ فهو التشاؤم بمرئي، أو مسموع، أو زمان، أو مكان‏.‏

وكانت العرب معروفة بالتطير، حتى لو أراد الإنسان منهم خيرًا ثم رأى الطير سنحت يمينًا أو شمالًا حسب ما كان معروفًا عندهم، تجده يتأخر عن هذا الذي أراده، ومنهم من إذا سمع صوتًا أو رأى شخصًا تشاءم، ومنهم من يتشاءم من شهر شوال بالنسبة للنكاح، ولذا قالت عائشة رضي الله عنها‏:‏ ‏(‏عقد علي رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في شوال، وبنى بي في شوال؛ فأيكن كان أحظى عنده‏)‏، ومنهم من يتشاءم بيوم الأربعاء، أو بشهر صفر، وهذا كله مما أبطله الشرع؛ لضرره على الإنسان عقلًا وتفكيرًا وسلوكًا، وكون الإنسان لا يبالي بهذه الأمور، هذا هو التوكل على الله، ولهذا ختم المسألة بقوله‏:‏ ‏{‏وعلى ربهم يتوكلون‏}‏؛ فانتفاء هذه الأمور عنهم يدل على قوة توكلهم‏.‏

وهل هذه الأشياء تدل على أن من لم يتصف بها فهو مذموم، أو فاته الكمال‏؟‏

الجواب‏:‏ أن الكمال فاته إلا بالنسبة للتطير؛ فإنه لا يجوز؛ لأنه ضرر وليس له حقيقة أصلًا‏.‏

أما بالنسبة لطلب العلاج، فالظاهر أنه مثله لأنّه عام، وقد يقال‏:‏ إنّه لولا قوله‏:‏ ‏(‏ولا يسترقون‏)‏؛ لقلت‏:‏ إنه لا يدخل؛ لأن الاكتواء ضرر محقق‏:‏ إحراق بالنار، وألم للإنسان، ونفعه مرتجى، لكن كلمة ‏(‏يسترقون‏)‏ مشكلة؛ فالرقية ليس فيها ضرر، إن لم تنفع لم تضر، وهنا نقول‏:‏ الدواء مثلها، لأن الدواء إذا لم ينفع لم يضر، وقد يضر أيضًا؛ لأنّ الإنسان إذا تناول دواء وليس فيه مرض لهذا الدواء فقد يضره‏.‏

وهذه المسألة تحتاج إلى بحث، وهل نقول مثلًا‏:‏ ما تؤكد منفعته إذا لم يكن في الإنسان إذلال لنفسه؛ فهو لا يضر، أي‏:‏ لا يفوت المرء الكمال به، مثل الكسر وقطع العضو مثلًا، أو كما يفعل الناس الآن في الزائدة وغيرها‏.‏

ولو قال قائل بالاقتصار على ما في هذا الحديث، وهو أنهم لا يسترقون ولا يكتوون ولا يتطيرون، وأن ما عدا ذلك لا يمنع من دخول الجنة بلا حساب ولا عذاب؛ للنصوص الواردة بالأمر بالتداوي والثناء على بعض الأدوية؛ كالعسل والحبة السوداء؛ لكان له وجه‏.‏

وإذا طلب منك إنسان أن يرقيك؛ فهل يفوتك كمال إذا لم تمنعه‏؟‏

الجواب‏:‏ لا يفوتك؛ لأن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لم يمنع عائشة أن ترقيه، وهو أكمل الخلق توكلًا على الله وثقةً به، ولأن هذا الحديث‏:‏ ‏(‏لا يسترقون‏.‏‏.‏‏.‏‏)‏ إلخ إنما كان في طلب هذه الأشياء، ولا يخفى الفرق بين أن تحصل هذه الأشياء بطلب وبين أن تحصل بغير طلب‏.‏

* * *

فقام عكاشة بن محصن، فقال‏:‏ ادع الله أن يجعلني منهم‏.‏ فقال‏:‏ ‏(‏أنت منهم‏)‏‏.‏ ثم قال رجلًا آخر، فقال‏:‏ ادع الله أن يجعلني منهم‏.‏ فقال‏:‏ ‏(‏سبقك بها عكاشة‏)‏ ‏[‏البخاري‏:‏ كتاب الرقاق/ باب يدخل الجنة سبعون ألفًا‏)‏، ومسلم‏:‏ كتاب الإيمان/ باب الدليل على دخول طوائف من المسلمين الجنة بغير حساب‏.‏‏]‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فقال‏:‏ أنت منهم‏)‏، وقول الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ هذا هل هو بوحي من الله إقراري، أو وحي إلهامي، أو وحي رسول‏؟‏

مثل هذه الأمور يحتمل أنها وحي إلهامي، أو بواسطة الرسول، أو وحي إقراري بمعنى أن الرسول يقولها، فإذا أقره الله عليه؛ صارت وحيًا إقراريًا‏.‏

لكن رواية البخاري‏:‏ ‏(‏اللهم اجعله منهم‏)‏ تدل على أن الجملة‏:‏ ‏(‏أنت منهم‏)‏ خبر بمعنى الدعاء‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ثم قام رجل آخر، فقال‏:‏ ادع الله أن يجعلني منهم‏.‏ قال‏:‏ سبقك بها عكاشة‏)‏، لم يرد النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن يقول له‏:‏ لا، ولكن قال‏:‏ سبقك بها، أي‏:‏ بهذه المنقبة والفضيلة، أو بهذه المسألة عكاشة بن محصن‏.‏

وقد اختلف العلماء لماذا قال الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ هذا الكلام‏؟‏

فقيل‏:‏ إنه كان منافقًا، فأراد الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ ألا يجابهه بما يكره تأليفًا‏.‏

وقيل‏:‏ خاف أن ينفتح الباب فيطلبها من ليس منهم؛ فقال هذه الكلمة التي أصبحت مثلًا، وهذا أقرب‏.‏

* * *

* فيه مسائل‏:‏ الأولى‏:‏ معرفة مراتب الناس في التوحيد‏.‏ الثانية‏:‏ ما معنى تحقيقه‏.‏ الثالثة‏:‏ ثناؤه سبحانه على إبراهيم بكونه لم يك من المشركين‏.‏

قوله‏:‏ ‏"‏فيه مسائل‏"‏، أي‏:‏ في هذا الباب مسائل‏:‏

* المسألة الأولى‏:‏ معرفة مراتب الناس في التوحيد، وهذه مأخوذة من قوله‏:‏ ‏(‏يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب‏)‏‏.‏ ثم قال‏:‏ ‏(‏هم الذين لا يسترقون، ولا يكتوون، ولا يتطيرون‏)‏

* الثانية‏:‏ ما معنى تحقيقه‏؟‏ أي‏:‏ تحقيق التوحيد، وسبق لنا في أول الباب أن تحقيقه‏:‏ تخليصه من الشرك‏.‏

* الثالثة‏:‏ ثناؤه - سبحانه - على إبراهيم بكونه لم يك من المشركين، وهو ظاهر في الآية الكريمة‏:‏ ‏{‏إن إبراهيم كان أمة قانتًا لله حنيفًا ولم يك من المشركين‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 120‏]‏؛ فإن هذه الآية لا شك أنها سيقت للثناء على إبراهيم عليه الصلاة والسلام، وإذا كان مناط الثناء انتفاء الشرك عنه؛ دل ذلك على أن كل من انتفى عنه الشرك فهو محل ثناء من الله - سبحانه وتعالى -‏.‏

* * *

الرابعة‏:‏ ثناؤه على سادات الأولياء بسلامتهم من الشرك‏.‏ الخامسة‏:‏ كون ترك الرقية والكي من تحقيق التوحيد‏.‏ السادسة‏:‏ كون الجامع لتلك الخصال هو التوكل‏.‏ السابعة‏:‏ عمق علم الصحابة بمعرفتهم أنهم لم ينالوا ذلك إلا بعملٍ‏.‏

* الرابعة‏:‏ ثناؤه على سادات الأولياء بسلامتهم من الشرك، لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَالَّذِينَ هُم بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ‏}‏، وهذه الآية في سياق آيات كثيرة ابتدأها الله بقوله‏:‏ ‏{‏إِنَّ الَّذِينَ هُم مِّنْ خَشْيَةِ رَبِّهِم مُّشْفِقُونَ وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ وَالَّذِينَ هُم بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ أُوْلَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 57-61‏]‏؛ فهؤلاء هم سادات الأولياء، وكلام المؤلف من باب إضافة الصفة إلى موصوفها، أي‏:‏ الأولياء السادات، وليس يريد رحمه الله السادات من الأولياء، بل يريد الأولياء الذي هم سادات الخلق‏.‏

* الخامسة‏:‏ كون ترك الرقية والكي من تحقيق التوحيد، لقوله‏:‏ ‏(‏الذين لا يسترقون ولا يكتوون‏)‏؛ فالمراد بقول المؤلف‏:‏ ‏(‏الرقية والكي‏)‏‏:‏ الاسترقاء والاكتواء‏.‏

* السادسة‏:‏ كون الجامع لتلك الخصال هو التوكل، والخصال هي‏:‏ ترك الاسترقاء، وترك الاكتواء، وترك التطير، يعني أن العامل لهذه الأشياء هو قوة التوكل على الله- عز وجل ‏.‏

* السابعة‏:‏ عمق عمل الصحابة لمعرفة أنهم لم ينالوا ذلك إلا بعمل، أي‏:‏ لم ينل هؤلاء السبعون ألفًا هذا الثواب إلا بعمل، ووجهه أن الصحابة خاضوا فيمن يكون له هذا الثواب العظيم وذكروا أشياء‏.‏

* * *

الثامنة‏:‏ حرصهم على الخير‏.‏ التاسعة‏:‏ فضيلة هذه الأمة بالكمية والكيفية‏.‏ العاشرة‏:‏ فضيلة أصحاب موسى‏.‏ الحادية عشرة‏:‏ عرض الأمم عليه - عليه الصلاة والسلام - ‏.‏

* الثامنة‏:‏ حرصهم على الخير، وجهه خوضهم في هذا الشيء؛ لأنهم يريدون أن يصلوا إلى نتيجة حتى يقوموا بها‏.‏

* التاسعة‏:‏ فضيلة هذه الأمة بالكميّة والكيفيّة، أما الكميّة، فلأن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ رأى سوادًا عظيمًا أعظم من السواد الذي كان مع موسى، وأما الكيفيّة؛ فلأن معهم هؤلاء الذين لا يسترقون ولا يكتوون ولا يتطيرون وعلى ربهم يتوكلون‏.‏

* العاشرة‏:‏ فضيلة أصحاب موسى، وهو مأخوذ من قوله‏:‏ ‏(‏إذ رفع لي سوادٌ عظيمٌ‏)‏، ولكن قد يقال‏:‏ إن التعبير بقول‏:‏ كثرة أتباع موسى أنسب لدلالة الحديث؛ لأن الحديث يقول‏:‏ ‏(‏سواد عظيم فظننت أنهم أمتي‏)‏، وهذا يدل على الكثرة‏.‏

* الحادية عشرة‏:‏ عرض الأمم عليه - عليه الصلاة والسلام ـ، وهذا له فائدتان‏:‏

الفائدة الأولى‏:‏ تسلية الرسول عليه الصلاة والسلام، حيث رأى من الأنبياء من ليس معه إلا الرجل والرجلان، ومن الأنبياء من ليس معه أحد، فيتسلى بذلك عليه الصلاة والسلام، ويقول‏:‏ ‏{‏ما كنت بدعًا من الرسل‏}‏‏.‏

الفائدة الثانية‏:‏ بيان فضيلته عليه الصلاة والسلام وشرفه، حيث كان أكثر أتباعًا وأفضلهم؛ فصار في عرض الأمم عليه هاتان الفائدتان‏.‏

* * *

الثانية عشرة‏:‏ أن كلّ أمةٍ تحشر وحدها مع نبيها‏.‏ الثالثة عشرة‏:‏ قلّة من استجاب للأنبياء‏.‏ الرابعة عشرة‏:‏ أن من لم يجبه أحدٌ يأتي وحده‏.‏ الخامسة عشرة‏:‏ ثمرة هذا العلم، وهو عدم الاغترار بالكثرة، وعدم الزهد في القلة‏.‏

* الثانية عشرة‏:‏ أن كل أمة تحشر وحدها مع نبيها، لقوله‏:‏ ‏(‏رأيت النبي ومعه الرجل والرجلان،، ولولا أنّ كل نبي متميز عن النبي الآخر؛ لاختلط بعضهم ببعض، ولم يعرف الأتباع من غير الأتباع، ويدل لذلك قوله سبحانه وتعالى‏:‏ ‏{‏وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا‏}‏ ‏[‏الجاثية‏:‏ 28‏]‏؛ فإنه يدل على أن كل أمة تكون وحدها‏.‏

* الثالثة عشرة‏:‏ قلة من استجاب للأنبياء، وهو واضح من قوله‏:‏ ‏(‏والنبي ومعه الرجل والرجلان، والنبي وليس معه أحد‏)‏‏.‏

* الرابعة عشرة‏:‏ أن من لم يجبه أحد يأتي وحده، لقوله‏:‏ ‏(‏والنبي وليس معه أحد‏)‏‏.‏

* الخامسة عشرة‏:‏ ثمرة هذا العلم، وهو عدم الاغترار بالكثرة‏.‏‏.‏ إلخ، فإن الكثرة قد تكون ضلالًا، قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 116‏]‏، وأيضًا الكثرة من جهة أخرى إذا اغتر الإنسان بكثرة وظن لن يغلب أو أنّه منصور؛ فهذا أيضًا سبب للخذلان؛ فالكثرة إن نظرنا إلى أن أكثر أهل الأرض ضلال لا تغتر بهم، فلا تقل‏:‏ إن الناس على هذا، كيف أنفرد عنهم‏؟‏‏.‏

كذلك أيضًا لا تغتر بالكثرة إذا كان معك أتباع كثيرون على الحق؛ فكلام المؤلف له وجهان‏:‏

الوجه الأول‏:‏ أن لا نغتر بكثرة الهالكين فنهلك معهم‏.‏

الوجه الثاني‏:‏ أن لا نغتر بكثرة الناجين فيلحقنا الإعجاب بالنفس وعدم الزهد في القلة، أي أن لا نزهد بالقلة؛ فقد تكو القلة خيرًا من الكثرة‏.‏

* * *

السادسة عشرة‏:‏ الرخصة في الرقية من العين والحمة‏.‏ السابعة عشرة‏:‏ عمق علم السلف، لقوله‏:‏ ‏(‏قد أحسن من انتهى إلى ما سمع، ولكن كذا وكذا‏)‏، فعلم أن الحديث الأول لا يخالف الثاني‏.‏

* السادسة عشرة‏:‏ الرخصة في الرقية من العين والحمة، مأخوذ من قوله‏:‏ ‏(‏لا رقية إلا من عين أو حمة‏)‏‏.‏

* السابعة عشرة‏:‏ عمق علم السلف، لقوله‏:‏ ‏(‏قد أحسن من انتهى إلى ما سمع، ولكن كذا وكذا‏(‏؛ فعلم أن الحديث الأول لا يخالف الثاني، لأن قوله‏:‏ ‏)‏لا رقية إلا من عينٍ أو حمة‏(‏ لا يخالف الثاني؛ لأن الثاني إنما هو في الاسترقاء، والأول في الرقية؛ فالإنسان إذا أتاه من يرقيه ولم يمنعه؛ فإنه لا ينافي قوله‏:‏ ‏)‏ولا يسترقون‏(‏، لأن هناك ثلاث مراتب‏:‏

المرتبة الأولى‏:‏ أن يطلب من يرقيه، وهذا قد فاته الكمال‏.‏

المرتبة الثانية‏:‏ أن لا يمنع من يرقيه، وهذا لم يفته الكمال؛ لأنه لم يسترق ولم يطلب‏.‏

المرتبة الثالث‏:‏ أن يمنع من يرقيه، وهذا خلاف السنة؛ فإن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لم يمنع عائشة أن ترقيه، وكذلك الصحابة لم يمنعوا أحدًا أن يرقيهم؛ لأن هذا لا يؤثر في التوكل‏.‏

* * *

الثامنة عشرة‏:‏ بعد السلف عن مدح الإنسان بما ليس فيه‏.‏ التاسعة عشرة‏:‏ قوله‏:‏ ‏(‏أنت منهم‏)‏‏:‏ علم من أعلام النبوة‏.‏ العشرون‏:‏ فضيلة عكاشة‏.‏

* الثامنة عشرة‏:‏ بعد السلف عن مدح الإنسان بما ليس فيه، يؤخذ من قوله‏:‏ ‏(‏أما إني لم أكن في صلاة ولكني لدغت‏)‏؛ لأنه إذا كان رأى الكوكب الذي انقض استلزم أن يكون يقظان، واليقظان‏:‏ إما أن يصلي، وإما أن يكون له شغل آخر، وإما أن يكون لديه مانع من النوم‏.‏

* التاسعة عشرة‏:‏ قوله‏:‏‏(‏أنت منهم‏)‏ علم من أعلام النبوة‏.‏ يعني‏:‏ دليلًا على نبوة الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ وكيف ذلك‏؟‏، لأن عكاشة بن محصن رضي الله عنه بقي محروسًا من الكفر حتى مات على الإسلام، فيكون في هذا علم، يعني‏:‏ دليلًا من دلائل نبوة الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ هذا إذا قلنا‏:‏ إن الجملة خبرية وليس جملة دعائية، فإن قلنا‏:‏ إنها جملة دعائية، فقد نقول أيضًا‏:‏ فيه علم من أعلام النبوة، وهو أن الله استجاب دعوة الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ لكن استجابة الدعوة ليست من خصائص الأنبياء؛ فقد تجاب دعوة من ليس بنبي، وحينئذ لا يمكن أن تكون علمًا من أعلام النبوة إلا حيث جعلنا الجملة خبرية محضة‏.‏

* العشرون‏:‏ فضيلة عكاشة، بكون ممن يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب، وهل نشهد له بذلك‏؟‏ نعم، لأن الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ شهد له بها‏.‏

* * *

الحادية والعشرون‏:‏ استعمال المعاريض‏.‏ الثانية والعشرون‏:‏ حسن خلقه ـ صلى الله عليه وسلم ـ‏.‏

* الحادية والعشرون‏:‏ استعمال المعاريض‏.‏ وفي المعاريض مندوحة عن الكذب، وذلك لقول الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ‏:‏ ‏(‏سبقك بها عكاشة‏)‏؛ فإن هذا في الحقيقة ليس هو المانع الحقيقي، بل المانع ما أشرنا إليه في الشرح‏:‏ إما أن يكون هذا الرجل منافقًا فلم يرد النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن يجعله مع الذين يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب، وإما خوفًا من انفتاح الباب؛ فيسأل هذه المرتبة من ليس من أهلها‏.‏

* الثانية والعشرون‏:‏ حسن خلقه ـ صلى الله عليه وسلم ـ‏.‏ وذلك لأنه رد هذا الرجل وسدَّ الباب على وجه ليس فيه غضاضة على أحد ولا كراهة‏.‏

* * *