فوائد من شرح حديث
(( أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقاً ، وخيارهم خيارهم لأهله ))
الخُلُق بضمتين، لغة: الطبع والسَّجية( [44]).
واصطلاحاً: هو حالٌ للنفْس راسخةٌ تصدر عنها الأفعالُ من خيرٍ أو شرٍّ، من غير حاجةٍ إلى فكرٍ ورَويَّةٍ.( [45])
أهميَّة الأخلاق: تحتل الأخلاق في الإسلام منزلة عظيمة وذلك من وجوهٍ كثيرةٍ منها:
أولاً: تعليل الرسالة بتقويم الأخلاق وإشاعة مكارم الأخلاق، جاء في الحديث الشريف عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم: ((إنَّما بُعِثْتُ لأُتَمِمَ مكارمَ الأخلاقِ))( [46]) .
ثانياً: تعريف الــدين بحُسـنِ الخلـقِ…... كما ورد أنَّ رجلاً جاء إلى النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم فقال: يارسولَ الله مالدِّين؟ فقال الرسول صلى الله عليه وسلم:((حسن الخلق))( [47]) .
وهذا يعني أنَّ حسن الخلقِ ركن الإسلام العظيم الذي لا قيام للدين بدونه، كالوقوف في عرفات بالنسبة للحج، فقد جاء في الحديث الشريف((الحج عرفة))( [48]) أي أن ركن الحج العظيم الذي لايكون الحج إلاّ به الوقوف في عرفات.
ثالثاً: من أكثر مايرجح كفة الحسنات يوم الحساب حسن الخلق، جاء في الحديث الشريف عن النبي صلى الله عليه وسلم ((أثقل ما يوضع في الميزان يوم القيامة تقوى الله وحسن الخلق)).
رابعاً: المؤمنون يتفاضلون في الإيمان، وأفضلهم فيه إيماناً أحسنهم أخلاقاً، جاء في الحديث: قيل: يارسول الله أيُّ المؤمنين أفضل إيماناً؟ قال: ((أحسنهم خلقاً)).
خامساً: إنَّ المؤمنين يتفاوتون في الظفر بحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقربهم منه يوم القيامة، وأكثر المسلمين ظفراً بحب رسول الله صلى الله عليه وسلم والقرب منه أولئك المؤمنون الذين حسنت أخلاقهم حتى صاروا فيها أحسن من غيرهم جاء في الحديــث الشريف ((إنَّ أحبكم إليَّ وأقربكم مني مَجلساً يوم القيامةِ أحاسنكم أخلاقاً.)).
سادساً: أنَّ حسن الخلق أمر لازم وشرط لا بد منه للنجاة من النار والفوز بالجنان، وأن التفريط بهذا الشرط لايغني عنه حتى الصلاة والصيام ، جاء في الحديث أنَّ بعض المسلمين قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم إنَّ فلانة تصوم النهار وتقوم الليل وهي سيئة الخلق تؤذي جيرانها بلسانها، قال: ((لا خير فيها هي من أهل النار.))( [49])
سابعاً: أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم كان يدعو ربه بأن يُحسن خلقه - وهو ذو الأخلاق الحسنة - وأن يهديه لأحسنها، فقد كان يقول في دعائه:((اللهم حَسَّنْتَ خَلْقِي، فَحَسِّن خُلُقِي.))( [50])، ويقول: ((اللهم اهدني لأحسن الأخلاق فإنه لايهدي لأحسنها إلاَّ أنت واصرف عني سيئها فإنه لايصرف سيئها إلاَّ أنت.))( [51]) ، ومعلوم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لايدعو إلاَّ بما يحبه الله ويقربه منه.
ثامناً: مدح الله تعالى رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم بحسن الخلق، فقد جاء في القرءان الكريم {وَإنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيم}( [52]) والله تعالى لايمدح رسوله إلاَّ بالشىء العظيم مما يدل إلى عظيم منزلة الأخلاق في الإسلام.
تاسعاً: كثرة الآيات القرءانية المتعلقة بموضوع الأخلاق..فهي تشبه أمور العقيدة من جهة عناية القرءان بها في السور المكية والمدنية على حد سواء ( [53]). إنَّ الإسلام دين قام على توحيد الله تعالى وإخلاص العمل لوجهه الكريم، هذا وإنَّ العبادات التي شرعها الله تعالى واعتبرت أركاناً في الإسلام ليست شعائراً مبهمة من النوع الذي يربط الانسان بالغيوب المجهولة، ويكلفه بأداء أعمالٍ غامضة، وحركاتٍ لامعنى لها، إن الفرائض التي ألزم الإسلام بها المسلمين إنما هي تمارين متكررة لتعويد المرء أن يحيا بأخلاقٍ صحيحةٍ، وأن يظل مستمسكاً بهذه الأخلاق مهما تغيرت أمامه الظروف.
فالصلاة الواجبة عندما أمر الله بها أبان الحكمة من إقامتها فقال : {وأقِم الصَّلاةَ إنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عنِ الفَحْشَاءِ وَالمُنْكَرِ.} ( [54]). فالابعاد عن الرذائل والتطهير من سوء القول والعمل هو حقبقة الصلاة..والزكاة المفروضة ليست ضريبة تؤخذ من الجيوب، بل هي أولاً، غرس لمشاعر الحنان والرأفة، وتوطيد لعلاقات التعارف والألفة بين شتى الطبقات قال تعالى { خًذْ مِنْ أموالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِرهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا }( [55])، وكذلك شرع الإسلام الصَّوم فلم ينظر إليه على أنه حرمان مؤقت من الأطعمة والأشربة، بل اعتبره خطوة لتعويد النفس على التخلص من شهواتها المحظورة ونزواتها المنكورة، ويذكرنا القرءان بثمرة الصوم بقوله {كُتِبَ عليكُمُ الصِّيامُ كما كُتُبَ على الذين من قبلِكُمْ لعلَّكُمْ تتَّقون}( [56])، وقد يحسبُ الانسان أنَّ السفرَ إلى البقاع المقدَّسةِ للحجِّ أو العمرةِ رحلة مجردة من المعاني الخلقيَّةِ، وهذا خطأٌ لأنَّ الله تعالى قال { الحجُّ أشهُرٌ معلوماتٌ، فَمَنْ فَرَضَ فيهِنَّ الحجَّ فَلا رَفَثَ، وَلا فُسُوقَ، ولاجِدالَ في الحَجِّ وما تفعلوا من خيرٍ يعلمهُ اللهُ، وتزودوا فإنَّ خيرَ الزادِ التَّقْوَى واتَّقُونِ يآأولي الأَلْبَاب}( [57]).
بهذا العرض المُجمَلِ لبعض العبادات التي اشتهر بها الإسلام وعُرِفت على أنها أركانه الأصلية نستبين منه متانة الأوامر التي تربط الدين بالخُلُقِ إنها عبادات مُتباينة في مظهرها، ولكنها تلتقي عند الغاية التي رسمها الرسول r في قوله: (( إنَّما بُعِثتُ لأُتممَ مكارمَ الأخلاق))( [58])، فالصلاة والصيام والزكاة والحجّ، وما أشبه هذه الطاعات من تعاليم الإسلام هي المدارج للكمال المنشود، فإذا لم يستفد المرء منها مايزكي قلبه وينقي لُبَّه، ويهذب صلته باللهِ وبالناسٍ، فقد هوى( [59]).
ولقد أوصى القرءانُ الكريم رسول الله صلى الله عليه وسلَّم بجملةٍ مِنَ الآداب بمثل قولهِ تعالى: {خُذْ بِالعَفْوِ وَأْمُر بالعُرفِ وأعرِض عن الجاهلينَ}( [60]) ، وقوله: {إنَّ اللَّهَ يَأمُرُ بالعَدْلِ وَالإحْسَانِ وإيتاءِ ذي القُرْبَى وَيَنْهَى عَن الفَحْشَاءِ والمُنْكَرِ والبَغْي}( [61]) ، وقوله: {واصبر على ما أصابَكَ إنَّ ذلك مِن عزمِ الأمور}( [62]) ، وقوله: {وَلِمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إنَّ ذَلِكَ لَمِن عَزْمِ الأُمور}( [63]) ، وقوله: {فاعف عنهم واصفح إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ المُحسنين}( [64])، وقوله: {وَليعفوا وليصفحوا ألا تُحبُّونَ أنْ يُغفر لكم}( [65]) ، وقوله: {ادفع بالتي هي أحسن فإذَا الذي بينَكَ وبينَهُ عَداوةٌ كأنَّهُ وَلِيٌّ حَميم}( [66]) ، وقولهُ: {والكاظمينَ الغَيظَ والعافينَ عنِ النَّاسِ واللَّهُ يُحِبُّ المُحْسنين}( [67]) ، وقولهُ: {اجتنبوا كثيراً مِنَ الظنّ إنَّ بعض الظَّنِّ إثْمٌ ولا تَجسسوا ولا يَغْتَبْ بَعضُكُم بعضاً}( [68]) ، وقوله: {والعصر إنَّ الإنسانَ لَفي خُسْر إلاَّ الَّذينَ آمنوا وتواصوا بالحقِّ وتواصوا بالصَّبْر}( [69]) ، إنَّ أمثال هذهِ التَّوجيهات في القرءان الكريم والتي تدعوا إلى مكارم الأخلاق كثيرة، ولقد عَمِلَ بها رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حتَّى وصفت عائشةُ أم المؤمنين رضي اللَّهُ عنها خُلُق رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فقالت: ((كانَ خُلُقُهُ القرءان))( [70]) .
ولقد كان صلى الله عليه وسلم : أحلَم النَّاس، وأشجع النَّاسِ، وأعفّ النَّاس، لم تمس يده يد امرأة لا يملك رقمها أو عصمة نكاحها أو تكون ذات محرم منه، وكان أسخى النَّاس، لا يبيتُ عنده دينار ولا دِرهم وإن فضل منه شيء ولم يجد مَن يُعطيه وفجأه الليل لم يأوِ إلى منزلهِ حتَّى يتبرأ منهُ إلى مَن يَحتاج إليهِ، ولا يأخذ ممَّا آتاهُ اللَّه إلاَّ قوت عامه فقط مِن أيسرِ ما يجد مِنَ التَّمرِ والشَّعيرِ ويضع سائر ذلكَ في سبيلِ اللَّهِ تعالى، لا يُسأل شيئاً إلاَّ أعطاه، ثُمَّ يعودُ على قوت عامه فيؤثر منه حتى إنَّهُ رُبما احتاج قبل انقضاء العام إن لم يأته شيء، وكان يخصفُ النَّعل ويرقع الثَّوبَ ويخدم في مهنة أهلهِ، ويقطع اللحم معهنَّ، وكانَ أشدّ النَّاس حياء لا يثبت بصره في وجه أحد، ويجيبُ دعوة العبد والحُرّ، ويقبل الهدية ولو أنَّها جرعة لبن أو فخِذ أرنب ويُكافئ عليها ويأكلها ولا يأكل الصَّدقة، ولا يستكبر عن إجابة الأَمَة والمسكين، يغضب لربهِ ولا يغضب لنفسهِ، وينفد الحق وإن عاد عليهِ بالضَّرر أو على أصحابهِ، وعرض عليه الانتصار بالمشركينَ على المشركين وهو في قلة وحاجةٍ إلى إنسانٍ واحدٍ يزيده في عدد مَن معه فأبى وقال: ((أن لا أستنصرُ بمشركٍ))، ... وكان يعصبُ الحجر على بطنه مرَّة مِنَ الجوعِ ومرة يأكل ما حضره ولا يرد ما وجد ولا يتورع عن مطعمٍ حلال وإن وجد تمراً دون خبز أكله، وإن وجد شواء أكله، وإن وجد خبز بُرٍّ أو شعيرٍ أكله، وإن وجد حُلواً أو عسلاً أكله... يجيب الوليمة، ويعود المرضى، ويَشهد الجنازة ويمشي وحده بين أعدائهِ بلا حارسٍ، أشد الناس تواضعاً وأسكنهم في غير كبرٍ، وأبلغهم في غير تطويلٍ، وأحسنهم بِشراً، لا يهولهُ شيء من أمور الدُّنيا..يحبُّ الطِّيبَ ويكره الرائحة الرديئة، ويُجالس الفقراء، ويواكل المساكين، ويكرم أهل الفضل في أخلاقهم ويتألفُ أهل الشَّرف بالبر لهم، يصل ذوي رَحِمهُ مِن غير أن يؤثرهم على مَن هو أفضل منهم، لا يجفو على أحدٍ، يقبل معذرة المُعتذِر إليهِ، يمزح ولا يقولُ إلاَّ حقَّاً، يضحكُ مِن غير قَهقهة، يرى اللعب المُباحَ فلا يُنكرهُ، يُسابق أهلهُ، وترفع الأصوات عليه فيصبر...( [71]) .
هذا وإنَّ عناية الإسلام بالمرأة، ووصيته بحسن رعايتها، والإحسان إليها قد بلغ مرتبة عظيمة لم تصل إليها أرقى الأنظمة الأرضية التي تدَّعي أنها تحافظ على حقوق الانسان عامةً، والمرأة خاصةً، ولقد أوصى الله تعالى بالنساء خيراً فقال:{ وَعاشِروهُنَّ بالمَعْروفِ }( [72]).
د. عبد الرحمن بن محمد بن شريف
____________
الحواشي:
(44) المصباح المنير:1/189، مجمل اللغة:1/300، لسان العرب، مادة(خلق)، المعجم الوسيط:1/252
(45) إحياء علوم الدين:3/46، التعريفات للجرجاني:101
(46) أخرجه مالك، برقم: (8)، والبخاري في ((الأدب المفرد)): (ص:4)، والحاكم في ((المستدرك)): 2/613 وصححه. من حديث أبي هريرة.
(47) سيأتي تخريجه بالتفصيل، وكافة الأحاديث التي في هذه المقدمة والتي سيأتي تخريجها سوف لن أخرجها في هذا الموضع.
(48) أخرجه أحمد: 4/309، والحميدي (899)، والترمذي (889) و (890)، وأبو داود (1949)، والحاكم: 1/464 وصححه من حديث عبدالرحمن بن يعمر الدِّيْلِيِّ.
(49) أخرجه البيهقي، والطبراني، من حديث أبي هريرة، كنز العمال: 9/186(25615).
(50) أخرجه أبو يعلى في ((المسند)): 1/243، و1/249، والطيالسي: 1/656، وأحمد: 1/403، وصححه ابن حبــان ، كما فـي الإحسان: 3/239(959)، من حديث ابن مسعود رضي الله عنه. قال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)): 10/173: رواه أحمد، وأبو يعلى، ورجالهما رجال الصحيح، غير عوسجة بن الرماح، وهو ثقة.
(51) أخرجه أحمد: 1/102، من حديث عليٍّ رضي الله عنه.
(52) سورة القلم، الآية: 4.
(53) أصول الدعوة للدكتور عبدالكريم زيدان:(81 -82).
(54) العنكبوت، الآية:45
(55) التوبة الآية:103
(56) البقرة الآية:183
(57) البقرة الآية: 197
(58) مسند أحمد:2/381، ومالك في ((الموطأ)):2/902، وهو حسن بمجموع طرقه.
(59) انظر مقدمة كتاب ((خلق المسلم )) للشيخ محمد الغزالي رحمه الله تبارك وتعالى.
(60) سورة الأعراف الآية: 199.
(61) سورة النحل الآية: 90.
(62) سورة لقمان الآية: 17.
(63) سورة الشورى الآية: 43.
(64) سورة المائدة الآية: 13.
(65) سورة النور الآية: 22.
(66) سورة فصلت الآية: 34.
(67) سورة آل عمران الآية: 134.
(68) سورة الحجرات الآية: 12.
(69) سورة العصر الآية: (1-3).
(70) أخرجه مسلم.
(71) إحياء علوم الدين: 2/389-393، وقد قام الإمام العراقي رحمه الله تعالى بتخريج هذه الأحاديث والحكـم عليــها ، ولا يتسع المجال لذكر هذه التخريجات.
(72) النساء آية:19
(73) متفق عليه.
(74) أخرجه مسلم، برقم: (1469)، من رواية أبي هريرة، وقوله:((يَفْرِكْ)) أي يَبْغِض.
(75) أخرجه الترمذي، برقم: (1163)، وقال:

صحيح.
(76) أخرجه أحمد:4/446،447،و5/3، وأبو داود، برقم:(2142)، وابن ماجه، برقم:(1850)، وإسناده حسن.