الدنيا هذه منتهية وانظر كم قد ذهب مِن عمرك ومن عمر غيرك واسأل أباك واسأل جدك الذين عاشوا والذين ذهب من عمرهم عشرات السنين عشرات السنين ماذا معكم منها؟ ماذا استفدتم منها؟ ماذا حققتم مِن عِزٍ ومِن سعادةٍ ومن خيرٍ عظيم وبذل كبير في ما ينفعكم؟ لوجدت أنهم يشكون ويبكون ويئنون ويتحسرون على العمر الذي صُرف والذي ضُيِّعَ في غير محله.
فما أكثر ما يهتم الناس بدنياهم التي هي راحلة عنهم والتي ستتركهم والتي ستقطعهم عن الله رب العالمين والتي قد ضمنها الله لهم لم يزيدوا شيئاً من عندهم ولم ينقصوا شيئاً مما قد كتب لهم وهم مقبلون عليها في الليل وفي النهار. والآخرة متى الإقبال عليها؟ عند الموت!!! عند النزول تحت الصخور !! والحياة بين الأجداث والصخور !!!
قال بعض العلماء رحمهم الله: عجبت لِمن يهدم يومه شهره وشهره سنته وسنته عمره ومن ثم يفرح بذلك. يفرح أن اليوم هذا ذهب وأن الشهر هذا ذهب وأن السنة هذه انتهت ودخلنا في سنة ثانية .
أين أنت من الحساب على كل لحظة وآن، وعلى كل ساعة وعلى كل أمر؟ أين أنت من هذا؟
هذه أعمار غالية جداً أعطاك الله إياها لتعبده حق عبادته فأين العبودية له سبحانه؟
عجبت لِمن يتم له السرور * * * بدار كل ما فيها غرور
وكيف يلذ ساكنها بعيش * * * ويعلم أن مسكنه القبور
جاء من حديث ابن مسعود عند أحمد والترمذي أنَّ الرسول عليه الصلاة والسلام قال: (مَا لِي وَمَا لِلدُّنْيَا، مَا أَنَا فِي الدُّنْيَا إِلاَّ كَرَاكِبٍ اسْتَظَلَّ تَحْتَ شَجَرَةٍ ثُمَّ رَاحَ وَتَرَكَهَا ) أنظر، الدنيا مثل ظِل الشجرة فماذا مع الناس إن لم يستغلوا هذا الوقت في ما يرضي الله وفي ما يبيض وجوههم يوم أن تَسْوَدَّ الوجوه بين يدي الله رب العالمين سبحانه وتعالى .
والرسول الناصح الأمين عليه الصلاة والسلام يأتي إلى بن عمر ويأخذ بِمنكبه ويقول : (كُنْ فِي الدُّنْيَا كَأَنَّكَ غَرِيبٌ أَوْ عَابِرُ سَبِيلٍ) هذه حقيقة الدنيا أنها ليست وطناً لك، تريد أن تبقى لن تبقى، تريد أن تنعم لن يبقى النعيم، تريد أن تأمن لن يبقى الأمان، تريد أن تدوم لك الصحة لن تبقى الصحة، الحياة كلها ستتغير وستذهب وتنتهي ولن يبقى إلا ما قدمه العبد من خير أو شر .
ابن عمر أخذ بهذه النصيحة فماذا قال؟ زاد من عنده موضحاً النصيحة وقال: (إِذَا أَمْسَيْتَ فَلاَ تَنْتَظِرْ الصَّبَاحَ، وَإِذَا أَصْبَحْتَ فَلاَ تَنْتَظِرْ الْمَسَاءَ وَخُذْ مِنْ صِحَّتِكَ لِمَرَضِكَ وَمِنْ حَيَاتِكَ لِمَوْتِكَ) هذا رجل سعد بهذه النصيحة التي أعطاه النبي عليه الصلاة والسلام فَرضي الله عن بن عمر، سُئِل نافع ما كان عمل ابن عمر؟ قال: كان عمله أن يتوضأ ما بين الوقت والآخر يعني مُستمر في أداء العبادات وفي أفعال الخيرات وفي القيام بالطاعات رضي الله تعالى عنه .
انظروا النصائح إذا أُخذت بِحَقها، فلهذا بن عمر ما مات حتى قال بعض الناس ما نظن إلا أن الله قد غفر له رضي الله تعالى عنه .
فالحياة ليست لك وليست بيدك وليس الرزق من عندك ولا الوقت ولا الأنفاس، إنما أنت في هذه الحياة مسافر فيها وإن جلست إلا أن الأمر هكذا ولهذا قال بعض العلماء الناس وإن كانوا واقفين إلا أنَّ كَر الليل والنهار يسير بهم إلى الجنة أو إلى النار فمن سار إلى الله سار به زمانه وسار به وقته إلى الجنة ومن لم يسر إلى الله سار به عمره ووقته إلى جهنم وبئس القرار .
الحياة غالية لا يَجوز أن نُرخصها بالجهل الذي فينا والغفلة التي جَثمت على قلوبنا إلا مَن رحمه الله سبحانه وتعالى فاحرص يا عبد الله على وقتك ما وجدت إلى ذلك سبيلاً.
قال بن النحاس رحمه الله تعالى:( ضم القليل إلى القليل يورثك الكثير العجيب)
يعني طاعة إلى جانب طاعة وخير إلى جانب خير وحسنة إلى جانب حسنة مع الأيام يصير معك مُلك عظيم من الخير، هذا عندما تُثَابِر وتُداوِم وتُتَابِع الأعمال الخيرية وتقوم بِما ينبغي فإذا تُرك هذا وضُيع الوقت هنا وهنا وهنا ... ظَهر للعبد الفشل، كم ضيع من أوقات في لَيلِهِ في نَهَارِهِ، في سفره في حضره، في شبابه في أمنه، كم ضيعها إذا به فاشل خاسر نعوذ بالله.
ثم ضرب مثلاً لهذا الكلام الذي هو ضم شيء إلى شيء هو قليل لكن مع الأيام يصير كثيراً ويصير عجيباً، ضرب مثلاً بأن أبا الوفاء بن عقيل هذا من علماء الحنابلة أَلَّفَ كتابه الفنون من ثَمانُمائة مُجلد، انظر عند بداية التأليف بدأ بكتابة حرف انظر المواصلة والمتابعة والاستمرارية والمثابرة كم صار معه من مؤلفات، وهكذا أنت وهكذا نحن جميعاً إذا استمريت تثابر في أداء الطاعات في باب الصلاة في باب الصيام في باب قراءة القرآن في باب بذل خير ونصح وتعليم وأمر بمعروف ونهي عن منكر وصدقة وصلة رحم إلى غير ذلك ستجمع من الخير ما تكون مَلكاً من ملوك الآخرة ليس مِن مُلوك الدنيا ولكن مِن مُلوك الآخرة وإذا ضيعنا هنا يضيع القرآن وهنا يضيع العلم، يستيقظ الشخص وهو فاشل عياذاً بالله.
قال بعض العلماء حُبُّ الدنيا خَمر الشيطان فمن ابتلي بها فلا يستيقظ إلا وهو في معكر الموتى، بمعنى أن حُب الدنيا أخطر على صاحبه من شرب الخمر وإن كان هذا لا يدرك، وإن كان هذا لا يعني أن الجرم في حب الدنيا أعظم بالأدلة، ولكن من جهة أن من ابتلي بِحب الدنيا يؤخذ شيئاً فشيئاً إلى البعد عن الله وإلى الضياع والغفلة والتكاسل والملل واللعب والضعف حتى لا يكاد بعضهم يستيقظ إلا وهو على شفير القبر، أما الذي يسكر سكر خمر وندامة، يسكر ساعة أو ساعات ثم يستفيق، فهذا خمر أشد على من ابتلي به في الضرر إن دام فيه من شرب الخمر عياذاً بالله وحب الدنيا أبعد الناس عن ما يفعلونه لآخرتهم فتجد الشخص ليس إلا مع الدنيا مهما كان أذاها ووبالها أو عليك مهما أضرت بك فهو كالوحش يلحق ويكد ويبذل في سبيل أمر الدنيا هؤلاء ممن لم يرد الله بهم خيراً.
استغلال الأوقات في أي المجالات أمرٌ في غاية الأهمية
ومن الأمثلة العجيبة في الحرص على الوقت عند طلاب العلم النابغين والنبيهين والموفقين ما ذكر أن محمد بن السلام البيكندي وهو شيخ البخاري كان في الحلقة، في حلقة شيخه فانكسر قلمه انكسر قلمه فماذا يفعل قال القلم بدينار وكان ذا مال فقال القلم بدنيار يعني من يعطيني قلم أعطي له دينار فكثرت له الأقلام بين يديه كل يرمي بقلم ليأخذ الدينار.
قال الشراح لهذا الأثر قالوا: بن سلام حافظ على الوقت لو خرج يشتري قلماً متى يرجع ؟ وقد ذهب الدرس!!!
أو ذهب بعض الدرس قالوا لو أنه قال من يعيرني قلماً قد لا يجد من يعطيه قلماً لكن أخذ المسألة بجد حتى لا يضيع عليه شيء من الدرس فقال قلم بدينار فما توقف عن الكتابة، أُعطي له القلم على طول فثابر على الكتابة والمحافظة على الدرس فهذا من جملة التوفيق، ولهذا في تهذيب الكمال أن ابن سلام هذا قال أنفقت أربعين ألف دينار في طلب العلم وأنفقت أربعين ألف دينار في نشر العلم، في طلب العلم ينفق وفي نشر العلم ينفق هكذا الغيرة على الدين وهكذا الخدمة للإسلام وهكذا التفاني في حب الخير وفي إقامته وفي الدعوة إليه والحرص عليه.
يا عباد الله الإسلام ما حُفظ والإسلام ما انتُشر ولا قَام الإسلام إلا برجاله وبأهله وبحملته الذين كانوا أحق به، فَتَباً لَنَا إن لَم نكن حريصين على أننا نَخدم دين الله وأننا نسعى في إصلاح أنفسنا ما وجدنا إلى ذلك سبيلاً .
ولو جئت تقرأ في سير السلف وكيف حافظوا على وقتهم نَجد أنفسنا بجانبهم فقراء مساكين مِنَّا من ابتُلِيَ ومِنا مَن جهل ما ينبغي أن يحرص عليه.
فقد جاء أن ابن المبارك رحمه الله رحمه الله كان بعد أن ينتهي من صلاته ودرسه يدخل بيته فقيل له يا أبا عبد الرحمن ألا تَجلس معنا نُحدثك وتُحدثنا؟
قال: إني أجلس مع من هو خير منكم.
قالوا: ومن هو؟
قال: أجلس مع صحابة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.
كم زميل يحب ضياع الوقت مع زميله الذي يضيع الوقت مثله ولا يريد أن يفارق هذا الزميل ويعيش مقبلاً على نفسه.
قال بن الجوزي رحمه الله كما في صيد الخاطر قال: من أعظم أسباب المحافظة على الوقت العزلة .
يعني أن الشخص يعتزل الناس لأن الناس في الغالب إلا مَن رحمه الله لا يَهُمه الحِفاظ على الوقت، يضيعونه بالكلام الذي لا يعود عليهم بنفع وبالقيل والقال والغيبة والنميمة وما إلى ذلك، فمن كان حريصاً وحصيفاً لا يَرضى أن يُضَيِّعَ وقته هنا وهنا ، فمتى نطلب العلم ومتى نَجد لَذَّة العلم ومتى نَصدُق مع الله في طلب العلم ؟
ومتى نعرف قيمة العلم وعظمة العلم وخيرية العلم وعظيم النفع والفقر إلى العلم إذا كنا نرضى بضياع الأوقات ؟