نسائم الخيرات، وبشائر البركات
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادةً تُخرج صاحبها من الظلمات إلى النور، وتُنقذه من عبادة المخلوقات، والتعلِّق بالأموات والقبور، وتزحزحه عن النار، وتدخله الجنة يوم البعث والنشور.
وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، هدى الله ببركة دعوته، وبما جاء به من البينات والهدى هدايةً جلَّت عن وصف الواصفين، وفاقت معرفة العارِفين، حتى حصل لأمَّته عمومًا، ولأهل العلم منهم خصوصًا من العلم النافع، والعمل الصالح، والأخلاق العظيمة، والسَُِّنن([1]) المستقيمة، ما لم يحصل لأمة من الأمم.
فصلى الله عليه صلاة دائمة باقية عدد ما خلق ربنا وذرى، وعلى آله وصحبه نجوم الهدى، وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين، أما بعد:
نسائم الخيرات، وبشائر البركات.
فهذي نسائم الخيرات قد انتشرت، وبشائر البركات قد أقبلت، ومواسم العطايا والمنح قد أظلت.
قد دخل الشهر الذي تَشبَعُ فيه الأرواح، وإن جاعت البُطون، وتقوى فيه القلوب وإن ضعُفت الأجسام، وتسمو فيه النفوس وتعلو الهمم، وتهبِط اللذائذ، وتموت الشهوات.
قد جاء شهرُ المنافسةِ في الخيرات، والتسابق إلى الأعمالِ الصالحات، والتقربِ من رب الأرض والسموات، يشتري فيه المؤمنون أنفس ما يجدون، ويختارون لأنفسهم أرفع الأعمال وأزكاها، ويبادرون في مرضاة ربهم، ويبيعون الدنيا وحظوظَها بالفوزِ برحمة ربهم.
أُثامِنُ بالنفـسِ النفيـسةِ ربَّهـا وليس لهـا مِن الخلْقِ كُلِّهم ثمنُ
بها تُدرَكُ الأُخرى؛ فإن أنا بعتُهُا بشيءٍ من الـدُّنيا فذاكَ هو الغبنُ
لئن ذهَبَتْ نفسي بدُنْيا أصبْتُهُـا لقد ذَهبَتْ نفسي، وقدَ ذهَبَ الثمنُ
هذا الشهر الذي تُفتح فيه أبواب الجنان، وتُغلق أبواب النيران، وتُصفَّدُ الشياطين([2])، ترغيبًا لفعل الخيرات، وإعانةً للنفس على امتثال الأوامر، والمبادرة إلى فعل الطاعات، فيا باغي الخير أقبل، ويا باغي الشر أقصِر.
هذا شهر الصوم، الذي يُقسم الحبيبُ صلى الله عليه وسلم على محبةِ ربه لآثاره فيقول: ((والذي نفسُ محمدٍ بيده لَخُلُوف فمِ الصائم أطيب عند الله من ريح المسك))([3]).
هذه الرائحة المنبعثة من الفم، عندما تخلو المعدةُ من الأكل، ينفُرُ الناس منها، ولا يُحِبُّون رائحتها، ولكنها عند الملكِ الكريم، البرِّ الرحيم أطيبُ من أطيب الطيب؛ لأنها ناشئةٌ عن طاعته، واتباع مرضاته.
والله إن الإنسان ليحتقر نفسه، أمام هذا الكرم والعطاء، وفتْحِ أبواب الخير، وغلْقِ أبواب الشر.
أنا العبدُ المسكين، الحقيرُ الضعيف، يحب الله أثر العبادة مني، حتى تكون أطيب من ريح المسك، وهو الذي فرضها علي، ويسَّرها لي، ثم يثيبني عليها أعظم الجزاء وأجزله؟؟!!
نعم يا أخي؛ إن الله يحب من عبده أن يتقرب إليه بما افترض عليه، وقد جاء في حديث الأولياء، عن أبي هريرة قال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ((إِنَّ اللَّهَ قَالَ: مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالْحَرْبِ، وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ، وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ، فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ، وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا، وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا، وَإِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ، وَلَئِنْ اسْتَعَاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ، وَمَا تَرَدَّدْتُ عَنْ شَيْءٍ أَنَا فَاعِلُهُ تَرَدُّدِي عَنْ نَفْسِ الْمُؤْمِنِ، يَكْرَهُ الْمَوْتَ وَأَنَا أَكْرَهُ مَسَاءَتَهُ))([4]).
مسكينٌ والله! هذا الذي يظنُّ أنَّ أهلَ الدنيا بما يقيمونَ في الأعوام من مهرجاناتٍ ومسابقاتٍ واحتفالاتٍ، ومتاجرات ومرابحات، يُعطون أكثرَ وأفضلَ مما يمنَحُ اللهُ.
هل يستوي عطاءُ من لا تنفدُ خزائنُهُ ولا تفنى، بمن قال خالقُهُ فيه {قلْ لو أنتُم تملِكُونَ خزائنَ رحمةِ ربي إذاً لأمسكتُم خشيةَ الإنفاقِ وكانَ الإنسانُ قَتُوراً}، ثم هو معَ ذلك تنفدُ خزائنُهُ وتبلى؟!
كأني بذلكَ المحرومِ؛ الذي طوتُه الأيامُ والليالي، وأسلمتْهُ إلى أجلِهِ المحتومِ، وقد رأى المتاجِرِين قد وزِّعتْ بينهم أرباحُهُم، ورُفِعتْ درجاتُهُم، يصيح بأعلى صوته: رب ارجعون؛ لعلِّي أعملُ صالحاً فيما تركت.
فيرتدُّ عليه الجوابُ أشدَّ مِن وقْعِ العذابِ: كلا؛ إنها كلمة هو قائلُهُا، ومن ورائهم برزخٌ إلى يومِ يُبعثون.
ليس للميتِ في قبرِه فِطْرٌ ولا أَضْحى ولا عَشْرُ
ناءٍ عن الأهلِ على قُربِهِ كذاكَ مَن مسْكَنُهُ القبرُ
([1]) قال في القاموس: سنن الطريق: مثلثة، وبضمتين: نهجه وجهته.
([2]) كما ثبت في الحديث المتفق عليه.
([3]) متفق عليه من حديث أبي هريرة.
([4]) رواه البخاري.