بسم الله الرحمن الرحيم
قلوب الصائمين
فضيلة الشيخ سعد ابن ناصر الشثري
الزهد
الحمد لله الذي جعل الدنيا مزرعة الآخرة ، نحمده سبحانه ونشكره ، وأشهد أن لا إله إلا الله ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم تسليما كثيرا
أما بعـــــــــــــد ...
فإن من عبادات القلوب التي يتقرب بها المؤمنون إلى ربهم -جل وعلا - عبادة الزهد ..
والزهد / عدم رغبة القلب فيما لا ينفع في الدار الآخرة ، بينما الورع / ترك ما يضر في الآخرة .
قال أبو واقد الليثي - رحمه الله تعالى -" تابعنا الأعمال أيها أفضل ، فلم نجد شيئا أعون على طلب الآخرة من الزهد في الدنيا "
وقال الحسن البصري :" ليس الزهد في الدنيا بتحريم الحلال ، وإضاعة المال ، ولكن الزهد أن تكون بما في يد الله أوثق منك بما في يدك ، وأن تكون في ثواب المصيبة إذا أصبت بها أرغب بك منها فيما لو لم تصبك "
الزهد هو النظر في الدنيا بعين الزوال، بحيث تصغر الدنيا في عينيك فيسهل عليك الإعراض عنها .
الزهد سفر القلب من وطن الدنيا ، وأخذه في منازل الآخرة .
ومتعلق الزهد ستة أشياء لا يستحق العبد اسم الزهد حتى يزهد فيها :-
* يزهد العبد في المال ، ويعلم أن المال ليس مقصودا لذاته ، وإنما هو وسيلة لغيره .
* يزهد في الصور وفي الرياسة وفي الناس وفي النفس و كل ما دون الله ، وليس المراد بالزهد في الدنيا أن يرفض العبد الدنيا بكمالها ، وأن لا يتملكها ، فقد كان سليمان وداوود -عليهما السلام - من أزهد أهل زمانهما
ومع ذلك كان لهما من المال والملك والنساء مالهما .
وكان النبي صلى الله عليه وسلم من أزهد البشر على الإطلاق ، ومع ذلك كان له تسع نسوة .
* العلم مع الزهد والعبادة يلطف القلب ويرققه ، ويزيل عنه ما فيه من الجفاء والغلظة .
* يشمل الزهد ، الزهد في الحرام وهو فرض عين بحيث يعرض المرء عن المعاصي والذنوب .
* ويشمل الزهد ، الزهد في الشبهات وله مراتب عديدة يختلف حكمها .
* ويشمل الزهد ، الزهد في الفضول بترك ما لا يعني من الأقوال ، وأعمال الجوارح ، وما لا ينفع في الآخـرة .
* ويشمل الزهد ، الزهد في النيات والإرادات بأن يقصد المرء بعمله كله وجه الله والدار الآخرة .
قال سفيان الثوري : " الزهد في الدنيا قصر الأمل، وليس بأكل الغليظ ، ولبس العباءة "
وقد أمر الله بالزهد في مواطن كثيرة من كتابه :
كما قال سبحانه : { وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِّنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى }[طه : 131]
وقال تعالى :{وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِّمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ} [القصص : 80]
وقال سبحانه :{ اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ العَزِيزُ * مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِن نَّصِيبٍ }[الشورى : 19،20]
وقال: { مَّن كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا فَعِندَ اللّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ } [النساء : 134].
وفي الســــــــــنن :-
قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " من كانت الدنيا همه ، فرق الله عليه أمره ، وجعل فقره بين عينيه ، ولن يأتيه من الدنيا إلا ما كتب له ، ومن كانت الآخرة نيته جمع الله أمره ، وجعل غناه في قلبه، وأتته الدنيا وهي راغمة "
وفي الصحيح : " إن المكثرين هم المقلون يوم القيامة ، إلا من أعطاه الله خيرا ، فنفح فيه يمينه وشماله وبين يديه وخلفه ، وعمل فيه خيرا كثيرا "
** ويعين على الزهد أن يعرف المرء أن الدنيا زائلة عما قريب ، وأنها لن تبقى ،ولذلك حذرنا الله من الاغترار بها، وفي الحديث " كنت نهيتكم عن زيارة القبور، فزوروها فإنها تزهد في الدنيا ، وتذكر الآخـرة "
** ومما يعين على الزهد أن يكون المرء صادق اليقين ، تام الإيمان بالدار الآخرة ، المحتوية على النعيم المقيم ، والشقاء الدائـم ، مما يجعل المرء يزهد فيما يقلل مشيته إلى جنة الخلد .
وفي الحديث الصحيح " يؤتى بأنعم أهل الدنيا من أهل النار يوم القيامة فيصبغ في النار صبغة ، ثم يقال : يا ابن آدم هل رأيت خيرا قط ؟ هل مر بك نعيم قط ؟ فيقول : لا والله يا ربي ، ويؤتى بأشد الناس بؤسا في الدنيا
من أهل الجنة ، فيصبغ صبغة في الجنة ، فيقول الله له :يا ابن آدم هل رأيت بؤسا قط ؟ هل مر بك شدة قط ؟ فيقول : لا والله يا ربي ما مر بي بؤس قط ، ولا رأيت شدة قط .
** ومما يعين على الزهد أيضا أن يعرف العبد أن الزهد لا يمنع من نعم الله في الدنيا ، بل زهده فيها يجعل الدنيا تأتيه وهي راغمة .
فالزهد لا يمنع من استعمال الدنيا في مراض الله ، والزهد لا يمنع من وصول نعم الله إلى عبد الله ، بل زهده في الدنيا يكون من أسباب تنعم الله على العبد
ولا يمنع الزهد من وصول ما كتبه الله إلى العبد ، كما أن حرص العبد على الدنيا لا يجلب له من الدنيا ما لم يقدر له فيها ..
ولذلك علينا أن نكون من الزاهدين ، بحيث نعمل الأسباب تقربا لله لا محبة في الدنيا ، ونكتسب رغبة في أن نغني أنفسنا عن خلق الله ، لا محبة للفخر والرياء والرفعة في الدنيا .
** ومما يعين على الزهد أن يعرف العبد حقيقة الدنيا ، وأن يتلفت إلى ما حوله من النعم ، وأنها عما قريب منتقلة عنه ، فكم من صاحب مال كثير زال عنه ماله ، وكم من صاحب شركات عظيمة زالت عنه شركاته
قال تعالى : {مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِندَ اللّهِ بَاقٍ} [النحل : 96].
* ويعين على الزهد أن يقارن العبد بين الدنيا والآخرة ، فإن نعيم الآخرة دائم ، ونعيم الدنيا زائل ، ونعيم الآخرة صاف غير مكدر ، ونعيم الدنيا مكدر بالمصائب ، قال تعالى : {قُلْ مَتَاعُ الدَّنْيَا قَلِيلٌ وَالآخِرَةُ خَيْرٌ لِّمَنِ اتَّقَى} [النساء : 77].
وفي سنن ابن ماجة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :" ازهد في الدنيا يحبك الله ، وازهد فيما أيدي الناس يحبك الناس ".
والزهد فيما ينفع في الدار الآخرة ليس من الدين في شيء ، فإن بعض الناس يعتقد أن ترك نعم الله وتحريم المباحات من الزهد ، وهذا فهم خاطئ ، مغاير لدين الإسلام ليس من الدين في شئ ، بل صاحبه قد اعتدى على شرع الله بتحريم ما أحل الله ، فيكون داخلا في قول الله { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُحَرِّمُواْ طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللّهُ لَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [المائدة : 87]
قال محمد بن كعب القرضي :" إذا أراد الله بعبد خيرا أزهده في الدنيا ، وفقهه في الدين ، وبصره عيوبه ، ومن أوتيهن فقد أوتي خيرا كثيرا في الدنيا والآخـرة "
قال الله تعالى : {وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُم بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِندَنَا زُلْفَى إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَأُوْلَئِكَ لَهُمْ جَزَاء الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ} [سبأ : 37]
فمن كانت دنياه معينة على طاعة الله ، سببا من أسباب الإقدام على أنواع القربات ، فإنه حينئذ يكون من الزاهدين ، لأنه لم يقصد الدنيا وإنما قصد بما اكتسبه الآخرة ، أما من كان مراده الدنيا ليفاخر الناس ، وليباهي بما عنده
فإنه حينئذ ليس من الزهد في شئ ...
أسأل الله - جلا وعلا - أن يجعلنا وإياكم من الزاهدين ..
اللهم يا حي يا قيوم عرفنا بحقيقة الدنيــا ، واجعلنا يا حي يا قيوم ممن استعمل الدنيا لتكون سلما لرفعة الدرجة في الآخرة .
هذا والله أعلم وصلى الله على نبيه محمد وأصحابه وأتباعه وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الديـــــــن ..