
وتأمَّلِ الآياتِ في أواخرِ سورةِ الحجِّ، وهيَ قولُهُ تعالى:{ وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقًا حَسَنًا وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ } [الحجِّ: 58]
والآياتِ التي بعْدَها؛ فإنَّ لها شأناً عظيماً، ومعانيَ جليلةً يحسنُ الوقوفُ عليها وبيانُها.

وذلكَ أنَّ المهاجرينَ لمَّا كانوا قدْ تعرَّضُوا للفقرِ بتركِ أموالِهِم وأوطانِهِم، ومنهم مَنْ خرج لا يملكُ إلاَّ ثوْبَهُ الذي عليهِ، ولَحِقَهُمْ منْ ذلكَ ما يلحقُ الفقيرَ المظلوم من الهمِّ و الغمِّ، وكانوا بعدَ ذلكَ على قسمَيْنِ:
القسم الأول: منهم مَنْ يموتُ أوْ يُقْتَلُ والحالةُ هذهِ؛ وعدَهُم اللَّهُ عزَّ وجلَّ أنْ يرزُقَهُم رزقاً حسناً أحسنَ من الذي خلَّفُوهُ، ثمَّ بيَّنَ لهم منْ أسمائِهِ وصفاتِهِ ما هوَ كفيلٌ بذلكَ، وأنَّ اللَّهَ عزَّ وجلَّ هوَ خيرُ الرازقينَ.
وتأمَّلْ كيفَ ذكرَ هذا الاسمَ في صفةِ جوابِ القَسَمِ تقريراً لهذا المعنى ومبالغةً في رفعِ الهمِّ والغمِّ منْ قلوبِهم ؛ لئَلاَّ يأْسَوْا على ما أُخِذَ منهم في سبيلِ اللَّهِ عزَّ وجلَّ.
ثمَّ قالَ:{ لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلًا يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ } [الحجِّ: 59] عليمٌ بصِدْقِ وعدِهِ، عليمٌ بما يُرْضِي عبادَهُ المؤمنينَ، حليمٌ يتجاوزُ عنْ سَيِّئَاتِهِم وتقصيرِهِم، حليم لا يعجل لأعدائه العقوبة لما له في ذلك من حكم بالغة، فيملي لهم ويستدرجهم حتى إذا أخذهم علموا أن أخذه أليم شديد.

القسمُ الثانِي: الذينَ يَبْقَوْنَ فيقاتلونَ الكُفَّارَ منْ بعدِ ما أصابَهُم البغيُ والظلمُ؛
فقالَ تعالى: { ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ } [الحجِّ: 60] فتكَفَّلَ اللَّهُ بنَصْرِهِمْ وتمكِينِهِم وجَعْلِ العاقبةِ لهم في الدُّنْيا والآخرةِ،
وأخبَرَهُم بعدْلِهِ وفضْلِهِ، فقالَ:{ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ }، وهذا مُقْتَضَى عدْلِـهِ عزَّ وجلَّ، فينتصرُ لعبدِهِ المؤمنِ وينتقمُ لهُ ممَّنْ ظلمَهُ، وفي هذا رفعٌ للضررِ الدنيويِّ اللاحقِ بهِ.
وقولُهُ تعالى:{ إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ } فيهِ البشارةُ لهُ بالعفوِ والمغفرةِ؛ وهذا منْ فضْلِهِ سُبحانهُ وبحمدِهِ، وذلكَ يتضمَّنُ إزالةَ الضررِ اللاحقِ بهِ منْ جهةِ الذنوبِ والمعاصِي.
فرفعَ اللَّهُ عزَّ وجلَّ عنهُ ما يضرُّ بدِينِهِ ودنياهُ، وجعلَ لهُ العاقبةَ في الدنيا بالنصرِ والتمكينِ، وفي الآخرةِ بالعفوِ والمغفرةِ.

ثمَّ لمَّا كانَ الظلمُ ثقيلاً على نفوسِ المظلومينَ، يسْتَبْطِئُونَ النصرَ والفرَجَ، وقدْ يَعْرِضُ لقلوبِهم من الوساوسِ والخَطَرَاتِ ما يغُمُّهُم بهِ الشيطانُ منْ كَوْنِ هذا الظلمِ مُسْتَحْكِماً لا يُمْكِنُ ارتفاعُهُ، أوْ أنَّ أسبابَ النصرِ بعيدةٌ عسيرةُ المنالِ؛ ليُقَنِّطَهُم منْ رحمةِ اللَّهِ عزَّ وجلَّ، أرْشَدَهُم اللَّهُ عزَّ وجلَّ إلى التفكُّرِ في آلائِهِ وأسمائِهِ وآياتِهِ؛ فإنَّ التفكُّرَ فيها يُسَكِّنُ النفسَ، ويُطَمْئِنُ القلبَ، ويُسَلِّي المحزونَ.
فقالَ تعالى: { ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ } [الحجِّ: 61] فكما أنَّهُ قادرٌ على تصريفِ الليلِ والنهارِ، فيَذْهَبُ بالنهارِ ويأتي بالليلِ، ويذهبُ بالليلِ ويأتي بالنهارِ، فهوَ قادرٌ على إزالةِ هذا الظلمِ والانتقامِ للظالمينَ وإِدَالَةِ عبادِهِ المؤمنينَ عليهِمْ؛ فكما أنَّ الليلَ إذا اشتدَّ ظلامُهُ فهوَ أمارةُ قُرْبِ الفجْرِ، فكذلكَ الظلمُ إذا اشتدَّ فهوَ أمارةُ قُرْبِ الفرَجِ، وإنَّما هيَ ساعاتٌ معدودةٌ يبتلي اللَّهُ فيها عبادَهُ؛ فيرضى عن المؤمنينَ ويَمْحَقُ الكافرينَ.
ثمَّ ذكرَ لهم أمراً آخرَ يُطَمْئِنُ قلوبَهُم بهِ، فقالَ: { وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ } يسمعُ ويُبْصِرُ ما يقعُ من الظلمِ، وهذا يستلزمُ عنايتَهُ عزَّ وجلَّ بعبادِهِ، وأنَّهُ لا يُقِرُّ الظلمَ عليهم، وأنَّ هذا الإمهالَ إنَّما هوَ لحِكَمٍ يعلَمُها اللَّهُ عزَّ وجلَّ، وأنَّهُ لا يُهْمِلُ عبادَهُ ولا يخْذُلُهُم ولا يتْرُكُهُم عُرْضَةً لأعدائِهِ.
ثمَّ قالَ تعالى مُقَرِّراً هذا المعنى:{ ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ } [الحجِّ: 62]، فكونُهُ الحقَّ يقتضي عدمَ إقرارِ الباطلِ والظلمِ وهضمِ الحقِّ، بلْ لا بدَّ أنْ ينصُرَ الحقَّ ويُعْلِيَهُ على الباطلِ.
ثمَّ بيَّنَ لعبادِهِ المؤمنينَ أمراً آخرَ يُطَمْئِنُ قُلوبَهُم، وهوَ أنَّهم يعبدونَ اللَّهَ عزَّ وجلَّ ((الحقَّ)) الذي لا أحدَ أحقُّ بالعبادةِ منهُ، بلْ لا يستحقُّ العبادةَ أحدٌ سِوَاهُ، وأنَّ الظالمينَ المشركينَ إنَّما يَدْعُونَ منْ دُونِهِ الباطلَ؛ والإلهُ الحقُّ لا بُدَّ أنْ يغلِبَ الآلهةَ الباطلةَ ويَنْصُرَ أتباعَهُ على أتباعِها.

|