المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : "يا ابنَ آدَمَ ، إنَّكَ ما دَعَوتَني ورَجَوتَني غَفَرتُ لك على ما كانَ مِنكَ "


مسلمة لله
30-08-06, 09:25 AM
عَنْ أَنسِ بن مالكٍ - رضي الله عنه - ، قَالَ : سَمِعتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يَقولُ :

(( قالَ اللهُ تَعالى : يا ابنَ آدَمَ ، إنَّكَ ما دَعَوتَني ورَجَوتَني غَفَرتُ لك على ما كانَ مِنكَ ولا أُبالي ، يا ابن آدمُ لَوَ بَلَغَتْ ذُنُوبُك عَنانَ السَّماءِ ، ثمَّ استَغفَرتَني ، غَفَرْتُ لكَ ، يا ابنَ آدم إنَّك لو أَتَيتَني بِقُرابِ الأرضِ خَطايا ، ثمَّ لَقِيتَني لا تُشركُ بي شَيئاً ، لأتيتُكَ بِقُرابها مغفرةً )) .
رواهُ التِّرمذيُّ ((1)) وقالَ : حديثٌ حَسَن .


تضمن حديث أنس أنَّ هذه الأسباب الثلاثة يحصل بها المغفرة :

أحدها:
*******
الدعاءُ مع الرجاء ،** فإنَّ الدعاء مأمورٌ به ، وموعودٌ عليه بالإجابة ،
كما قال تعالى : { وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ } .
وفي " السنن الأربعة " عن النعمان بن بشير ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : (( إنَّ الدُّعاء هو العبادة )) ثم تلا هذه الآية .
وفي حديث آخر : (( ما كان الله لِيفتَحَ على عبدٍ بابَ الدُّعاء ، ويُغلقَ عنه بابَ الإجابة )) .

** لكن الدعاء سببٌ مقتضٍ للإجابة معَ استكمال شرائطه ، وانتفاء موانعه ، وقد تتخلَّف إجابته ، لانتفاءِ بعض شروطه ، أو وجود بعض موانعه
ومن أعظم شرائطه : حضور القلب ، ورجاءُ الإجابة من الله تعالى ،
عن عبد الله بن عمرو ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : (( إنَّ هذه القلوب أوعيةٌ ، فبعضُها أوعى من بعض ، فإذا سألتم الله ، فاسألوه وأنتم موقنون بالإجابة ، فإنَّ الله لا يستجيبُ لعبدٍ دعاءً من ظهرِ قلبٍ غافلٍ )) .
ولهذا نهي العبد أنْ يقول في دعائه : اللهمَّ اغفر لي إنْ شئت ، ولكنْ لِيَعزِم المسأَلَة ، فإنَّ الله لا مُكرهَ له .
ونُهي أنْ يستعجل ، ويتركَ الدعاء لاستبطاء الإجابة ، وجعل ذلك من موانع الإجابة حتّى لا يقطع العبدُ رجاءه من إجابة دُعائه ولو طالت المدة .
فما دام العبدُ يُلحُّ في الدُّعاء ، ويَطمعُ في الإجابة من غير قطع الرّجاء ، فهو قريبٌ من الإجابة ، ومَنْ أَدمن قرعَ الباب ، يُوشك أنْ يُفتح له .

** ومن أهمِّ ما يسألُ العبد ربَّه مغفرةُ ذنوبه ، أو ما يستلزم ذلك كالنجاة من النار ، ودخول الجنة ، وقد قال النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - : (( حولَها نُدنْدِن )) يعني : حول سؤال الجنة والنجاة من النار .
وقال أبو مسلم الخَولاني : ما عَرَضت لي دعوةٌ فذكرتُ النار إلا صرفتُها إلى الاستعاذة منها .
وعن أبي سعيدٍ ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : (( ما مِنْ مُسلمٍ يَدعو بدعوةٍ ليس له فيها إثمٌ أو قطيعةُ رحمٍ إلا أعطاه الله بها إحدى ثلاثٍ : إما أنْ يُعجِّلَ له دعوته ، وإما أنْ يدَّخرها له في الآخرة ، وإما أنْ يكشِفَ عنه من السُّوءِ مثلها )) ، قالوا : إذاً نُكثر ؟ قال : (( الله أكثرُ )) .

وبكلِّ حالٍ ، فالإلحاحُ بالدعاء بالمغفرة مع رجاء الله تعالى موجبٌ للمغفرة ، والله تعالى يقول : (( أنا عندَ ظنِّ عبدي بي ، فليظنَّ بي ما شاء )) وفي رواية: (( فلا تظنُّوا بالله إلا خيراً )) .
ويُروى من حديث سعيد بن جبير عن ابن عمر مرفوعاً :
(( يأتي الله تعالى بالمؤمن يومَ القيامة ، فيُقرِّبُه حتى يجعلَه في حجابه من جميع الخلق ، فيقول له : اقرأ
صحيفتك ، فيُعرِّفُه ذنباً ذنباً : أتعرفُ أتعرفُ ؟ فيقول : نعمْ نعمْ ، ثم يلتفتُ العبدُ يمنة ويسرة ، فيقول الله تعالى : لا بأسَ عليك ، يا عبدي أنت في ستري من جميع خلقي ، ليس بيني وبينك اليومَ أحدٌ يطَّلعُ على ذنوبك غيري ، اذهب فقد غفرتُها لك بحرفٍ واحدٍ من جميع ما أتيتني به ، قال : ما هو يا ربِّ ؟ قال : كنت لا ترجوالعفو من أحدٍ غيري )) .

فمن أعظم أسباب المغفرة أنَّ العبد إذا أذنب ذنباً لم يرج مغفرته من غير ربِّه ، ويعلم أنه لا يغفر الذنوبَ ويأخذ بها غيرُه.


السبب الثاني للمغفرة :
*******************
الاستغفار ، ولو عظُمت الذُّنوب ، وبلغت الكثرة عَنان السماء ، وهو السَّحاب . وقيل : ما انتهى إليه البصر منها ، وفي الرواية الأخرى : (( لو أخطأتُم حتَّى بلغت خطاياكم ما بين السماء والأرض ، ثم استغفرتم الله لَغفر لكم )) .

** والاستغفارُ : طلبُ المغفرة ، والمغفرة : هي وقاية شرِّ الذنوب مع سترها .
وقد كثر في القرآن ذكرُ الاستغفار ، فتارةً يؤمر به ، كقوله تعالى :{ وَاسْتَغْفِرُوا اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } .
وتارةً يمدحُ أهلَه ، كقوله : { وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحَارِ } ،
وتارةً يذكر أن الله يغفر لمن استغفره ، كقوله تعالى : { وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللهَ يَجِدِ اللهَ غَفُوراً رَحِيماً } .

**وكثيراً ما يُقرن الاستغفارُ بذكر التوبة ، فيكون الاستغفارُ حينئذٍ عبارةً عن طلب المغفرة باللسان ، والتوبة عبارة عن الإقلاع عن الذنوب بالقلوب والجوارح .

ويُروى عن لُقمان - عليه السلام - أنَّه قال لابنه : يا بنيَّ عَوِّدْ لسانك : اللهمَّ اغفر لي ، فإنَّ لله ساعاتٍ لا يرُدُّ فيها سائلاً .
وقال الحسن : أكثِروا من الاستغفار في بيوتكم ، وعلى موائدكم ، وفي طُرقكم ، وفي أسواقكم ، وفي مجالسكم أينما كُنتم ، فإنَّكم ما تدرون متى تنْزل المغفرة .
وعن مورِّق قال : كان رجل يعملُ السَّيئات ، فخرج إلى البرية ، فجمع تراباً ، فاضطجع عليه مستلقياً ، فقال : ربِّ اغفر لي ذنوبي ، فقال : إنَّ هذا ليعرِفُ أنَّ له رباً يغفِرُ ويُعذِّب ، فغفر له .

وفي " الصحيحين " عن أبي هُريرة ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - : (( إنَّ عبداً أذنب ذنباً ، فقال : ربِّ أذنبتُ ذنباً فاغفر لي ، قال الله تعالى : عَلِمَ عبدي أنَّ له رباً يغفر الذنب ، ويأخذُ به ، غفرتُ لعبدي ، ثمَّ مكث ما شاء الله ، ثم أذنب ذنباً آخر ، فذكر مثل الأوَّل مرتين أخريين )).
وفي رواية لمسلم : أنَّه قال في الثالثة : (( قد غفرتُ لعبدي ، فليعمل ما شاء )) .
والمعنى : ما دام على هذا الحال كلَّما أذنب استغفر . والظاهر أنَّ مرادهُ الاستغفارُ المقرون بعدم الإصرار ، وأمّا استغفارُ اللسان مع إصرار القلب على الذنب ، فهو دُعاء مجرَّد إنْ شاء الله أجابه ، وإنْ شاء ردَّه .

وقد يكون الإصرار مانعاً من الإجابة ، وفي " المسند " من حديث عبد الله ابن عمرو مرفوعاً :
(( ويلٌ للذينَ يُصرُّون على ما فعلوا وهُم يَعلَمون )) .

** وأفضل أنواع الاستغفار : أنْ يبدأ العبدُ بالثَّناء على ربِّه ، ثم يثني بالاعتراف بذنبه ، ثم يسأل الله المغفرة كما في حديث شدَّاد بن أوس عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: (( سيِّدُ الاستغفار أنْ يقول العبدُ : اللهمَّ أنت ربِّي لا إله إلا أنت ، خلقتني وأنا عبدك ، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت ، أعوذُ بك من شرِّ ما صنعتُ ، أبوءُ لك بنعمتك عليَّ ، وأبوءُ بذنبي ، فاغفر لي ، فإنَّه لا يغفرُ الذُّنوبَ إلاَّ أنتَ )) خرَّجه البخاري .
وفي " الصحيحين " عن عبد الله بن عمرو أنَّ أبا بكرٍ الصديق - رضي الله عنه - قال :
يا رسولَ الله ، علِّمني دعاءً أدعو به في صلاتي ، قال : (( قل : اللهمَّ إنِّي ظلمتُ نفسي ظُلماً كثيراً ، ولا يغفرُ الذُّنوب إلاَّ أنتَ ، فاغفر لي مغفرةً من عندك ، وارحمني إنَّك أنت الغفورُ الرحيم )) .
وفي " صحيح البخاري " عن أبي هريرة ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : (( واللهِ إني لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة )) .
وفي " صحيح مسلم " عن الأغرِّ المزني ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : (( إنَّه لَيُغانُ على قلبي ، وإنِّي لأستغفرُ الله في اليوم مئة مرة)).

وبالجملة فدواءُ الذنوب الاستغفارُ ، وروينا من حديث أبي ذرٍّ مرفوعاً : (( إنَّ لكلِّ داء دواءً ، وإنَّ دواء الذنوب الاستغفار )) .

قال قتادة : إنَّ هذا القرآن يدلُّكم على دائكم ودوائكم ، فأما داؤكم : فالذُّنوب ، وأما دواؤكم : فالاستغفار .
قال بعضهم : إنَّما مُعوَّلُ المذنبين البكاء والاستغفار ، فمن أهمته ذنوبه ، أكثر لها من الاستغفار .

السبب الثالث من أسباب المغفرة :
******************************
التوحيدُ ، وهو السببُ الأعظم ، فمن فقده ، فَقَدَ المغفرة ، ومن جاء به ، فقد أتى بأعظم أسباب المغفرة ، قال تعالى :
{ إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ }
فمن جاء مع التوحيد بقُراب الأرض - وهو ملؤها أو ما يُقارب ملأها - خطايا لقيه الله بقُرابها مغفرة ، لكنَّ هذا مع مشيئة الله - عز وجل - ، فإنْ شاء غَفَرَ له ، وإنْشاء أخذه بذنوبه ، ثم كان عاقبته أنْ لا يُخلَّد في النار ، بل يخرج منها ، ثم يدخل الجنَّة .

قال بعضُهم : الموحِّد لا يُلقى في النار كما يُلقى الكفار ، ولا يَلقى فيها ما يَلقى الكفار ، ولا يبقى فيها كما يبقى الكفار ، فإنْ كمُلَ توحيدُ العبد وإخلاصُه لله فيه ، وقام بشروطه كلِّها بقلبه ولسانه وجوارحه ، أو بقلبه ولسانه عندَ الموت ، أوجبَ ذلك مغفرة ما سلف من الذنوب كلِّها ، ومنعه من دخول النَّار
بالكلية .

فمن تحقَّق بكلمة التوحيد قَلبُه ، أخرجت منه كلَّ ما سوى الله محبةً وتعظيماً وإجلالاً ومهابةً ، وخشيةً ، ورجاءً وتوكُّلاً ، وحينئذ تُحْرَقُ ذنوبه وخطاياه كلُّها ولو كانت مِثلَ زبد البحر ، وربما قلبتها حسناتٍ ، كما سبق ذكره في تبديل السيئات حسنات ، فإنَّ هذا التوحيدَ هو الإكسيرُ الأعظمُ ، فلو وضع ذرَّة منها على جبالِ الذنوب والخطايا ، لقلبها حسناتٍ كما في " المسند " وغيره .



ولما قسا قلبى وضاقت مذاهبى =جعلت الرجا منى لعفوك سلما
تعاظمنى ذنبى فلما قرنته = بعفوك ربى كان عفوك أعظما
فما زلت ذا عفو عن الذنب لم تزل = تجود وتعفو منة وتكرما

المصدر
كتاب(جامع العلوم والحكم بشرح خمسين حديثا من جوامع الكلم)