عرض مشاركة واحدة
قديم 28-03-12, 06:57 PM   #2
الراضية بقضاء ربها
~مستجدة~
 
تاريخ التسجيل: 15-12-2011
العمر: 13
المشاركات: 2
الراضية بقضاء ربها is on a distinguished road
افتراضي

ولقد رآه طاووس بن كيسان ( أحد التابعين ) ذات مرة يقف في ظلال البيت العتيق وهو يتململ تململ السَّليم (أي المشرف على الهلاك، ويسمى بذلك تفاؤلا)


ويبكي بُكاء السَّقيم ويدعو دعاء المضطر ( اللاجىء المحتاج )


فوقف ينتظره حتى إذا كفّ عن بُكائه وَفَرَغ من دُعائه تقدَّم نحوَه وقال له: يا بن رسول الله رأيتك على حالتك هذه , ولك فضائل ثلاث أرجو أن تؤمِّنك ( تحميك ) من الخوف



فقال زين العابدين: وما هُنَّ يا طاووس؟


فقال: إحداهن أنك ابن رسول الله صلوات الله وسلامه عليه


والثانية شفاعة جَدَّك لك


والثالثة: رَحمة الله


فقال له: يا طاووس إن انتسابي إلى الرسول عليه الصلاة والسلام لا يُؤمَّنني بعد أن سمعت قول الله عز وجل:


(فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ)


وأما شفاعة جدي لي، فإن الله علت كلمته يقول:


(وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى ) ( أي للذي قبله الله وحظي عنده )


وأما رحمة الله تعالى فهو يقول:


(إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ).




***




ولقد أفاضت ( اسبغت عليه ) التقوى على زين العابدين ما شاء الله أن تفيض من شمائل الفضل والنبل والحلم


حتى ازدانت ( تزينت ) كتب السير بروائع أخباره، وزهت صفحاتها نبيل مواقفه, ومن ذلك ما رواه الحسن بن الحسن قال:


وقعت بيني وبين ابن عمى زين العابدين جفوة فذهبت إليه وأنا أتميز غيظاً منه, وكان مع أصحابه في المسجد فما تركت شيئاً إلا قلته له، وهو ساكت لا يتكلم


ثم انصرفت


فلما كان الليل إذا طارق على الباب يقرعه فقمت إليه لأرى من هو


فإذا هو زين العابدين


فما شككت أنه جاء يرد إلي الأذى ولكنه قال:


يا أخي إن كنت صادقاً فيما قلت لي، فغفر الله لي


وإن كنت غير صادق، فغفر الله لك


ثم ألقى عليّ السلام ومضى


فلحقت به وقلت له: لا جرم ( أُقسم )، لا عدت إلى أمر تكرهه


فَرَقَّ لي وقال: وأنت في حِلٍّ مما قلت لي.




***




وروى أحد أبناء المدينة قال:


كان زين العابدين خارجاً من المسجد فتبعته وجعلت ألوح له بالشتم , ولست أدري سبباً لذلك، فهجم الناس علي يريدون أخذي ( التيّل مني ) ، ولو أخذوني لم يفلتوني حتى أُحَطَّم، فالتفت إلى الناس وقال: كفوا عن الرجل


فكفوا عني


ولما رأى ما أصابني من الذعر أقبل علي بوجهه الطلق، وجعل يؤمنني ويهدئ من روعي ثم قال لي:


لقد سببتنا بما علمت وما ستر عنك من أمرنا أكبر


ثم قال لي: ألك حاجة نُعينك عليها؟


فاستحييت منه ولم أقل شيئاً


فلما رأى حيائي ألقى علي كساء كان عَليه


وأمر لي بألف درهم


فجعلت أقول كلما رأيته بعد ذلك أشهد أنك من أبناء الرسول عليه الصلاة والسلام


وروى أحد مواليه قال:


كنت غلاماً لعلي بن الحسين فأرسلني فى حاجة فأبطأت عليه، فلما جئته خفقني ( ضربني ) بالسوط، فبكيت واشتد غيظي منه لأنه ما خفق أحداً قبلي قط، وقلت له: اللهَ اللهَ ( اتق الله ) يا علي بن الحسين


أتستخدمني في حاجة فأقضيها لك، ثم تضربني؟!


فبكى وقال: اذهب إلى مسجد الرسول عليه الصلاة والسلام وَصَلِّ ركعتين ثم قل: اللهم اغفر لعلي بن الحسين


فإذا ذهبت وفعلت فأنت حُر لوجه الله تعالى


فذهبت وصليت ودعوت, ولم أعد إلى داره إلا وأنا حُر.




***




ولقد وسَّع ( أغدق عليه المال ) الله عز وجل على زين العابدين، وأفاض عليه الرزق فيضاً


فكانت له تجارة رابحة


وزراعة نامية


وكان ينهض بهما غِلمانُه


وكانت زِراعته وتجارته تُدِرَّان عليه الخير الوفير، والمال الكثير


لكن زين العابدين لم يزهه الغنى ( لم يدفعه المال إلى التكبر على الناس )


ولم تُبطِرهُ النعمة


وإنما جعل مال الدنيا مطية ( وسيلة ) للفوز في الآخرة


فكان ثراؤه نِعمَ الثراء الصالح للعبد الصالح


وكان أكثر ما حُبِّب إليه من أعمال البر صدقة السر ( الصدقة التي لا يعلم بها أحد إلا الله )


فكان إذا جنَّ الليل يحمل أكياس الدقيق على ظهره الناحل ( الضعيف الهزيل ) ويخرج بها في عتمات الليل والناس نيام


وكان يجوب بها أحياء المدينة ليتصدق على ذوي الحاجات ممن لا يسألون الناس إلحافا ( إلحاحا )


فكانت جماعات كثيرة من أهل المدينة تعيش وهي لا تدرى من أين يأتيها رِزقها رَغداً ( طيباً واسعاً )


فلما مات علي بن الحسين فَقَدَ هؤلاء ما كان يأتيهم من رزق , فعرفوا مصدره


ولما وُضِعَ زين العابدين على المُغتسل نظر غاسلوه, فوجدوا في ظَهرِهِ آثار سواد فقالوا: ما هذا ؟


فقيل لهم : إنه من آثار حمل أكياس الدقيق إلى مِائة بيت في المدينة فقدت عَائِلَها ( من ينفق عليها ويعولها ) بِفَقده.





***




أما أخبار عتق علي بن الحسين للأَرِقَّاء فقد شَرَّقَت بها الرُّكبان ( المسافرون المتنقلون في البلاد ) وغَرَّبَت , لأن صنيعه هذا فاق خيال المُتخيِّلين


وجاوز تطلع المتطلعين


فكان يعتق العبد إذا أحسن , مكافأة له على إحسانه


وكان يُعتق العبد إذا أساء وتاب , جزاء له على توبته


حتى روى الرَّاوون أنه أعتق ألف عبد


وأنَّه لم يستخدم أحداً من غِلمانه وإمائِهِ ( المسترقة من النساء ) أكثر من عام واحد


وكان عتقه لعبيده يقع أكثر ما يقع ليلة عيد الفطر, حيث كان يُحَرِّر في تلك الليلة المباركة ما يُقَدِّرُه ُالله على تحريره في رقاب الأرِقَّاء


ويسألهم أن يتوجَّهوا إلى القبلة وأن يقولوا:


اللهم أغفر لعلي بن الحسين


ثم يُزوِّدهم بما يجعل عيدهم عيدين وفرحتهم فرحتين




***




ولقد حَلَّ علي بن الحسين من قُلوبِ الناس منزلةً لم يزِد عليها إنسان في عصره


فلقد أحبه الناس أصدق ما يكون الحُب


وأجلَّوه أعظم ما يكون الإِجلال


وتعلقوا به أشد ما يكون التَّعلُّق


واشتاقوا إلى رؤيته أعمق ما يكون الشوق


فكانوا يترقبونه لينعموا برُؤياه خارجاً من البيت أو داخلاً إليه


أو غادياً ( عائداً ) إلى المسجد أو رائحاً منه.




***




روي أن هشام بن عبد الملك وفد على مكة حاجاً، وكان يومئذ وليَّاً للعهد, فأقبل يريد الطَّواف ويبتغي استلام الحجر الأسود


وأخذ الجُند الحافُّون به ( المحيطون به ) يُنبِّهون الناس إليه ويُوسِّعون الطريق له


لكن أحداً من الناس لم يلتفت إليهم ولم يُوسِّع لهم


فالبيت بيت الله


والناس جميعاً عبيده


وفيما هم كذلك سُمِعت أصوات التهليل ( قول لا إله إلا الله ) والتكبير آتية من بعيد


فاشرَأبَّت ( تطاولت وامتدت ) نحوها الأعناق


فإذا رجل في كوكبةٍ من الناس ( جماعة من الناس مُلتفه حوله ) قسيم وسيم ( بهي الطلعه حلو المنظر ) , ضامر الجسم ( رقيق الجسم هزيله ) ، وضئ الوجه، عليه سكينة ووقار


قد مشي في إِزار ( ما يستر أسفل الجسم ) ورِدَاء ( ما يستر الجزء الأعلى من الجسم )


وبدا بين عينيه أَثَرُ السجود


فَجَعَلَت كُتلُ الناس تَنفرِج ( تفسح له الطريق ) له، وتغدو صُفوفاً صُفوفاً، وهي تستقبله بنظرات الشوق والحب حتى بلغ الحجر الأسود واستلمه


وهنا التفت أحد رجال الحاشية إلى هشام بن عبد الملك وقال له:


من هذا الذي أكرمه الناس كل هذا الإِكرام , وأجلُّوه كل هذا الإجلال؟!


فقال هشام: لا أعرفه


وكان الفرزدق ( أحد شُعراء الطبقة الأولى في العصر الأموي ) حاضراً , فقال:


إن كان هشامٌ لا يعرفه فأنا أعرِفُهُ، والدنيا كُلُّها تَعرِفُهُ


هذا علي بن الحسين رضي الله عنه وعن أبيه وعن جده،


ثم أنشد:


هذا الذي تعرفُ البطحاء ( مكان سيل الماء , بالقرب من البيت الحرام ) وطـــــــأته


والبيت يعرفه والحـــل والحـــــــرم


*****


هذا ابن خيرِ عِبـــــاد الله كُلِّهـــــــم


هذا التقيُّ النقيُّ الطاهر العَلَــــم


*****


هــــذا ابن فـــــاطمـــة إن كنـــت جاهله


بجده أنبياء الله قد خُتِمـــوا


*****


فليس قولك (من هذا) بِضـــائـــِـرِهِ ( بمنقص منه )


العرب تعرف من أنكـــرت والعـجم


*****


كِلتَا يَدَيه غيــــاث ( مغدقة كثيرة العطاء ) عَــــــمَّ نفعـــــها


يستوكفان ولا يعـــروهما عـــــدم


*****


سهل الخليقة ( الطبيعة ) لا تخشــى بـــوادره ( الحدة والقسوة )


يزينه اثنان: حسن الخلق والشيم


*****


ما قال (لا) قَطُّ إلا فـــي تشــــهُّدِهِ


لولا التشـــهد كانــت لاءَهُ نعــــــم


*****


عمَّ البرية بالإحســان فانقشعــــت ( زالت )


عنها الغياهب ( الظلمات ) والإمـــلاق ( الفقر ) والعـــدم


*****


إذا رأتـــه قريـــش قـــــال قائِلُـــها


إلى المكارم هـــذا ينتهي الكَـــرَمُ


*****


يغضي ( يغض طرفه حياءً ) حياء ويغضى من مهابــــته


فما يكـــــلم إلا حيــــــن يبتســـم


*****


بِكَفِّهِ خيزرانٌ ريحهُ عَبِقٌ ( الذي تفوح منه رائحة الطيب )


من كَفِّ أروع ( الشهم الذكي ) , في عِرنِينِهِ ( الأنف ) شمَمُ ( ارتفاع قصبة الأنف وحُسنها – فيه عزة وأنفة )


*****


مُشتقَّةٌ من رسول الله نَبعتُهُ ( الأصل الكريم )


طابَبت مغارِسُهُ ( منابته وأُصولة ) والخِيمُ ( السّجية والطّبيعة ) والشِّيَمُ




***




رضي الله عن سِبط رَسولِ الله وأرضاه


فقد كان صُورةً فَذَّةً للذي يخشى الله في السِّرِّ والعلن


ويُضنِي النفس خوفاً من عقاب الله


وطمعاً في ثوابِهِ


للمؤلف / عبد الرحمن رأفت باشا
الراضية بقضاء ربها غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس