عرض مشاركة واحدة
قديم 25-07-07, 01:16 PM   #12
أمة الخبير
جُهدٌ لا يُنسى
افتراضي

*
*
*



الحصة الثاني عشرة

الأربعاء 25/07/2007



فصل



الاغترار بالدنيا

وأعظم الخلق غرورا من اغتر بالدنيا وعاجلها ، فأثرها على الآخرة ، ورضي بها من الآخرة ، حتى يقول بعض هؤلاء : الدنيا نقد ، والآخرة نسيئة ، والنقد أحسن من النسيئة .

ويقول بعضهم : ذرة منقودة ، ولا درة موعودة .

ويقول آخر منهم : لذات الدنيا متيقنة ، ولذات الآخرة مشكوك فيها ، ولا أدع اليقين بالشك .

وهذا من أعظم تلبيس الشيطان وتسويله ، والبهائم العجم أعقل من هؤلاء ، فإن البهيمة إذا خافت مضرة شيء لم تقدم عليه ولو ضربت ، وهؤلاء يقدم أحدهم على ما فيه عطبه وهو ينظر إليه وهو بين مصدق ومكذب .

فهذا الضرب إن آمن أحدهم بالله ورسوله ولقائه والجزاء ، فهو من أعظم الناس حسرة ، لأنه أقدم على علم ، وإن لم يؤمن بالله ورسوله فأبعد له .

وقول هذا القائل : النقد خير من النسيئة ، فجوابه أنه إذا تساوى النقد والنسيئة ، فالنقد خير ، وإن تفاوتا وكانت النسيئة أكثر وأفضل ، فهي خير ، فكيف والدنيا كلها من أولها إلى آخرها كنفس واحد من أنفاس الآخرة ؟

كما في ’’مسند الإمام أحمد’’ والترمذي من حديث المستورد بن شداد قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : {{ ما الدنيا في الآخرة إلا كما يدخل أحدكم أصبعه في اليم ، فلينظر بم يرجع }}

فإيثار هذا النقد على هذه النسيئة من أعظم الغبن وأقبح الجهل ، وإذا كان هذا نسبة الدنيا بمجموعها إلى الآخرة ، فما مقدار عمر الإنسان بالنسبة إلى الآخرة ؟ فأيما أولى بالعاقل ؟ إيثار العاجل في هذه المدة اليسيرة ، وحرمان الخير الدائم في الآخرة ، أم ترك شيء حقير صغير منقطع عن قرب ، ليأخذ مالا قيمة له ولا حظر له ، ولانهاية لعدده ، ولا غاية لأمده ؟

فأما قول الآخر : لا أترك متيقنا لمشكوك فيه.

فيقال له : إما أن تكون على شك من وعد الله ووعيده وصدق رسله ، أو تكون على يقين من ذلك ، فإن كنت على يقين من ذلك فما تركت إلا ذرة عاجلة منقطعة فانية عن قرب ، لأمر متيقن لا شك فيه ولا انقطاع له .
وإن كنت على شك فراجع آيات الرب تعالى الدالة على وجوده وقدرته ومشيئته ، ووحدانيته ، وصدق رسله فيما أخبروا به عن الله وتجرد ، وقم لله ناظرا أو مناظرا ، حتى يتبين لك أن ما جاءت به الرسل عن الله هو الحق الذي لاشك فيه ، وأن خالق هذا العالم هو رب السموات والأرض يتعالى ويتقدس ويتنـزه عن خلاف ما أخبرت به رسله عنه . ومن نسبه إلى غير ذلك فقد شتمه وكذبه ، وأنكر ربوبيته وملكه ، إذا من المحال الممتنع عند كل ذي فطرة سليمة ، أن يكون المالك الحق عاجزا أو جاهلا ، لا يعلم شيئا ، ولا يسمع ، ولا يبصر ، ولا يتكلم ، ولا يأمر ولا ينهى ، ولا يثيب ، ولا يعاقب ، ولا يعز من يشاء ، ولا يذل من يشاء ، ولا يرسل رسله إلى أطراف مملكته ونواحيها ، ولا يعتني بأحوال رعيته بل يتركهم سدى ويخليهم هملا . وهذا يقدح في ملك آحاد ملوك البشر ولا يليق به ، فكيف يجوز نسبة الملك الحق المبين إليه .


وإذا تأمل الإنسان حاله من مبدأ كونه نطفة إلى حين كماله واستوائه ، تبين له أن من عني به هذه العناية ، ونقله في هذه الأحوال ، وصرفه في هذه الأطوار ، لا يليق به أن يهمله ويتركه سدى ، لا يأمره ولا ينهاه ولا يعرفه حقوقه عليه ، ولا يثيبه ولا يعاقبه.

ولو تأمل العبد حق التأمل لكان كل ما يبصره وما لا يبصره دليلا له على التوحيد والنبوة والمعاد ، وأن القرآن كلامه ، وقد ذكرنا وجه الاستدلال بذلك في كتاب ’’إيمان القرآن’’ عند قوله : {{ فلا أقسم بما تبصرون ومالا تبصرون إنه لقول رسول كريم }} الحاقة 38-40. وذكرنا طرفا من ذلك عند قوله : {{ وفي أنفسكم أفلا تبصرون }} الذاريات 21 ، وأن الإنسان دليل نفسه على وجود خالقه وتوحيده ، وصدق رسله ، وإثبات صفات كماله . فقد بان أن المضيع مغرور على التقديرين ، تقدير تصديقه ويقينه وتقدير تكذيبه وشكه .


كيف يجتمع اليقين بالمعاد ، والتخلف عن العمل ؟

فإن قلت : كيف يجتمع التصديق الجازم الذي لا شك فيه بالمعاد والجنة والنار ويتخلف العمل ؟ وهل في الطباع البشرية أن يعلم العبد أنه مطلوب غدا إلى بين يدي بعض الملوك ليعاقبه أشد عقوبة ، أو يكرمه أتم كرامة ، ويبيت ساهياً غافلاً ، لا يتذكر موقفه بين يدي الملك ، ولا يستعد له ، ولا يأخذ له أهبته .
قيل : هذا لعمر الله سؤال صحيح وارد على أكثر الخلق ، فاجتماع هذين الأمرين من أعجب الأشياء ، وهذا التخلف له عدة أسباب :

أحدها : ضعف العلم ونقصان اليقين ، ومن ظن أن العلم لا يتفاوت ، فقوله من أفسد الأقوال وأبطلها .

وقد سأل إبراهيم الخليل ربه أن يريه إحياء الموتى عياناً بعد علمه بقدرة الرب على ذلك ليزداد طمأنينة ، ويصير المعلوم غيبا شهادة .

وقد روى أحمد في ’’مسنده’’ عن النبي – صلى الله عليه وسلم - أنه قال : {{ ليس المخبر كالمعاين }} فإذا اجتمع إلى ضعف العلم عدم استحضاره أو غيبته عن القلب في كثير من أوقاته أو أكثرها لاشتغاله بما يضاده وانضم إلى ذلك تقاضي الطبع ، وغلبات الهوى ، واستيلاء الشهوة ، وتسويل النفس وغرور الشيطان واستبطاء الوعد ، وطول الأمل ، ورقدة الغفلة ، وحب العاجلة ، ورخص التأويل وإلف العوائد ، فهناك لا يمسك الإيمان في القلب إلا الذي يمسك السموات والأرض أن تزولا ، وبهذا السبب يتفاوت الناس في الإيمان والأعمال ، حتى ينتهي إلى أدنى مثقال ذرة في القلب .

وجماع هذه الأسباب يرجع إلى ضعف البصيرة والصبر ، ولهذا مدح الله سبحانه أهل الصبر واليقين ، وجعلهم أئمة في الدين فقال تعالى : {{ وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون }} السجدة 24


*
*



توقيع أمة الخبير
*
*
*


إذا سألت فاسأل الله ، وإذا استعنت فاستعن بالله

*
*
*


أمة الخبير غير متواجد حالياً