ثانياً : قسوة القلوب وقلة الخوف من علام الغيوب.
قال تعالى : ] أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ ءَامَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلاَ يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ [ [ الحديد : 16 ].
ألم يأن لقلوب من وَحّدوُا الله وآمنوا برسوله صلى الله عليه وسلم أن تخضع لعظمة الله تبارك وتعالى ، وأن تذعن لآمره ، وأن تجتنب نهيه ، وأن تقف عند حدوده تبارك وتعالى .
إخوتى الكرام : إن قلة الخوف من الله جل وعلا ثمرةٌ مرةٌ لقسوة القلب وظلمته ووحشته ، فمنا الآن من يستمع لكلام الرحمن يتلى ولا تدمع عينيه ، ولا يتحرك قلبه ، ولا تلين جوارحه ، ولايقشعر جلده !!! ذلك أن القلوب قست ، لأن القلوب فى وحشة وأن القلوب فى ظلمة ، فقلة الخوف من الله وإن الخوف من الرحمن ثمرة حلوة للإيمان ، فعلى قدر إيمـانك بالله ، وعلى قدر حبك لله ، وعلى قدر علمك بالله ، وعلى قدر معرفتك بالله جل وعلا يكون حياؤك ، وخوفك ، ومراقبتك لله تبارك وتعالى ، قف على هذه القاعدة ليتبين كل واحد منا الآن : هل يحمل فى صدره قلباً رقيقاً أم قلباً قاسياً وهو لا يدرى ؟!!
قال تعالى :] إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ [
[ فاطر : 28 ]
فعلى قدر علمك ومعرفتك بالله يكون خـوفك من الله . فيا من تتجرأ على المعصية ، يا من ترخى الستور ، وتغلق الأبواب وتبارز الله جل وعلا بالمعصية ، وأنت تظن يا مسكين أنه لا يسمعك ولا يراك أحد ، فاعلم أيها المسكين وكن على يقين أنك لا تعرف الله جل وعلا ، وعلى قدر علمك بالله يكون حياؤك منه كما قال أعرف الناس بالله رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم
(( … أما والله ، إنى لأخشاكم لله ، وأتقاكم له … ))([1]).
فالذى يعرف الله إن زلت قدمه فى المعصية وارتكب كبـيرة من الكبائر فى حـالة ضعف بشري منه تجده سرعان ما يجدد التوبة والأوبة والندم وهو الذى سرعان ما يطرح قلبه بين يدي الله بذل وانكسار وهو يعترف بفقره وعجزه وضعفه .
وكان النـبى صلى الله عليه وسلم يصلى ولصدره أزيز كأزيز المرجل من البكاء ، وهو الذى غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر .
وفى الصحيحين من حديث أنس قال : خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم خطبـة ما سمعت مثلها قط فقال : (( والله لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ، ولبكيتم كثيراً ))([2])، قال : فغطىَّ أصحاب رسـول الله صلى الله عليه وسلم وجوههم ، ولهم خنين (( الخنين : شبيه بالبكاء مع مشاركة فى الصوت من الأنف )) .
ورد فى مسند الإمـام أحمد وسنن الترمذى بسند صحيح بالشواهـد من حديث أبى سعيد الخدرى أن النبى صلى الله عليه وسلم قال : (( كيف أنعم وقد التقم صاحب القرن وحنا جبهته وأصغى سمعه ، ينتظر أن يؤمر فينفخ ؟ فكأن ذلك ثَقُلَ على أصحابه ، فقالوا : فكيف نفعل يا رسول الله أو نقول ؟ قال : قولوا: حسبنا الله ونعم الوكيـل ، على الله توكلنا ، وربما قـال : (( توكلنا على الله ))([3]).
والله لو وقفت على خوف النـبى صلى الله عليه وسلم من ربه وهو أعـرف الناس به ، وأتقى الناس له ، وأخشى الناس منه ، لرأيت العجب العجاب .
وهذا فاروق الأمة الأواب عمر بن الخطاب الذى أجرى الله الحق على لسانه لمـا نام على فراش الموت دخل عليه شاب فقال : أبشر يا أمير المؤمنـين ببشرى الله لك وصحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم وقدمٍ فى الإسـلام ما قد علمت ، ثم وليت فعدلت ، ثم شـهادة فقال عمر : وددت أن ذلك كفافٌ لا علىّ ولا لى .
وفى رواية : دخل عليه ابن عباس فقال : أليس قد دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعز الله بك الدين والمسلمين إذ يخافـون بمكة ، فلما أسلمت كان إسلامك عزاً ، وظهر بك الإسلام ، وهاجرت فكانت هجرتك فتحاً ، ثم لم تغب عن مشهد شهده رسول الله صلى الله عليه وسلم من قتال المشركين ، ثم قُبض وهو عنك راض ، ووازرت الخليفة بعده على منهاج رسول الله صلى الله عليه وسلم فضربت من أدبر بمن أقبل ، ثم قبض الخليفة وهو عنك راضٍ ، ثم وليت بخير ما ولى الناس : مصَّر الله بك الأمصار ، وجيَّا بك الأموال ونعى بك العدو وأدخل بك على أهل بيت من سيوسعهم دينهم وأرزاقهم ثم ختم لك بالشهادة فهنيئاً لك .
([1]) البخارى رقم ( 5063 ) فى النكاح ، باب الترغيب فى النكاح ، ومسلم رقم ( 1401 )
فى النكاح ، باب استحباب النكاح ، والنسائى ( 6/ 60 ) فى النكاح أيضاً ، باب النهى عن التبتل .
([2]) البخارى (4621 ) فى تفسير سورة المائدة ، باب قوله تعالـى (( لاَ تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ
لَكُمْ تَسُؤْكُمْ )) ، ومسلم ( 2359 ) فى الفضائل ، باب توقير ه r والترمذى ( 3058 )
فى التفسير ، باب ومن سورة المائدة .
([3]) رواه البخارى رقم ( 3700 ) فى فضائل أصحاب النبى r ، باب قصة البيعة والاتفاق على
عثمان بن عفان t ، وفيه مقتل عمر بن الخطاب t .