ما هو حكم الألغاز الفقهية؟
1- حكم استعمال الألغاز في الفقه خاصة والعلوم الشرعية عامة:
تأسيسا على ما ذكرناه في المبحث السابق بأن النبي صلى الله عليه وسلم كان أول من استخدم الألغاز الفقهية،
في حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:
"إن من الشجر شجرة لا يسقط ورقها، وإنها مثل المسلم، فحدثوني ما هي؟ قال: فوقع الناس في شجر البوادي،
ثم قال عبد الله: فوقع في نفسي أنها النخلة فاستحييت، ثم قالوا: حدثنا ما هي يا رسول الله؟ قال: "هي النخلة".
ووجه الاستدلال من الحديث: أن النبي صلى لله عليه وسلم استعمل اللغز مع أصحابه، فدل ذلك على جوازه،
لكن بشرط بيانه، كما فعل صلى الله عليه وسلم.
ومن فوائد الحديث التي ذكرها العيني: قوله: ".. الرابع: فيه جواز اللغز مع بيانه"، وقال ابن حجر العسقلاني:
"وفي هذا الحديث من الفوائد غير ما تقدم: امتحان العالم أذهان الطلبة بما يخفى، مع بيانه لهم إن لم يفهموه،
وكذلك قال الأحوذي.
كما أن الصحابة والتابعين استعملوه وأجابوا عن مسائل الألغاز الفقهية، وألف الفقهاء كتبا خاصة بالألغاز الفقهية وبعضهم خص بابا للألغاز الفقهية ضمن كتب الأشباه والنظائر، وكتب الفقه زاخرة بمسائل الألغاز، فدل كل ذلك على جواز استخدام هذه الوسيلة التعليمية في تدريب الطلاب وتمرنهم على مسائل الفقه وتقوية عقولهم.
هذا ولقد وجدنا بأن العلماء قد استخدموا طريقة الألغاز
في فنون الشريعة المختلفة، مثل: القراءات، والفرائض، والحساب، والمصطلح، وغيرها..
لابد من التنبيه - هاهنا - إلى أن المسائل التي تصاغ في شكل ألغاز فقهية، وإن كانت تحوي حكما شرعيا،
لكن ليست بحوثا فقهية أو اجتهادات تنبني عليها أحكام جديدة، وإنما هي في الحقيقة وسيلة لشحذ الأذهان وطريقة تعليمية وتدريبية وترفيهية مفيدة، والهدف منها تقوية العقل، وتدريب الطالب على حفظ مسائل الفقه وفهمها، وسرعة البديهة في الجواب عما خفي منها..
فهو مجرد تحوير للحكم الشرعي الثابت أصلا بأدلته الشرعية، وإخفائه كنوع من السؤال والاختبار، للإثارة والتعليم .
ما هو شرط العمل بها ؟؟؟
يشترط لجواز العمل بالألغاز الفقهية ما يلي:
1- أن تكون الألغاز الفقهية صادرة ممن هو متمكن من العلوم الشرعية، القادر على شرحها وبيانها.
2- أن تكون الألغاز الفقهية في المسائل الواقعية أما الوسائل التي يستحيل وقوعها عادة، أو يندر جدا، فقد كره جمع من السلف تكلف مثلها.
3- أن لا يعمل بها أمام العامة، فقد أفتى العلماء بعدم جواز إيراد الإشكالات والمسائل القوية بحضرة العوام؛ لأنه قد يكون ذلك سبباً إلى إضلالهم وتشكيكهم.
4- عدم المبالغة في التعمية والإلغاز بحيث لا يترك للملغز بابا يدخل منه، بل كما قربه كان أوقع في نفس سامعه وكانت الفائدة أجدى.
5- استخدام قرائن الأحوال: فيستحب أن يقرن الملغز سؤاله ببعض الوسائل المساعدة في الحل -
ففي رواية أخرى لحديث ابن عمر السابق قال رضي الله عنه: بينا نحن جلوس عند النبي صلى الله عليه وسلم
إذ أتى بجمار فقال: "إن من الشجر لما بركته كبركة المسلم.."،
وفي صحيح أبي عوانة من طريق مجاهد عن ابن عمر وجه ذلك قال: فظننت أنها النخلة من أجل الجمار الذي أتى به.
قال الأحوذي: "وفيه إشارة إلى أن الملغز له ينبغي أن يتفطن لقرائن الأحوال الواقعة عند السؤال.
6- بيان حل اللغز، كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم مع الصحابة، فبعد أن سألهم وعجزوا عن الجواب قال: "هي النخلة".
7- أن يكون القصد من وراء الألغاز الفقهية التحريض على الفهم، وطلبا للعلم، وليس من أجل التفاخر والتباهي، أو لتعجيز طلاب العلم وتعنيتهم
.
:::::: أهمية علم الألغاز الفقهية :::
.مما لا شك فيه أن فن الألغاز عمل إبداعي راق، وموصل بنائي جيد لنوع من الخبرة القائمة على الإدراك الدقيق للعلاقات الخفية التي تقوم عليها معرفة حقيقة الأشياء، الأمر الذي يجعل إدراك الأشياء من حولنا إدراكا أفضل، ويعمق وعينا بأنفسنا وبالعالم حولنا في محاولات دؤوبة، ومجالات متعددة عبر العصور، لفك طلاسم الكون وألغاز الحياة ومعضلات الوجود.
وإن الألغاز وسيلة لشحذ الأذهان وتحلية للتنويع؛
لئلا يمل الطالب الكسلان.
وهي طريقة ترفيهية وبيداغوذجية مفيدة لاختبار ما عند أصحابها من معلومات:
فهي طريقة تعليمية تربوية ناجحة، تحقق التعليم عن طريق الترفيه والتسلية، وهذا ما تميل إليه النظريات التربوية الحديثة.
- ومن أهميتها أيضا:
أن الفقهاء والأدباء والشعراء وغيرهم يحققون بهذه الألغاز الغايات العلمية والتربوية،
وينوعون بها طريقة عرض المسائل؛ حتى تكون العقول مقبلة عليها، مهتمة- بها،
مع درء السآمة والملل الذين يتعبان النفس.
وهذا النوع من فنون الفقه مما يقوى العقل ويزيده دربة، ويكسب صاحبه خبرة عند التمرن بها ومحاولة الكشف عن مسائلها.
يقول أبو بكر الجراعي في مقدمة كتابه حليه الطراز:
".. فإن ألغاز المسائل برمزها من السائل مما تثير النفوس، وتحرك البواعث وتنشط الهمم على استحضار
أحكام الحوادث".
كما يجب أن نعلم بأن صوغ الألغاز تتطلب ذكاء وقادا،
وبديهة صافية وقلما فصيحا ومعرفة دقيقة،
وفي ميدان الفقه يضاف إلى ذلك ضرورة استيعاب مسائله، وخاصة ما كان نادرا منها.
فالألغاز الفقهية تدفع صاحبها إلى التعمق في الفقه،
وإلى استيعاب جميع مسائله؛ للقدرة على صوغها وصناعتها، وإلى حلها والرد على مسائلها..
ومن أهمية الألغاز:
أنها تنويع لأساليب بحث الفروع الفقهية، كما أنها تفتح مجال المناظرة والمحاضرة
وتشكل تحديا مباشرا - أو غير مباشر - للناظر فيها، والشروع في حلها يعد استجابة حيوية لهذا التحدي،
وهي اختبار لمدى تركيز المعلومات في العقول، وحسن توظيفها، ولدعم العويص منها في الأذهان.
- ولقد أدرك الأقدمون - منذ وقت مبكر - الوظيفة التربوية والتعليمية للألغاز،
ومدى ما تحظى به من شعبية بين الجماهير، فاستعاروها قالبا وإطارا تربويا وتعليميا جذابا للكثير من علومهم:
كاللغة، والنحو، والفقه، وغيرها.
- إن القيمة الحقيقية للألغاز - والتي تعد من أقدم وأعرق الأشكال الأدبية التقليدية التي عرفها الإنسان - تكمن - في رأي بعض الباحثين -
في كونها من أقدم المحاولات التي توسلت بها المجتمعات القديمة والثقافات البدائية للحصول عل المعرفة
وتبادل الخبرة، ونقل التجربة والتدريب عل الرياضة الذهنية لصقل العقل البشري.
- كما أن الاهتمام بالألغاز الفقهية - على مستوى دراستها والاهتمام بها - يعد خطوة مهمة وأساسية في تعميق البحث الفقهي،
وتطوير منهجه في عرض المادة الفقهية،
والعمل على النهوض بالفقه الإسلامي.
وإن النهضة الفقهية الحديثة اليوم تتطلب العكوف على تراثنا الفقهي على أساس استخلاص هذه الكنوز،
وتحقيق المخطوط منها، وجعله بين أيدي طلاب العلم، للاستفادة منه وتطبيقه.
.