الحديث الخامس والثلاثون:
عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((كل عمل ابن آدم يضاعف، الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، قال الله تعالى: إلا الصوم فإنه لي، وأنا أجزي به، يدع شهوته وطعامه من أجلي، للصائم فرحتان: فرحة عند فطره، وفرحة عند لقاء ربه ولَخَلُوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك، والصوم جُنَّة، وإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب، فإن سابَّه أحد أو قاتله، فليقل: إني امرؤ صائم)) [متفق عليه].
في هذا الحديث وهو مما يتعلق بالصيام بعد أن ذكر المؤلف بعض الأحاديث المتعلقة بالصلاة والزكاة على الأبواب ماشي -رحمه الله- ينتقي من كل باب أجمع حديث فيه، يقول النبي -عليه الصلاة والسلام-: ((كل عمل ابن آدم يضاعف، الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف)) الحسنة مضاعفة، والسيئات أفراد لا تضاعف، ولذا يقول أهل العلم: خاب وخسر من فاقت آحاده عشراته، الحسنة بعشر أمثالها، هذا أقل تقدير، أقل المضاعفات إلى سبعمائة ضعف، {كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّئَةُ حَبَّةٍ} [(261) سورة البقرة] الحبة صارت سبعمائة حبة إلى سبعمائة ضعف، إلى أضعافٍ كثيرة، وهذه المضاعفات مردها إلى قوة الإخلاص لله -جل وعلا-، وحسن العمل فإذا كان العمل أدخل في هذين البابين الإخلاص والإصابة زادت المضاعفات؛ لكن إذا كانت صورته صورة العمل الشرعي وحصل ما حصل تنقص هذه المضاعفات، المقصود أن الله -جل وعلا- فضله لا يحد، سبعمائة ضعف، يتصور الإنسان أنه يقرأ القرآن في مدةٍ وجيزة ويحصل على ثلاثة ملايين حسنة، وهذا أقل تقدير، الحرف بعشر حسنات، فكيف إذا ضوعف الأجر إلى سبعمائة ضعف؟ من يقدر هذا القدر؟! وكم يختم الموفق في عمره، وإذا ضربت هذه المضاعفات بعدد ما قرأه المسلم من آي القرآن من الأمور السهلة الميسرة، يعني بالإمكان يجعل له ورد يومي بحيث يقرأ القرآن بالراحة، ويحصل على هذه الأجور ولو لم يقرأ لذهب الوقت في القيل والقال، إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة، وذكرنا حديث المسند، وفيه كلام ضعيف عند أهل العلم؛ لكن هو لائق بفضل الله -جل وعلا- إلى ألفي ألف ضعف، مليون ضعف، هل يخطر ببال مسلم أنه من أين جاب هذه الأعداد؟ من فضل الله -جل وعلا- وفضله لا يحد، يعني ما هو ينفق من حساب مهما طالت أرقامه تنتهي، لو اجتمع الناس أو اجتمع الخلق كلهم إنسهم وجنهم من أول ما خلق الله الخليقة إلى أن تقوم الساعة فسألوا الله -جل وعلا- فأعطى كل واحدٍ مسألته ما نقص ذلك من ملكه شيئاً، وتعرفون حديث: أدنى أهل الجنة منزلة، وليس فيهم دنيء، أدناهم منزلة هو آخر من يخرج من النار يقال له: تمنَ، يكفيك ملك أعظم ملك في الدنيا؟ قال: يكفي، لك وعشرة أمثاله، هذا أقلهم منزلة، فكيف بمتوسطيهم؟! وكيف بأعلاهم؟! فما عند الله -جل وعلا- لا ينفد، قال الله تعالى: ((إلا الصوم فإنه لي، وأنا أجزي به)) والصوم يشمل صوم الفرض وصوم النفل هو لله -جل وعلا-، وإضافته إلى الله -جل وعلا- إضافة تشريف، ومزيد عناية وإلا فكل العبادات لله -جل وعلا-، ((إلا الصوم فإنه لي)) لأنه لا يمكن أن يصرف منه شيء، أمر غيبي لا يطلع عليه أحد، فلا يمكن أن يدخله الرياء إلا إذا كان الإنسان ما يحتمل الخير وإلا فبالإمكان أن يصوم الإنسان ولا يدرى به، ((إلا الصوم فإنه لي، وأنا أجزي به)) يعني جزاء لا يحد، ما يدخل في التضعيف المذكور سبعمائة ضعف، ((من صام يوماً في سبيل الله باعد الله وجهه عن النار سبعين خريفاً)) سبعين سنة، يوم واحد، وفي سبيل الله، منهم من يرى أنه في الجهاد، ومنهم من يقول: أنه خالصاً لوجه الله -جل وعلا-.
((يدع شهوته وطعامه من أجلي)) من أجلي، الباعث على هذا الصيام طلب ما عند الله -جل وعلا-، قد يقول قائل: زيد من الناس أصيب بمرض، فأوصاه الأطباء بالحمية، وقال: بدلاً من الحمية أصوم، هل هذا ترك شهوته وطعامه من أجل الله؟ له أجر وإلا ما له أجر؟ له أجر؛ لأنه ما عدل عن الحمية التي لا توافق الشرع إلى ما يوافق ما أمر به الشارع إلا طلباً لثواب الله -جل وعلا- فله أجره؛ لكن يبقى أن ثوابه ما هو مثل ثواب الذي من أجل الله -جل وعلا- ترك الطعام والشراب، وقل مثل هذا الكلام فيمن أمره الأطباء بكثرة المشي فقال: بدلاً من أن أجوب الأسواق طولاً وعرضاً أطوف، يطوف، ويسأل بعض الناس السعي فيه ثواب وإلا ما فيه ثواب؟ رياضة، يبي يمشي هو، يقول: لا السعي ما فيه ثواب إلا إذا كان في نسك حج أو عمرة، أما الطواف ففيه الثواب مطلقاً، وفيه النصوص المعروفة ((من طاف أسبوعاً يحصيه كان له بكل خطوةٍ حسنة)) المقصود أن فيه ثواب، فيقول: بدلاً من أن أجوب الأسواق رايح وجاي، والناس وش بك؟ وأين تبي؟ وين أنت رايح؟ وواحد اللي يوقفه يبي يشيله لا، بدون إحراج، باروح إلى المطاف وما شاء الله آخذ لي أسبوع أسبوعين ثلاثة، نقول: نعم، عدولك عن المشي المباح إلى المشي المستحب فيه ثواب؛ لكن يبقى أن الباعث يختلف، فليس ثوابه ثواب من عمل العبادة خالصاً لوجه الله تعالى.
((يدع شهوته وطعامه من أجلي)) شهوته يدخل فيها الجماع وما دونه مما يفطر، مما اشتمل على الشهوة، وبهذا يستدل من يقول: أن مجرد خروج المذي ما يفطر؛ لأنه ليس فيه شهوة، على كل حال الجماع مفطر إجماعاً، وفيه كفارة، والطعام أيضاً مفطر إلا إذا كان ناسياً فإنما أطعمه الله وسقاه، من أجل الله -جل وعلا- وطلباً في رضاه.
((للصائم فرحتان)) وكل صائم يدرك هذا بنفسه، ((للصائم فرحتان: فرحة عند فطرة)) ولولا هذا النص، فرحة عند فطرة، يعني الإنسان جبلة خلقة إذا قدم الفطور ينتظر أذان المغرب، ويبدأ بالفطور يفرح، هذا موجود عند الناس كلهم، ولولا مثل هذا النص لقلنا: أن هذا الفرح فرح بالفراغ من العبادة، وهذا ما هو طيب الشعور بهذا، لكنه ما دام ثبت في الشرع أن الصائم له أن يفرح فليوجه هذا الفرح بأنه فرح باستكمال هذه العبادة، الحمد لله أنه أكمل هذا اليوم من غير أن يعرض له شيء يضطره إلى الفطر، ومباشرة ما امتن الله به -جل وعلا- عليه وأباحه له، ((للصائم فرحتان: فرحة عند فطرة)) إذا افترضنا أن هناك اثنين، كلاهما صائم، واحد ينتظر كل شيء ينظر للساعة متى يؤذن؟ والثاني: غافل عن هذا الأمر يذكر الله ويتلو القرآن، والحمد لله هو في عبادة، هل نقول: أن الذي يفرح بقرب الفطور أفضل من الذي ينشغل عن هذا الأمر بعبادةٍ أخرى، أو على الأقل ما يخطر على باله يعني يستوي عنده أنه يؤذن أو ما يؤذن، يستوي عنده الأذان وعدمه، كله واحد، لو استمر النهار ساعتين ثلاث ما... في الحديث يقول: ((للصائم فرحتان)) له ذلك؛ لكن هل معنى هذا أنه يؤجر على هذه الفرحة أو لا يؤجر؟ بحسب ما يقر في قلبه من هذه الفرحة، إن كان متضايق من الصيام لا شك أن هذا لا يؤجر عليه البتة، هذا خلل؛ لأن هذه عبادة، نعم قد يحتاج إلى الأكل في
شدة أيام الحر فمثل هذا لا يؤاخذ، أما من لم يخطر الفطور والفطر على باله هذا لا شك أنه منسجم مع هذه العبادة وانشغل وقته بما يرضي الله -جل وعلا- لا شك أنه أكمل، وأما الفرحة هذه فرحة جبلية، الفرحة الثانية عند لقاء ربه، عند لقاء ربه إذا رأى ما وعد الله به عباده الصائمين، وفي الجنة باب يقال له: الريان لا يدخل منه إلا الصائمون، لا شك أن مثل هذا يبعث على الفرح، ويحث على العمل.
((ولخلوف فم الصائم)) الخلوف الرائحة التي هي في عرف الناس كريهة، التي سببها فراغ المعدة من الطعام إذا فرغت المعدة من الطعام انبعث هذه الروائح الكريهة، وهذا يسمى خلوف، ((ولخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك)) لماذا؟ لأنها رائحة نشأت عن عبادة، أثر عبادة، ولذا الغبار في سبيل الله أمره عظيم، الدم دم الشهيد شأنه عظيم، وهو دم وهذه الرائحة الكريهة أيضاً أطيب عند الله من ريح المسك، ((والصوم جنة)) جنة وقاية يجتن بها الصائم، ويتقي بها، الصوم جنة، والتقوى من أعظم فوائد الصيام، كما في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [(183) سورة البقرة] هذه العلة والحكم من مشروعية الصيام {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} فهو جنة يقي العبد مما يكره في الدنيا والآخرة.
((وإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يسخب)) الرفث: الكلام البذيء سواء كان منه ما يتعلق بالنساء وهو الأقرب أو غيره، ولا يصخب الكلام الذي فيه صخب ولغط ويؤدي إلى شجارٍ ونزاع كل هذا ممنوع منه المسلم مطلقاً، وهو يتأكد منع منه في حال الصيام، فلا رفث ولا فسوق ولا عصيان ولا صخب في حياة المسلم كلها، ومن باب أولى إذا كان متلبساً بعبادة كما هنا، فلا يرفث ولا يصخب، وفي الحج: ((من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه)) ((فإن سابه أحد أو قاتله)) اعتدى عليه بلسانه أو بيده ضاربه أو بسلاحه ((فليقل: إني امرؤ صائم)) يخبره بذلك ليكف وليخبره أنه ليس بعاجز عن الرد عليه، وإنما يحجزه هذه العبادة التي تلبس بها، ((فليقل: إني امرؤ صائم)) من أهل العلم من يرى أن مثل هذا الكلام يقال في صوم الفرض؛ لأن الناس كلهم صائمون والفرض لا يدخله رياء، مطلوب من الناس كلهم، أما في النفل لا ينبغي أن يقول: إني امرؤ صائم؛ لئلا يخبر بسريرته، ويكشف حقيقة أمره، وإن كان النص عام، يعني إذا سابه أحد أو قاتله يخبره بأنه ما حجزه وما منعه عن الاقتضاء منه والاقتصاص إلا الصيام، وإلا ليس بعاجز.