12-08-07, 12:38 PM
|
#13
|
جُهدٌ لا يُنسى
|
*
*
*
الحصة الثالث عشرة
فصل
الفرق بين حسن الظن والغرور :
فقد تبين الفرق بين حسن الظن والغرور ، وأن حسن الظن إن حمل على العمل وحث عليه وساعده وساق إليه فهو صحيح ، وإن دعا إلى البطالة والانهماك في المعاصي فهو غرور ، وحسن الظن هو الرجاء ، فمن كان رجاؤه هاديا له إلى الطاعة ، و زاجرا له عن المعصية ، فهو رجاء صحيح ، ومن كانت بطالته رجاء ، ورجاؤه بطالة وتفريطا ، فهو المغرور .
ولو أن رجلا كانت له أرض يؤمل أن يعود عليه من مغلها ما ينفعه فأهملها ولم يبذرها ولم يحرثها ، وحسن ظنه بأنه يأتي من مغلها ما يأتي من غير حرث وبذر وسقي وتعاهد الأرض لعده الناس من أسفه السفهاء .
وكذلك لو حسن ظنه وقوى رجاءه بأنه يجيئه ولد من غير جماع أو يصير أعلم أهل زمانه من غير طلب العلم وحرص تام عليه ، وأمثال ذلك .
فكذلك من حسن ظنه وقوي رجاؤه في الفوز بالدرجات العلا والنعيم المقيم ، من غير طاعة ولا تقرب إلى الله تعالى بامتثال أوامره ، واجتناب نواهيه . وبالله التوفيق.
وقد قال الله تعالى : {{إن الذين آمنوا والذين هاجروا وجاهدوا في سبيل الله أولئك يرجون رحمت الله }} البقرة218 . فتأمل كيف جعل رجاءهم بإتيانهم بهذه الطاعات ؟
و قال المغرورون : إن المفرطين المضيعين لحقوق الله المعطلين لأوامره الباغين على عباده المتجزئين على محارمه ، أولئك يرجون رحمة الله !!
وسر المسألة : أن الرجاء وحسن الظن إنما يكون مع الإتيان بالأسباب التي اقتضتها حكمة الله في شرعه وقدره وثوابه وكرامته ، فيأتي العبد بها ثم يحسن ظنه بربه ، ويرجوه أن لا يكله إليها وأن يجعلها موصلة إلى ما ينفعه ويضرب عما يعارضها ويبطل أثرها .
فصل
الرجاء والأماني :
ومما ينبغي أن يُعلم أن من رجا شيئا رجاؤه ثلاثة أمور :
أحدها : محبته ما يرجوه .
الثاني : خوفه من فواته .
الثالث : سعيه في تحصيله بحسب الإمكان .
وأما رجاء لا يقارنه شيء من ذلك فهو من باب الأماني ، والرجاء شيء والأماني شيء آخر ، فكل راجٍ خائف ، والسائر على الطريق إذا خاف ، أسرع السير مخافة الفوات.
وفي ’’جامع الترمذي’’ من حديث أبي هريرة قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : {{من خاف أدلج ، ومن أدلج بلغ المنزل ، ألا إن سلعة الله غالية ألا إن سلعة الله الجنة }}.
وهو سبحانه كما جعل الرجاء لأهل الأعمال الصالحة ، فكذلك جعل الخوف لأهل الأعمال الصالحة ، فعلم أن الرجاء والخوف النافع هو ما اقترن به العمل .
قال الله تعالى : {{إن الذين هم من خشية ربهم مشفقون والذين هم بآيات ربهم يؤمنون والذين هم بربهم لا يشركون والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة إنهم إلى ربهم راجعون أولئك يسارعون في الخيرات وهم لها سابقون }} المؤمنون57-61
وقد روى الترمذي في ’’جامعه’’ عن عائشة رضي الله عنها قالت : سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن هذه الآية ، فقلت : أهم الذين يشربون الخمر ويزنون ويسرقون ؟ فقال : {{ لا يا ابنة الصديق ، ولكنهم الذين يصومون ويصلون ويتصدقون ، ويخافون أن لا يتقبل منهم ، أولئك يسارعون في الخيرات }} وقد روي من حديث أبى هريرة أيضا .
والله سبحانه وصف أهل السعادة بالإحسان مع الخوف ، ووصف الأشقياء بالإساءة مع الأمن .
خوف الصحابة من الله :
من تأمل أحوال الصحابة رضي الله عنهم وجدهم في غاية العمل مع غاية الخوف ، ونحن جميعا بين التقصير ، بل التفريط والأمن :
فهذا الصديق رضي الله عنه يقول : وددت أني شعرة في جنب عبد مؤمن .ذكره أحمد عنه .
وذكر عنه أيضا أنه كان يمسك بلسانه ويقول : هذا الذي أوردني الموارد ، وكان يبكي كثيرا ويقول : ابكوا ، فإن لم تبكوا فتباكوا .
وكان إذا قام إلى الصلاة ، كأنه عود من خشية الله عز وجل .
وأتى بطائر فقلبه ثم قال : ما صيد من صيد ، ولا قطعت من شجرة إلا بما ضيعت من التسبيح . فلما احتضر قال لعائشة : يا بنية ، إني أصبت من مال المسلمين هذه العباءة وهذه الحلاب وهذا العبد ، فأسرعي به إلى بن الخطاب .
وقال : والله لوددت أني كنت هذه الشجرة تؤكل وتُعْضد .
وقال قتادة : بلغني أن أبا بكر قال : ليتني خضرة تأكلني الدواب .
وهذا عمر بن الخطاب قرأ سورة الطور حتى بلغ : {{ إن عذاب ربك لواقع }} الطور7 فبكى واشتد بكاؤه حتى مرض وعادوه .
وقال لابنه وهو في الموت : ويحك ضع خدي على الأرض ، عساه أن يرحمني ، ثم قال : بل ويل أمي ، إن لم يغفر الله لي - ثلاثا - ثم قضى .
وكان يمر بالآية في ورده بالليل فتخيفه ، فيبقى في البيت أياما يُعاد ، ويحسبونه مريضا.
وكان في وجهه رضي الله عنه خطان أسودان من البكاء .
وقال له ابن عباس : مصَّر الله بك الأمصار ، وفتح بك الفتوح ، وفعل و فعل فقال : وددت أني أنجو لا أجر ولا وزر.
وهذا عثمان بن عفان رضي الله عنه ، كان إذا وقف على القبر يبكي حتى تبل لحيته ، وقال : لو أنني بين الجنة والنار لا أدري إلى أيتهما يؤمر بي ، لاخترت أن أكون رمادا قبل أن أعلم إلى أيتهما أصير .
وهذا علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، وبكاؤه وخوفه ، وكان يشتد خوفه من اثنتين طول الأمل واتباع الهوى ، قال : فأما طول الأمل فينسي الآخرة ، وأما اتباع الهوى فيصد عن الحق ، ألا وإن الدنيا قد ولت مدبرة ، والآخرة مقبلة ، ولكل واحدة منهما بنون ، فكونوا من أبناء الآخرة ، ولا تكونوا من أبناء الدنيا ، فإن اليوم عمل ولا حساب ، وغدا حساب ولا عمل .
وهذا أبو الدرداء رضي الله عنه ، كان يقول : إن أشد ما أخاف على نفسي يوم القيامة أن يقال لي : يا أبا الدرداء ، قد علمت ، فكيف عملت فيما علمت ؟ وكان يقول : لو تعلمون ما أنتم لاقون بعد الموت لما أكلتم طعاما على شهوة ولا شربتم شرابا على شهوة ، ولا دخلتم بيتا تستظلون فيه ، ولخرجتم إلى الصعيد تضربون صدوركم ، وتبكون على أنفسكم ، ولوددت أني شجرة تعضد ثم تؤكل .
و كان عبد الله بن عباس رضي الله عنه كان أسفل عينيه مثل الشراك البالي من الدموع.
وكان أبو ذر يقول : يا ليتني كنت شجرة تعضد ، وودت أني لم أخلق . وعرضت عليه النفقة فقال : ما عندنا عنز نحلبها وحمر ننقل عليها ، ومحرر يخدمنا وفضل عباءة ، وإني أخاف الحساب فيها .
وقرأ تميم الداري ليلة سورة الجاثية ، فلما أتى على هذه الآية : {{ أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات }} الجاثية21 ، جعل يرددها ويبكى حتى أصبح .
وقال أبو عبيدة بن الجراح : وددت أني كبش فذبحني أهلي وأكلوا لحمي وحسوا مرقي . وهذا باب يطول تتبعه .
قال البخاري في ’’صحيحه’’ : ( باب خوف المؤمن أن يحبط عمله وهو لا يشعر ).
وقال إبراهيم التيمي : ما عرضت قولي على عملي إلا خشيت أن أكون مكذبا .
وقال بن أبي مليكة : أدركت ثلثين من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - كلهم يخاف النفاق على نفسه ، ما منهم أحد يقول : إنه على إيمان جبريل و ميكائيل .
ويذكر عن الحسن : ماخافه إلا مؤمن ، ولا أمنه إلا منافق .
وكان عمر بن الخطاب يقول لحذيفة : أنشدك الله هل سماني لك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؟ يعني في المنافقين ، فيقول : لا ، ولا أزكي بعدك أحدا .
فسمعت شيخنا رضي الله عنه يقول : ليس مراده : لا أبرىء غيرك من النفاق ، بل المراد لا أفتح على نفسي هذا الباب ، فكل من سألني هل سماني لك رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فأزكيه .
قلت : وقريب من هذا قول النبي - صلى الله عليه وسلم - للذي سأله أن يدعو له أن يكون من السبعين ألفا الذين يدخلون الجنة بغير حساب ’’ سبقك بها عكاشة ’’ ، ولم يرد أن عكاشة وحده أحق بذلك ممن عداه من الصحابة ، ولكن لو دعا لقام آخر وآخر وانفتح الباب ، وربما قام من لم يستحق أن يكون منهم ، فكان الإمساك أولى والله أعلم .
*
*
|
|
|