جُهدٌ لا يُنسى
|
الدرس العاشر .. مجموعة العزيمة الصادقة
التأني في قراءة القرآن
بسم الله الرحمن الرحيم ، الحمد لله رب العالمين .. والصلاة والسلام على رسول الله .. وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين..
نواصل ما كنا ذكرناه .. وقد كنا نتكلم عن الحلقة التي تتعلق بالمستوى الأول .. وعن المرحلة الثانية فيما يتعلق بالتأني وقراءة القرآن بدون عجلة .
وذكرنا هدي رسول الله –صلى الله عليه وسلم- في هذا الباب .. ثم هدي السلف الصالح –رضوان الله عليهم أجمعين- في قراءة القرآن.
وأريد قبل أن أنتقل إلى المرحلة الثالثة المتعلقة في هذا الباب .. نريد أن نأخذ نموذجا نقرأ فيه آيات من كتاب الله –سبحانه وتعالى- على طريقة أولئك الأوائل .. أولئك الأئمة الذين هداهم الله –سبحانه وتعالى- قبل أن نلج إلى المرحلة الثالثة .. فمن منكم يقرأ علينا آيات من كتاب الله –سبحانه وتعالى- ولكن يقرؤها قراءة مترسلة .. يرتلها ترتيلا يقف عند الآيات ويعتني ببيان ما في هذه الآيات من المعاني العظام .. سالكا في ذلك طريقته –صلوات ربي وسلامه عليه- عند قراءته لكتاب ربه ؟ من منكم؟
قرأ أحد الطلبة:
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم
(يود المجرم لو يفتدي من عذاب يومئذ ببنيه * وصاحبته وأخيه * وفصيلته التي تؤويه * ومن في الأرض جميعا ثم ينجيه * كلا إنها لظى * نزاعة للشوى * تدعو من أدبر وتولى * وجمع فأوعى * إن الإنسان خلق هلوعا * إذا مسه الشر جزوعا * وإذا مسه الخسر منوعا * إلا المصلين * الذين هم على صلاتهم دائمون)
أحسنت .. يا بارك الله فيك
هذه آيات عظيمات .. قرأت لكم قراءة كما كانوا –رحمهم الله ورضي الله عنهم وأرضاهم- يتلون كتاب الله –سبحانه وتعالى- .. تأمل هذه الآيات وأنت تقرؤها قراءة مترسلة متأنية .. ترتلها ترتيلا .. وتتأمل في معانيها
هذه الآيات ليس فيها ما هو صعب .. ليس فيها ما هو مغلق على الفهم أبدا .. وإنما هي آيات يعرفها ويفهمها .. ويدرك المراد منها كل من كان له لسان عربي ، وبيان يفهم به هذه اللغة ، (يود المجرم لو يفتدي من عذاب يومئذ ببنيه * وصاحبته وأخيه) صاحبته : زوجته (وأخيه * وفصيلته التي تؤويه) قبيلته .. عشيرته كلها من أولها إلى آخرها .. يريد أن يأخذ بهم ، ويرمي بهم في نار جهنم ، من أجل أن ينجو هو .. نعم .. موقف لكنه عظيم .. وموقف ولكنه شديد .. وموقف ولكنه –والله- ليس بالهين أبدا..
لو تأمله الإنسان وأعطاه حقه وهو يقرأ في كتاب الله –عز وجل- (يودُّ المجرم) من هو المجرم؟ المجرم: الذي أجرم في حق ربه –سبحانه وتعالى- ، وأجرم في حق نفسه ، وأجرم في حق الناس من حوله..
كيف يكون حاله؟ (يود) يرغب .. يحب .. أن يأخذ بأمه أقرب الناس إلى قلبه .. أن يأخذ بأبيه .. أن يأخذ بابنته .. أن يأخذ بابنه .. وقد كان في الدنيا من أشفق الناس بهم .. وأرحم الناس بأبنائه وبناته ..
إذا هو في يوم القيامة يود ويحب ويرغب أن يأخذهم جميعا .. فيلقي بهم في نار جهنم .. وهو يرى حر نار جهنم .. حتى ينقذ نفسه ! .. فالموقف عظيم..
(يود المجرم لو يفتدي من عذاب يومئذ ببنيه * وصاحبته وأخيه * وفصيلته التي تؤويه...) ثم من؟ (ومن في الأرض جميعا) لا إله إلا الله .. لمَ؟ (ثم ينجيه) .. ما السر ؟ ما السبب؟ .. ما الحكمة؟ .. ما العلة؟ .. بين الله عز وجل ذلك ، وقال: (كلا إنها لظى) .. (يود المجرم لو يفتدي من عذاب يومئذ ببنيه * وصاحبته وأخيه * وفصيلته التي تؤويه * ومن في الأرض جميعا ثم ينجيه ) يا رب لمَ هذا كله؟ .. وما سببه؟ .. ما علته؟ .. وما شأنه؟ .. لم يود هذا؟ .. هذا الإنسان أليس له قلب ؟! .. أليس فيه رحمة؟! .. أليس فيه شفقة؟! .. بلى .. كل ذلك وكثير ..
لقد كان في دنياه من أبر الناس بأمه .. ومن أحسن الناس معاملة لأبيه.. ومن ألطف الناس بأبنائه وبناته .. ولكن الأمر عظيم .. والهول شديد ؛ ولذا قال الله –عز وجل- وهو يبين علة ذلك: (كلا) كلا ماذا يارب؟ (كلا إنها لظى) .. هو رأى لظى ولم ير شيئا آخر.. لما رآها تمنى هذه الأمنيه .. وود هذا الود ..
(كلا إنها لظى * نزاعة للشوى) نزّاعة: جاءت بصيغة المبالغة ؛ أي أنها تنزع كل ما هو قابل للشوي نزعا شديدا .. هذا الشعر.. هذا الجلد .. وما يتبع ذلك..
كل ما كان قابلا للشوي فإنه يسقط بمجرد أن تلفحه النار لفحة واحدة ..!
ولذا قال الله عز وجل –في السورة الأخرى: (لواحة للبشر) أي أنها تلوحهم وتضربهم ضربا .. كما تضرب الخشبة العرضة .. كما يضرب اللوح البشرة .. أو كما يضرب اللوح الحيوان أو عير ذلك..
هكذا النار .. تضرب وجوه هؤلاء المجرمين..
(لواحة للبشر) فلما تلوحهم بضربتها القوية العريضة .. لست ضربة نحيفة .. وليست ضربة محددة في موضع دون موضع .. وإنما هي ضربة عامة .. كما تضرب الخشبة العريضة الجسد إذا وصلت إليه .. وإذا لامسته وأوجعته .. كذلك النار .. تضرب تلك البشرة .. وتضرب هذه الجلود ضربا كاملا هكذا كضرب اللوح .. ثم يحصل بعد ذلك أن ينزع كل ما هو قابل للشوى
ولذا قال الله –عز وجل- هنا: (كلا إنها لظى * نزاعة للشوى) أي شوى يا رب؟ (تدعو من أدبر وتولى * وجمع فأوعى) .. أدبر عن ماذا؟
أدبر عن القرآن .. وتولى عن كتاب ربه الرحمن .. وعاش في أحضان الشيطان .. في هذه الحياة الفانية .. فكان جزاؤه هذه النار ..
كان جزاؤه لظى .. التي تنزع منه ما كان قابلا للشوى.. (تدعو من أدبر وتولى * وجمع فأوعى * إن الإنسان خلق هلوعا * إذا مسه الشر جزوعا * وإذا مسه الخير منوعا) ثم انظر إلى الاستثناء العظيم .. الذي جاء في هذه السورة العظيمة..
من الذي ينجو من ذلك يا رب؟ .. ومن الذي يسلم من هذا كله؟ .. يا جبار السماوات والأرض.. انظر إلى جميل الاستثناء في هذه الآيات العظيمات .. فالذين ينجون من هذا البلاء العظيم هم صنف واحد من الناس .. من كان من المصلين.. وهل هو أي مصلٍ؟ .. لا .. وإنما هو مصلٍ لكنه على صلاته دائم .. فمن لم يكن من المصلين .. ومن الذين يديمون الصلاة .. ويحافظون عليها .. ولا يفرطون في شيء منها .. لا يصلون وقتا ويتركون أوقاتا .. ولا يضيعوم صلاةً فلا يصلونها إذا خرج وقتها .. هؤلاء هم الذين ينجون من لظى النزاعة للشوى..
أما من لم يكن كذلك .. فإنه لن ينجو منها أبدا .. ومن لم يكن من المصلين الدائمين على صلاتهم .. لن ينجو من ذلك أبدا .. بل إن جزاؤه أنه سيقف في موقف عظيم وهو يود أن يرمي بكل الناس وينجو من هذا الموقف المخزي .. سيرمي أقرب الناس إليه .. وسيرمي أحب الناس إليه.. وسيرمي أبعد الناس عنه أيضا .. من لم يره مرة من الزمن .. سيرمي بهؤلاء جميعا لكي ينجو هو .. ولن يحصل له ذلك .. إلا إذا كان من المصلين الذين هم على صلاتهم دائمون ..
وهذا يبين لك أن هذه الآية من أعظم الآيات التي تبين لك أهمية الصلوات المفروضة .. وتبين لكل مسلم أن من ضيع هذه الصلوات المفروضة فإنه حقيق بخزي من الله وعذاب .. وحقيق بوعيد شديد من جبار السموات والأرض..
ولكن لو قرأها وتأمل فيها قليلا قليلا .. لوجد ذلك أشد ما يكون بيانا .. وأشد ما يكون وضوحا .. الآيات ظاهرة .. لا تحتاج إلى مفسر .. ولا إلى كتاب .. ولا إلى مراجعة تفسير ابن جرير .. ولا إلى مراجعة لتفسير ابن كثير .. ولا لتفسير أبي السعود .. ولا إلى البيضاوي .. ولا إلى غيرها من كتب التفسير ..
وإنما هي بحاجة لشيء واحد فقط : وهو أن تقبل على كتاب ربك .. وأن تتلو هذا القرآن وأنت تعلم أنه من عند الرحمن –سبحانه وتعالى- فتقرأ قراءة متأنية .. متأملة .. متفكرة .. رابطا بين أوائل الآيات وبين أواخر الآيات .. تأمل هذا في هذا المقطع من هذه السورة .. أو تأمله أيضا من سور كثيرة أخرى .. ستجده أحسن ما يكون وأكمل ما يكون في علاجه لأمراض قلبك .. وفي إصلاحه لكل شؤون حياتك ..
ننتقل بعد ذلك إلى المرحلة الثالثة..
المرحلة الثالثة هي: الاستعانة بكتاب مختصر في التفسير عند الحاجة ..
وأعيد وأكرر أن هذا المستوى خاص لعامة المسلمين .. فعامة المسلمين ممن يريد أن يكون من أهل القرآن بدءاً يحدد السورة او السور التي سيقرؤها ويفتتح بها تدبره لكتاب ربه .. ثم بعد ذلك إذا اختار سورة من السور .. فإنه يقرؤها قراءة متأنية .. مترسلة .. يرتلها ترتيلا .. يكررها عند الحاجة ..
فإذا فعل ذلك ؛ فعندئذٍ بقي عليه أمر واحد فقط:
إذا مرَّت به آية وهو يتلو كتاب الله –سبحانه وتعالى- .. ولم يفهم كلمة من القرآن .. ولم يعلم معنى جملة من كتاب الله –سبحانه وتعالى- .. عندئذٍ .. فإن الله منّ علينا بكتب في التفسير .. ميسرة وسهلة .. يرجع إليها هذا القارئ لكتاب الله –عز وجل- ويستفيد منها ..عندئذٍ سينجلي ما كان غامضا .. ويتبين ما كان دقيقا .. ويصبح واضحا ظاهرا له أشد ما يكون الظهور ..
كتب التفسير الميسرة الظاهرة ليست بالقليلة , بل هي ولله الحمد والمنة كثيرة , وإن كان ليس منها ما هو جامع لكل ما تريد , هذا صحيح فليس هناك كتاب في التفسير تستطيع أن تقول إنه قد جمع ما تريد وتشاء وترغب من معاني تفسير الله عز وجل .. ولكن ولله الحمد والمنة أن هناك كتب قد صنفت تناسب عموم المسلمين يمكن أن نستفيد منها , وهذا الكلام فيما يتعلق بفهم ألفاظ وكلمات كتاب الله سبحانه وتعالى التي فيها شيء من الغموض وعدم الظهور لا بد منه من أجل أن يكمل فهمك لكتاب ربك .
ولذا يقول إمام المفسرين ابن جرير رحمه الله , وهو يحكي لك عبارة جليلة عظيمة خرجت من إنسان عارف بكتاب الله عز وجل , يقول : إني لأعجب ممن قرأ القرآن ولم يعلم تأويله كيف يتلذَّذ بقراءته ...اهـ .
انظر إلى كلمة هذا الإمام رحمه الله : إني لأعجب ممن قرأ القرآن ولم يعلم تأويله كيف يتلذذ بقراءته , معنى لم يعلم تأويله أي لم يعلم تفسيره ومعاني كلماته وما المراد منه , كيف يتلذذ بقراءته , نعم لن يتلذذ بقراءة القرآن , هذه اللذة التي يجدها من اقترب من كتاب الله , وفهم معانيه لن يجدها هذا لأنه لم يعلم تأويل كتاب الله سبحانه وتعالى , وهذه الكلمة خرجت من إمام عارف بكتاب الله سبحانه وتعالى , وكان من أهل القرآن الذين آتاهم الله عز وجل الفقه والتأويل لكتابه سبحانه وتعالى .
اختيار الكتاب المناسب قد يشق على الإنسان حقيقة , لأن في كل كتاب ما هو جميل وما هو مفيد للناس , عندما تنظر مثلا في : تفسير زبدة التفسير الذي اختصره الشيخ : سليمان الأشقر من كتاب فتح القدير , تجد أن فيه أشياء كثيرة ترجح هذا التفسير على غيره , فهو سهل ويسير وفيه بيان للآيات بشكل واضح جلي , وقد جمع الكلام عن كثير من الكلمات الغامضة بعبارة سهلة يسيرة , فهو من هذا الجانب من أحسن ما يكون , ومن أتم ما في هذا الكتاب ومن أحسن ما يوصف به هذا الكتاب أنه >>> أوضح الآيات الغامضات بكلمات سهلة يسيرة ليست بالعسيرة أبدا .
لكن ننظر إلى تفسير آخر مثل تفسير الشيخ العلامة : عبد الرحمن بن ناصر السعدي رحمه الله .. تيسير الكريم المنان , فتجد أن في هذا التفسير أشياء كثيرة ليست موجودة في زبدة التفسير .
تجد أن في هذا التفسير مثلا : أنه يتكلم عن الفوائد من الآيات ويتكلم عن الأشياء التي فيها تربية وتهذيب وتأديب وتعليم وتزكية للنفس والفؤاد والقلب , وهذه الأشياء ليست موجودة في كتاب زبدة التفسير , بل إن تفسير العلامة السعدي رحمه الله قد فاق غيره من كتب التفسير الطوال في هذا الباب .
عندما تنظر مثلا في تفسير الجلالين , فإن هذا التفسير تجد فيه من أنواع النفع وأنواع الفوائد ليست بالقليلة أبدا , فهذا الكتاب أول ما يميزه أنه مختصر بشكل كبير جدا , الشيء الآخر أن الكلمات التي فسرت بها الآيات فسرت بعبارة دقيقة جدا إلى الغاية هي من أسلم ما يكون , فتفسير الجلالين لأن من ألفه كان إمام في اللغة والبيان والبلاغة فإنهم رحمهم الله ألفوا هذا الكتاب بعبارة دقيقة تعجب منها فأنت تنظر في تفسير الآية وتنظر في الكتب الطوال التي شرحت هذه الآية في كتب اللغة وفي كتب التفسير التي اعتنت بشرح الكلمات الغريبة وغير ذلك من الكتب المهمة في الباب , ثم ترجع إلى تفسير الجلالين فتجد ان هذين الإمام رحمهم الله رحمة واسعة قد بينوا لك هذه الكلمة بعبارة جلية جميلة دقيقة جدا في بيان دلالة الآية , وهذا الميزة في تفسير الجلالين ليست موجودة في كتب التفسير الأخرى المختصرة , وإنما تميز بها هذا التفسير العظيم .
ولكن يشكل على تفسير الجلالين أمور :
أولا : أن عبارته حينا تكون دقيقة غامضة على كثير من الناس , تحتاج هي إلى من يبينها ويوضحها .
ثانيا : أن الإمامين رحمه الله رحمة واسعة قد سلكا في بيان مسائل الأسماء والصفات في هذا التفسير العظيم قد سلكا مسلك أهل التأويل , فأولوا كثيرا في آيات الأسماء والصفات ولم يسلكوا طريقة السلف الصالح رضوان الله عليهم أجمعين من إجراء هذه الصفات والأسماء على ظاهرها من غير تأويل ولا تحريف ولا تمثيل ولا تكيف كما هي طريقة أهل السنة والجماعة في هذا الباب , فننتبه لهذا الأمر .
وسنختار من هذه الكتب ومن غيرها أيضا كتاب واحد وهو المسمى بتفسير الإمام السعدي رحمه الله , اخترناه ليكون هو المختصر الذي نرشحه لعموم المسلمين لكي يستفيدوا منه وينهلوا من علمه الذي سطره هذا الإمام رحمه الله رحمة واسعة , والكلام عن تفسير الإمام السعدي كلام قد يطول , ولكن ليس هو المراد هنا , ولكن المراد أن نذكر شيئا يسيرا من أسباب هذا الكتاب , فأختصر من مميزات هذا الكتاب ميزتين اثنتين :
الميزة الأولى : أن هذا الكتاب صنفه هذا الإمام وتكلم فيه في مسائل توحيد الربوبية والإلوهية والأسماء والصفات على طريقة السلف الصالح رضوان الله عليهم أجمعين , وعندما نذكر السلف الصالح فإننا نريد رسول الله صلى الله عليه وسلم , وصحابته الكرام والتابعين لهم بإحسان وتابع التابعين ومن سار على دربهم إلى يوم الدين .. هؤلاء لهم درب ولهم طريقة , ولهم منهج ولهم عقيدة فيما يتعلق بالتوحيد من أوله إلى آخره بأنواعه الثلاث , فهذا الكتاب سار على طريقة أولئك الركب رحمهم الله رحمه واسعة , فتكلم عن مسائل التوحيد بكلام بين سهل يسير تقبله فطرة كل مسلم من دون استثناء , كل مسلم لم تخالطه شيء من البدعة , ولم يخالطه شيء من الشبهات التي تبعده عن نور هذا الكتاب العظيم وعن هذه الآيات بسهولها ويسرها ووضوحها وبيانها في الكلام عن الله عز وجل وعن ربوبيته سبحانه وتعالى , وعن ملكه لهذا الكون العظيم , وعن أنه لا بأمره جل في علاه , وعن توحيده بمعنى أنه هو المقصود بالعبادة , وأنه لا يتوجه أحد مخلوق من المخلوقات كائنا من كان في عبادة من العبادات , بل إنما يصرف الخوف له سبحانه وتعالى , والرجاء إليه جل في علاه , وكذلك الرغبة والرهبة والتوكل , كل هذا وغيرها من عبادات القلوب إنما تتوجه إليه سبحانه وتعالى كما قال جل في علاه في أعظم سورة في كتابه { إياك نعبد وإياك نستعين } فكل عبادة له سبحانه وتعالى , وكل استعانة إنما به وعليه جل في علاه , فهذا الكتاب تميز بهذا الميزة وهي ميزة عظيمة , انه سار في هذا الشأن العظيم على طريقة أولئك الركب رحمهم الله , فهو لم يسلك درب التأويل , ونريد بالتأويل هنا : التحريف , تحريف آيات الأسماء والصفات عن ظاهرها , فيؤول صفة الرحمة إلى الإرادة , وصفة الإنعام إلى إرادة الخير وغير ذلك من أنواع التأويل , فإن هذا المنهج الذي اختاره جماعة ممن تكلموا في الأسماء والصفات منهج غير مرتضى أبدا , فإن المنهج المرتضى هو ما سار عليه أولئك الركب رحمهم الله رحمة واسعة , وهو مع انه ظاهر في حجبته بين في أدلته إلا أنه أيضا موافق لفطرة عموم المسلمين , تجد أن فطرة المسلم بسهولتها وظهورها ووضوحها وبياضها التي لم تشبها شائبة تجد انه يقبل هذا الأمر من دون عناء ومن دون مشقة , وإنما يتكدر معها من شابه شيء من البدعة , يتكدر معها من شابه شيء من الشبه الذي دخلت عليه في هذا الباب العظيم .. هذه هي الميزة الأولى ..
الميزة الثانية : وقد سبق الإشارة عليها وهو ان هذا الغمام جعل من تفسيره تربية وجعل منه منهجا في تأديب الناس بكتاب الله سبحانه وتعالى ..
لما تقرأ في هذا التفسير تجد عجبا , تجد أنه يريد من الناس أن يزكيهم .. أن يربيهم .. أن يهذبهم .. أن يؤدبهم .. أن يأخذ بأيديهم إلى أخلاق أهل الإسلام .. أن يأخذ بأيديهم إلى هدي أهل الإسلام .. أن يأخذ بأيديهم إلى خلق القرآن , ولذا تجد انه اعتنى عناية فائقة في هذا الباب , فمن أراد أن يتربى بالقرآن فإن هذا الكتاب من أفضل الوسائل الناجعة والناجحة والنافعة في تربيته أي تربية نفسه , وتربية من حلوه بهذا القرآن العظيم ..
سنأخذ نماذج على ذلك , ولكني قبل أن آخذ نموذجا واحدا من سورة واحدة من تفسير هذا الإمام رحمه الله أريد أن أبين لك أمر وهو فيما يتعلق : لما الحاجة إلى الاستعانة بكتاب من كتب التفسير ؟؟
سبب هذه الحاجة >> أنك عندما تقرا في كتاب الله عز وجل ستلحظ أن الكلمات الواردة في هذا الكتاب العظيم على نوعين :
الأول : هو عبارة عن كلمات واضحة ظاهرة جلية لا إشكال فيها يفهمها كل قارئ لكتاب الله عز وجل إذا كان يتكلم بلسان عربي مثل كلمة : الشجر – الشمس – القمر – الليل – النهار ... ونحو ذلك من الكلمات , هذه الكلمات لا تحتاج إلى بيان ولا إلى تفسير , ظاهرة واضحة ..
الثاني : ولكن هناك كلمات تحتاج إلى شيء من البيان والتوضيح , لأن ألسنة الناس في هذا الزمان قد تغيرت عن اللسان العربي الفصيح , عن اللسان العربي المبين , قد نقصت عربية الناس في كلامهم ودخلت عليهم العجمة , فحينا تمر الكلمة ولا يفهمون معناها وهذا كثير في كتاب الله عز وجل , لأن الناس ابتعدوا عن لغتهم كثيرا مثل : ( غسلين ) – ( الصمد ) – ( الفلق ) – ( من شر الوسواس الخناس ) ما الفرق بين الوسواس والخناس في لغة العرب , وهكذا تمر عليك عبارات تحتاج إليها أن ترجع إلى كتاب من كتب التفسير يبين لك ما معناها ..
مثلا : تقرأ في أوائل سورة النازعات ( والنازعات غرقا * والناشطات نشطا *و السابحات سبحا * فالسابقات سبقا * فالمدبرات أمرا ) ماذا تعني هذه الآيات ؟؟؟ ماذا يراد منها ؟ ماذا يقصد بها ؟ تحتاج إلى أحد يعينك من أهل العلم على فهم هذا الكلمات وهذه الجمل وهذا الآيات بعد إن أتصل بعضها إلى بعض , فعندئذ إذا مر بك شيء من هذا في كتاب الله عز وجل لا بد بأن تستعين بكتاب من كتب التفسير الميسرة المسهلة التي صنفت من أجلك ومن أجل عامة المسلمين .
نأخذ بعد ذلك مثالا من تفسير هذا الإمام العظيم , من هذا الكتاب العظيم , ونقرا من كلامه وأريد أن أبين لك بعض ما ذكره هو في هذا الكتاب , وأنا أقول لك هذا من أجل أن عندما تقرأ في هذا التفسير أيضا يا أخي المؤمن يا أخي المبارك لا تقرأ قراءة عجلة , هذه القراءة المستعجلة , القراءة السريعة الهذرمة حتى لكلام أهل العلم لا تنفعك شيئا ولا تفيدك شيئا .. قراءة الجرائد قراءة المجلات قراءة القصص ونحو هذه من القراءات هذه لا تصلح مع كتب أهل العلم أيا كانت , ففرق بين كتاب تقراه تبحث فيه عن خبر , أو صحيفة تقرأها تنظر فيها عن موضوع عامي دارج , وبين أن تقرأ كتب أهل العلم .. على رسلك , في كتب أهل العلم لابد أن تكون القراءة نوعا ما فيها شيء من الاهتمام بهذا الكتاب .. فيها شيء من التركيز .. فيها شيء من التأني .. فيها شيء من النظر .. فيها شيء من الانتباه لما تقرأ فنريد أن نقرا كلام هذا الإمام في تفسير سورة من السور , ثم نقف عند كلامه رحمه الله , ومن أين له هذا الكلام في تفسيره لكلام المنان , فنختار سورة من السور , ولعلها أن تكون سورة المطففين بناءا على طلب إحدى الأخوات , وأن نقرا كلام هذا الإمام فيما يتعلق بهذه السورة , ثم نعلق ثم نعلق تعليقا يسيرا أرجوا أن يكون نافعا ...
قال تعالى { وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ * الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُواْ عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ * وَإِذَا كَالُوهُمْ أَو وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ * أَلا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُم مَّبْعُوثُونَ * لِيَوْمٍ عَظِيمٍ * يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ }
قال الشيخ رحمه الله في تفسيره : [ويل" كلمة عذاب و عقاب للمطففين و فسر الله المطففين بأنهم (( الذين إذا اكتالوا على الناس)) أي أخذوا منهم وفاء لهم ((يستوفون)) ذلك كاملا من غير نقص ((و إذا كالوهم أو وزنوهم)) أي إذا أعطوا الناس حقهم الذي لهم عليهم بكيل أو وزن ((يخسرون)) أي ينقصوهم ذلك إما بمكيال أو ميزان ناقصين أو بعدم ملء المكيال و الميزان أو بغير ذلك، فهذا سرقة لأموال الناس و عدم إنصاف لهم منهم ]انتهى كلام الشيخ رحمه الله.
الآن الإمام رحمه الله يتكلم عن قول الله عز وجل(( وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ * الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُواْ عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ * وَإِذَا كَالُوهُمْ أَو وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ))، فالله سبحانه و تعالى يتوعد نوعا من الناس، هؤلاء الناس أسماهم الله عز وجل بالمطففين .
كلمة المطففين هنا تدل على مجمل التطفيف، فكل من كان مطففا فإنه داخل في هذا الوعيد ، ثم بين الله عز و جل صفة واحدة من صفات الذين يطففون في الموازين و يبخسون الناس حقوقهم ، و أريدك أن تتأمل أن هذه المسألة ليست راجعة إلى مسائل الاعتقاد بل إلى معاملة الناس بعضهم مع بعض ، و مع ذلك جاء الكلام عنها في سورة قصيرة من كتاب الله عز و جل ؛ ليبين لك أن هذا الأمر الذي يتعلق بالعدل بينك و بين الناس و بإيفاء الناس حقوقهم من المسائل المهمة في دين الله عز وجل، فإن مما يجب على المسلم الذي اعتقد دينا أن الله ربه و أن محمدا صلى الله عليه و سلم رسوله و أن هذا القرآن من عند الله عز و جل، أن يعتني عناية كاملة تامة بأن يعدل في تعامله مع الناس، فإذا أخذ حقه من الناس وافيا فكذلك يعطي الناس حقهم وافيا و لا يبخسهم شيئا من حقوقهم.
و أريدك و أنت تقرأ كلام الشيخ أن تلاحظ أن الشيخ يعمم في الكلام و قصده من هذا التعميم أن يبين لك أن أي تطفيف فهو داخل في الوعيد الذي جاء في الآيات، و أضرب لك مثلا معاصرا حتى تفقه كلام الشيخ، و سيأتي من كلامه ما يؤكد هذا ، و لكني سأذكر لك ما يفتح ذهنك إلى قصده رحمه الله: انظر مثلا إلى حال الناس الذين يبيعون بعض المعلبات أو بعض الأشياء التي تغلف بأنواع من البلاستيك أو الكرتون و نحو ذلك، هذه الأشياء يوضع عليها وزن من الأوزان، فعندما يقال هذه العلبة فيها مائتين و خمسين جراما أو لتر أو نصف لتر و نحو ذلك ، تصور أيها المبارك لو أن واحدا من هؤلاء و هو ينتج واحدا من هذه المنتجات التي تباع في الأسواق بالآلاف ؛ بل عشرات الآلاف و مئات الآلاف ، لو أنه بخس الناس في هذا الأمر في شيء يسير من حقوقهم، كأن يكتب على العلبة مائتين و خمسين جراما، ووزنها الحقيقي مثلا مائتين و خمسة و أربعين جراما، هي نسبة قليلة، و لكن عندما تنظر في أن هذا الوزن القليل قد عم الناس من أولهم لآخرهم ممن تعامل مع هذه المادة و ممن اشتراها و أعاد بيعها، من تأمل هذا و أن هذا المنتِج قد أصبح من المطففين و أن الوعيد عليه هنا جاء بقول الله عز و جل ((ويل للمطففين)). إذا استوعبت هذا المعنى بشكل كامل، عندئذ أيها المؤمن ستدرك أنك إن قرأت هذه السورة قراءة كاملة تامة ، قراءة فيها فهم و تدبر لن تفعل هذا الفعل و لو مرة واحدة في حياتك، و لن تظلم مسلما و لو أنك بعت له شيئا يسيرا ، فإن استطعت أن تبخسه من حقه لن تفعل لأن الأمر عظيم ، و لذا استمع لكلام هذا الإمام و هو يتكلم عن قول الله عز و جل ((ويل للمطففين )) و يبين لك عموم التطفيف في حال كثير من الناس في البيع و الشراء و في الأقوال و الأفعال و في غير ذلك .
قال: [و إذا كان هذا وعيدا على الذين يبخسون الناس بالمكيال و الميزان ، فالذي يأخذ أموالهم قهرا و سرقة أولى بهذا الوعيد من المطففين، و دلت الآية الكريمة على أن الإنسان كما يأخذ من الناس الذي له يجب أن يعطيهم كل ما لهم من الأموال و المعاملات؛ بل يدخل في عموم هذا الحجج و المقالات، فإنه كما أن المتناظرين قد جرت العادة أن كل واحد منهما يحرص على ما له من الحجج فيجب عليه أيضا أن يبين ما لخصمه من الحجة التي لا يعلمها و أن ينظر في أدلة خصمه كما ينظر في أدلته هو، و في هذا الموضع يعرف إنصاف الإنسان من تعصبه و اعتسافه، و تواضعه من كبره و عقله من سفهه]
انظر إلى كلامه رحمه الله، هذا الإمام ذهب مذهبا بعيدا في تفسيره لكلمة المطففين، فيقول لك إن صفة التطفيف هنا و إن كانت جاءت بدءا فيما يتعلق بالمكاييل و الموازين و نحو ذلك مما يشتري به الناس و يتبايعون، الأمر أعظم من هذا بكثير ، بل إنه يقول لك و هو يبين بعد نظره رحمه الله : بل إن التطفيف قد يكون بالحجج و المناظرات ، فأنت تحاج آخر قد يكون مسلما و قد يكون كافرا ، تناظره في مسألة من المسائل، فيقول إن كنت تعلم حجة لا يعلمها صاحبك و هي تنفع له فأخفيتها عنه و أنت تريد أن تبين له الحق الذي عندك تكون في هذه الحال من المطففين، و تكون متوعدا ب "ويل" التي جاءت في أول هذه السورة حتى في مسألة المناظرة و المجادلة، فما بالك بأشياء كثيرة ؟ فالتطفيف واسع جدا ، و الإمام أراد أن يضرب لك مثلا في هذا الباب، فالتطفيف حينا يكون بينك و بين زوجتك فأنت رجل البيت الآمر الناهي الذي له القوامة و هي ضعيفة مسكينة في البيت، فقد تخطئ أنت خطأ فتحمّلها إياه، و قد تخطئ هي خطأ كخطئك أنت قبل ذلك فخطؤك مغفور أما خطؤها هي فغير مغفور ؛ بل هو محفوظ عليها تعاتبها عليه ليلا و نهارا ، و قد تحاسبها و تشتمها و تتكلم في هذا الأمر كثيرا و تأخذ و تعطي، فهل هذا من العدل أم من التطفيف؟ و حتى مع أولادك و جيرانك و أصحابك و أحبابك، عامل الناس بما تحب أن يعاملوك به و إلا كنت من أهل التطفيف الذين قال الله عز و جل فيهم ((ويل للمطففين)).
أسأل الله عز و جل بأسمائه الحسنى و صفاته العلى أن يجعلنا و إياكم من أهل القرآن ،
و أن ينير قلوبنا بكتابه، و أن ينير أبصارنا بكتابه، و أن ينير أسماعنا بكتابه،
اللهم اجعل لنا من كتابك حظا يا ذا الجلال و الإكرام،
و صلى الله و سلم على نبينا محمد
التعديل الأخير تم بواسطة أم أسماء ; 26-11-08 الساعة 09:54 PM
|