ملتقى طالبات العلم

ملتقى طالبات العلم (https://www.t-elm.net/moltaqa/index.php)
-   روضة اللغة العربية وعلومها (https://www.t-elm.net/moltaqa/forumdisplay.php?f=32)
-   -   [ فصولٌ في الصداقةِ ] .. (https://www.t-elm.net/moltaqa/showthread.php?t=16897)

أم أســامة 04-06-08 10:37 PM

[ فصولٌ في الصداقةِ ] ..
 
( 1 )


لكلٍّ امرئٍ منا صُحبانٌ لا يزالُ يصلهم ويصلونه ؛ فمن الناسِ مَن يستمسك بهم ما كُتبَ له البقاءُ ، ومنهم من يتبدّلُ بهم غيرَهم . ولا يتبدلُ المرءُ غيرَ صاحبِه إلا لعلةٍ يجِدها منه ؛ فتراه أولَ أمرِه يتغاضَى عنها ، ثم لا تزالُ تكبُرُ حتى تؤذنَ بانقطاعِ الحبالِ . ومن الحسنِ أن أذكرَ هنا بعضَ مفسداتِ الصداقةِ ، حتى يكونَ المرءُ منها على خُبرٍ ؛ فيتوقاها . وهي على نحوينِ ؛ فمنها ما يجعلُ الصديقَ يرتابُ في ودِّ صديقِه . ومنها ما يجعلُه يرى أنّ أخلاقَ صديقه ذلك لا تناسبُه ؛ فأما النحو الأولُ فمن قِبَل أن الصداقةَ لا تستمرّ متينةَ القوى حتى يتفقَ عليها الطرفانِ ، وحتى يكونَ ما بينهما من الودٍّ على مقدارٍ واحدٍ . ومتى ارتابَ أحدُهما في ودِّ الآخَر أوشكت حبالُ الصداقةِ أن تقضّبَ ، ولم يُهيأ لصداقتِهما أن تدومَ .

فمن صور ذلك أن تكونَ الصِّلةُ من طرفٍ واحدٍ ، ويكونَ الآخرُ متلقيًا وحسبُ ؛ فالأول هو الذي يتصلُ ، وهو الذي يطلبُ لقاءَ الآخرِ !

ومن صورِها التي تبعث على سوءِ الظنِّ في الودِّ أن يتصلَ الصديقُ بصديقِه ؛ ثم لا يردّ عليهِ ، ولا هو يتصلُ به من بعدُ ؛ حتى يتوهمَ المتصلُ أن صديقَه ليس في جواله أدنى خاصّةٍ ، خاصّةُ ( مكالمات لم يردّ عليها ) ؛ فلا يزالُ الشيطانُ يزيّن للأوّلِ أن صاحبَه لا يحبّه ، وأنه غيرُ مبالٍ بهِ ، ولا ملتفتٍ إليه . ثم تأخذ الصداقةُ في الضعفِ ، حتى تضمحلَّ ، وينقطعَ ما بينهما من الودِّ .

ومن صورِها أن يجدَ المرءُ صديقَه لا يسألُ عنه إذا انقطعَ عنه ، حتى إنه ربّما يَمرضُ المرضَ العضالَ ، ويلاقي الهمومَ الثقالَ ، ولا يدري عنه صاحبُه ؛ أفيكون مثلُ هذا صديقًا ؟ وهل يُلامُ المرءُ إذا دخلَ في قلبِه الريبُ من ودّه ؟ فالصديقُ الحقّ هو الذي يتفقدُ أحوالَ صديقِه ، ويرعى ما بينهما من الحُرمةِ ، ولا يكونُ قليلَ الوفاءِ ، سريعَ النسيانِ . والصديقُ الحقّ هو الذي لا يسوء صديقَه في مغيبِه ، ولا في محضره ، ولا يقولُ ما عسى أن يَحزُنَه :


وما أنا للشيءِ الذي ليس نافعي *** ويغضبُ منه صاحبي بقئُولِ



..

أم أســامة 04-06-08 10:38 PM

( 2 )




قد ذكرنا في ما تقدَّمَ نُتَفًا من مفسداتِ الصداقةِ ، التي تُدخِلُ على الصديقِ من صديقِه تُهَمةً ورَيبًا . ونحن نأتنِفُ ما ذكرنا ؛ إذْ كانَ هذا البابُ من القولِ ، لا يوقفُ منه على غايةٍ ، ولا يُنقطَعُ منه إلى نهايةٍ ، وكانَ في ذكرِ القليلِ بلاغٌ ومعتبَرٌ !


كما أنَّ حقًّا على الصديقِ أن ينفيَ عن صديقِه أسبابَ سوءِ الظنِّ ، وألا يجعلَه يقِفُ منه على ما يَريبُه في ودِّهِ لهُ ، فإنَّ من حقِّ ذلك الصديقِ ألا ينساقَ وراءَ أولِّ خاطرٍ ، ولا يجعلَ لسوءِ الظنِّ على نفسِه مدخلاً ، وأن يتخِذَ الإغضاءَ ، وصلاحَ الرأيِ شِعارًا ومذهبًا . فإذا أحسَّ من صديقِه جفوةً ، أو صدودًا ، أو رأى منه انقطاعًا في الاتِّصالِ ، وإبطاءً في الرسائلِ ، فلا يعجلنَّ على صديقِه بالتُّهَمةِ ، وليتبيَّنْ أن يحكمَ عليهِ قبلَ النظرِ ، والتماسِ العللِ ؛ فعسَى أن يكون ذلك لعذرٍ منه ، أو لفهمٍ معدولٍ عن وجهِ الحقِّ ؛ فكأيِّن من ظنينٍ على غيرِ سوءٍ ، ومتَّهمٍ في غيرِ ذنبٍ !

تأنَّ ، ولا تعجلْ بلومِكَ صاحبًا *** لعلَّ له عذرًا وأنت تلومُ

ومن ذلكَ أن يكونَ كلُّ كلامِه إياهُ كلامًا جافًّا باردًا . ولا ينبغي لفرْطِ الإدلالِ أن يحملَ الرجلَ على أن يكلَّمَ صديقَه كما يكلّمُ عدوَّه . على أنه لا ينبغي أيضًا أن يُبلِغُ في تكلُّفِ الكلامِ الحُلوِ ؛ فيعاملَ صديقَه معاملةَ الغريبِ ؛ ولكنْ بينَهما ؛ قالَ بعضُهم : ( حقُّ الصديقِ إذا دنا أن يُّرحَّبَ بهِ ، وإذا جلسَ أن يُّوسعَ له ) .

وقالَ الشاعرُ :

" كيفَ أصبحتَ " ، " كيفَ أمسيتَ " ممَّا *** يَزرعُ الودَّ في فؤادِ الكريمِ

ومنه أن يتركَ تعهُّدَه بالزيارةِ ، أو الرسالةِ ؛ فربّما انقضَى الشهرُ ، أو الشهرانِ ، ولم يلتقِ بهِ ، على قربِ الدارِ ، وتهيّؤ الأسبابِ ، وإسعادِ الزمانِ ، وفراغِ القلبِ من الأشغالِ . فإنَّ طولَ الانقطاعَ يُورثُ الجفاءَ ، ويُكدّرُ الصفاءَ ، ويخلقُ المودَّةَ . فإذا هما رجعَا إلى ما بقِيَ من الودِّ رجعا إلى ودِّ طارفٍ ، وصُحبةٍ مستحدَثةٍ !

تركُ التعهُّدِ للصديـ *** ـقِ يكونُ داعيةَ القطيعهْ

و :

ومَن لم يكن مُنصِفًا في الإخا *** ءِ ، إن زرتُّ زارَ ، وإن عُدتُّ عادا
أبيتُ عليهِ أشدَّ الإباءِ *** وإنْ كانَ أعلى قريشٍ عِمادا


على أنّ للزيارةِ مقدارًا لا يحسُن أن تتجاوزَه . فأما إذا كانت الصداقةُ بينهما مبرَمةً متينةً ، وكانَ كلُّ واحدٍ منهما من أخيهِ على ثقةٍ ، فلا يضرّهما أن يلتقِيا كلَّ ساعةٍ ، كما لا يضرّهما أن يطولَ فراقُهما ؛ قالَ أبو حاتمٍ : ( من صحَّحَ الحالَ بينه وبين أخيه ، وتعرَّى عن وجودِ الخللِ ، أحببتُ له الإكثارَ في الزيارةِ ، والإفراطَ في الاجتماعِ ) [ بتصرفٍ ] ، وتوفّيَ ابنٌ ليونسَ بنِ عُبيدٍ ، فقيلَ له : إن ابنَ عونٍ لم يأتِك ! فقال : إنا إذا وثِقنا بمودةِ أخينا ، لم يضرَّنا ألا يأتينا . وقالَ الأعمشُ : ( أدركتُ أقوامًا كانَ الرجلُ منهم لا يلقى أخاه شهرًا وشهرين ؛ فإذا لقيه لم يزده على " كيف أنت ؟ " ، و " كيف الحالُ ؟ " ، ولو سأله شطرَ مالِه لأعطاه . ثم أدركت أقوامًا لو غابَ أحدهم عن أخيه يومًا ، ثم لقِيه ، لسأله عن الدجاجة في البيتِ ، ولو سأله شطرَ حبّةً من مالِه لمنعه ! ) . أما ما جاءَ في الأثرِ : ( زُرْ غِبًّا تزددْ حبًّا ) ، فذلك في حقِّ من لم تستحكمْ بينك وبينَه عُرى المودةِ ، ولا بلغَ من نفسِك مبلغًا تُطَّرحُ معه الحشمةُ ، ويُرفعُ لهُ التكلُّفُ . وفي ذلك قولُه :

زُرْ قليلاً لمن يَّودّك غِبًّا *** فدوامُ الوِصالِ داعي المَلالِ


و :

أقللْ زيارتَك الصديـ *** ـقَ تكن كثوبٍ يستجِدّهْ
إنّ الصديقَ يغُمّهُ *** ألا يزال يراك عندهْ





للحديث بقية وهو للأستاذ أبو قصي
انتقيته ونقلته من ملتقى أهل اللغة :

http://www.ahlalloghah.com/showthread.php?t=13

نفعني الله وإياكن .،

أم الفوارس 05-06-08 01:02 AM

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

جزاكـِ الله خيرا غاليتي * أم أسامة *

ننتظركـِ بوركـ فيكـِ

الخزامى 24-06-08 11:53 AM

أم أسامة
جزاكِ الله خيرا ونفع بكِ

المزدانة بدينها 27-06-08 09:18 AM

ما أثمنها من كلمات!!
 
بورك هذا النقل يا أم أسامة , فلقد لامست تلك الكلمات شغاف قلبي !!

فما ذكرت من مفسدات للصداقة نعيشها حقيقة ونتهرب من شعور أنها سبب القطيعة .

كود:

ومنه أن يتركَ تعهُّدَه بالزيارةِ ، أو الرسالةِ ؛ فربّما انقضَى الشهرُ ، أو الشهرانِ ، ولم يلتقِ بهِ ، على قربِ الدارِ ، وتهيّؤ الأسبابِ ، وإسعادِ الزمانِ ، وفراغِ القلبِ من الأشغالِ . فإنَّ طولَ الانقطاعَ يُورثُ الجفاءَ ، ويُكدّرُ الصفاءَ ، ويخلقُ المودَّةَ . فإذا هما رجعَا إلى ما بقِيَ من الودِّ رجعا إلى ودِّ طارفٍ ، وصُحبةٍ مستحدَثةٍ !
كم آلمتني هذه الحروف , وعلى الأخص :
كود:

فإذا هما رجعَا إلى ما بقِيَ من الودِّ رجعا إلى ودِّ طارفٍ ، وصُحبةٍ مستحدَثةٍ
فهلّا سقيتنا من هذا النبع يا أخية , فنحن ننتظر !!

سمية بنت إبراهيم 08-07-08 09:58 PM

فصول رائعة جدا
جزيتِ خيرا حبيبتي أم اسامة

عائشة صقر 12-10-08 11:20 AM

فصــولٌ رائعــة !

أثــابكِـ البــاري خيــــرًا ..

ولا حرمكِـ الجنّـــة .،،

قابضة على الجمر 12-10-08 01:17 PM

بسم الله و بالله

جزاكِ الله على الموضوع الجيّد
و الحمد لله على نعمة الصداقة و الحب في الله

بالتوفيق


الساعة الآن 08:19 PM.

Powered by vBulletin® Version 3.8.11
Copyright ©2000 - 2024,Jelsoft Enterprises Ltd.
هذه المنتديات لا تتبع أي جماعة ولا حزب ولا تنظيم ولا جمعية ولا تمثل أحدا
هي لكل مسلم محب لدينه وأمته وهي على مذهب أهل السنة والجماعة ولن نقبل اي موضوع يثير الفتنة أو يخالف الشريعة
وكل رأي فيها يعبر عن وجهة نظر صاحبه فقط دون تحمل إدارة المنتدى أي مسؤلية تجاه مشاركات الأعضاء ،
غير أنَّا نسعى جاهدين إلى تصفية المنشور وجعله منضبطا بميزان الشرع المطهر .