(29) رد الإشكال بتفصيل علمى دقيق فالجواب :
أن ما ذكره علماء الحديث من التساهل فى أحاديث الترغيب والترهيب لاينتظم مع مسألتنا المفروضة .وبيانه :
أن العمل المتكلم فيه :
1- إما أن يكون منصوصا على أصله جملة وتفصيلا .
2- أو لايكون منصوصا لاجملة ولا تفصيلا .
3- أو يكون منصوصا عليه جملا لاتفصيلا .
فالأول :
لاإشكال في صحته كالصلوات المفروضات ؛ والنوافل المرتبة لأسباب وغيرها ,
وكالصيام المفروض , أو المندوب على الوجه المعروف ؛
إذا فعلت على الوجه الذى نص عليه من غير زيادة ولا نقصان : كصيام يوم عرفة , والوتر , وصلاة الكسوف ,
فالنص جاء فى هذه الأشياء على ماشرطوا ؛ فثبتت أحكامها من الفرض والسنة والاستحباب .
فإذا ورد فى مثلها أحاديث ترغب فيها؛ اوتحذر من ترك الفرض منها ,
وليست بالغة مبلغ الصحة , ولاهى أيضا من الضعف بحيث لايقبلها أحد ,
فلا بأس بذكرها والتحذير بها والترغيب , بعد ثبوت أصلها من طريق صحيح .
والثانى :
ظاهر أنه غير صحيح ؛ وهو عين البدعة ؛ لأنه لايرجع إلا لمجرد الرأى المبنى على الهوى,
وهوأبدع البدع وأفحشها كالرهبانية المنفية عن الإسلام , والخصاء لمن خشى العنت ,
والتعبد بالقيام فى الشمس , أو بالصمت من غير كلام أحد ,
فالترغيب فى مثل هذا لايصح ؛
إذ لايوجد فى الشرع , ولا أصل له يرغب فى مثله , أو يحذر من مخالفته .
والثالث :
ربما يتوهم أنه كالأول من جهه أنه إذا ثبت أصل عبادة فى الجملة فيسهل فى التفصيل نقله من طريق غير مشترط الصحة ؛
فمطلق التنفل بالصلاة مشروع , فإذا جاء ترغيب فى صلاة ليلة النصف من شعبان ؛فقد عضده أصل الترغيب فى صلاة النافلة ,
وكذلك إذا أصل صيام ثبت صيام السابع والعشرين من رجب , وما أشبه ذلك.!
وليس كما توهموا ؛ لأن الأصل إذا ثبت فى الجملة لايلزم إثباته فى التفصيل .
فإذا ثبت مطلق الصلاة لايلزم منه إثبات الظهر و العصر أو الوتر أو غيرها ؛ حتى ينص عليها على الخصوص ؛
وكذلك إذا ثبت مطلق الصيام لايلزم منه إثبات صوم رمضان أو عاشوراء أوشعبان أو غير ذلك ؛ حتى يثبت بالتفصيل بدليل صحيح .
ثم ينظر بعد ذلك فى أحاديث الترغيب والترهيب . بالنسبة إلى ذلك العمل الخاص الثابت بالدليل الصحيح . والدليل
على ذلك :
أن تفضيل يوم من الأيام , أو زمان من الأزمنة بعبادة ما يتضمن حكما شرعيا فيه على الخصوص
كما ثبت لعاشوراء مثلا , أو لعرفة , أو لشعبان -مزية على مطلق التنفل بالصيام-
فإنه ثبتت له مزية على الصيام فى مطلق الأيام ؛ فتلك المزية اقتضت مرتبة فى الأحكام أعلى من غيرها
بحيث لا تفهم من مطلق مشروعية الصلاة النافلة (1) ؛
لأن مطلق المشروعية يقتضى أن الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف فى الجملة ؛ وصيام عاشوراء يقتضى أنه يكفر السنة التى قبلها ؛
فهو أمر زائد على مطلق المشروعية ؛ ومساقة يفيد له مزية فى الرتبة ؛ وذلك راجع إلى الحكم .
فإذا ؛ هذا الترغيب الخاص يقتضى مرتبة فى نوع من المندوب خاصة ؛ فلابد من رجوع إثبات الحكم إلى الأحاديث الصحيحة بناء على قولهم :
"إن الأحكام لاتثبت إلا من طريق صحيح " ؛
والبدع المستدل عليها بغير الصحيح لابد فيها من الزيادة على المشروعات ؛ كالتقييد بزمان أو عدد أو كيفية ما ؛
فيلزم أن تكون أحكام تلك الزيادات ثابتة بغير الصحيح ؛ وهو أمر ناقض لما أسسه العلماء.
ولايقال :إنهم يريدون أحكام الوجوب والتحريم فقط .
لأننا نقول : هذا تحكم من غير دليل ؛ بل الأحكام خمسة ؛
فكما لا يثبت إلا بالصحيح [ فكذلك لايثبت غيره من الأحكام الخمسة كالمستحب إلا بالصحيح ] (2)
فإذا ثبت الحكم فاستسهل أن يثبت فى أحاديث الترغيب والترهيب ؛ ولا عليك .
------------------------------------
(1) كذا فى الأصل ؛والسياق يقتضى أن يقال : صيام النفل . فتأمل .
(2)سقط من الأصل ؛ والسياق يقتضيه .
نتابع معًا بإذن الله تعالى....