عرض مشاركة واحدة
قديم 01-02-13, 03:05 PM   #16
رقية مبارك بوداني
|تواصي بالحق والصبر|
مسؤولة الأقسـام العامة
افتراضي

ثم ينتقل القرآن إلى دائرة أوسع من دائرة (الفرد) وهمومه الشخصية، إلى دائرة (المجتمع) وقضايا الشأن العام وما تكابده من أزمات، ماذا يريد الله جلّ وعلا بتقدير هذه الأزمات المجتمعية؟
قطعاً هناك حكمة إلهية في تقدير هذه المصائب المجتمعية، فما هي يا ترى؟
إنها ليست شيئاً آخر غير تلك الحقيقة الكبرى الناظمة للقرآن والتي رأيناها تسري في شرايين الشواهد والنماذج السابقة، بكل وضوح ومباشرة يكشف الله سبحانه عن حكمته في تقدير هذه الأزمات المجتمعية فيقول: ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ (42) فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ﴾ [الأنعام:42-43]

ويحدد ربنا في موضع آخر مشابه ذات الخلفية ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ﴾[الأعراف: 94]

وتضيف آيةٌ أخرى مقاماً إيمانياً بديعاً مشابهاً للتضرع وهو "الاستكانة لله" يقول الله: ﴿وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ﴾[المؤمنون: 76]

هذه التغيرات التي تطرأ على الفرد والمجتمع بشكل عام يريد بها الله أن نعود إليه كما يقول الله: ﴿وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾[الأعراف: 168]

هذا هو الدرس الأساسي في ظاهرة المصائب الجالبة للهموم الفردية والمجتمعية، كالفقر والمرض والأزمات الاقتصادية والكوارث الطبيعية، يريد الله جل وعلا أن تكون جسراً إليه سبحانه، يريد الله بها أن توقظ قلوبنا فتستكين لله، وتتضرع له سبحانه، وتتعلق به جل وعلا، قارن هذا بنمط تعاملنا مع هذه الظواهر يستبِن لك بعدنا عن الحقيقة الكبرى الناظمة للقرآن..

ومن التعابير الشمولية التي استعملها القرآن لتربية هذه الحقيقة الكبرى في النفوس قول الله سبحانه في خواتيم سورة الأنعام: ﴿قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾[الأنعام، 162].
فانظر كيف شملت هذه الآية أصول العبادات، والحياة، والممات؛ وجعلت كل ذلك لله سبحانه..

قد يعرف الكثير من الناس اليوم كيف يصلي لله، وكيف يحج لله.. لكن القليل من الناس يدرك كيف يحيا حياته لله، وكيف يموت لله؟!
وهذه الآية العظيمة تزكي النفوس بهذا المقام العظيم الذي هو لب القرآن..

ويحدثنا مطلع سورة الأنفال عن إرهاصات معركة بدر، ثم تفاعلاتها وتطوراتها بين الاستيلاء على قافلة قريش أو المواجهة العسكرية، حتى يصل السياق إلى النصر العظيم الذي حققه المسلمون في قتالهم لجيش الكفار وسحقهم.. أتدري أين العجب في ذلك كله، أن القرآن بعد شرح هذه الأحداث المتلاحقة يعقب تعقيباً مدهشاً في تربية التعلق بالله ونسبة الفضل له سبحانه، بالله عليك تأمل هذا التعقيب القرآني على غزوة بدر: ﴿فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى﴾[الأنفال: 17]

يا لله العجب .. فالصحابة المجاهدون هم الذين قاتلوا، والنبي صلى الله عليه وسلم هو الذي رمى التراب وقال "شاهت الوجوه"، ومع ذلك يقول القرآن: لا، لستم أنتم الذين قتلتموهم، ولا أنت يا رسول الله الذي رميت، ولكنه الله سبحانه هو الذي قتلهم، وهو الذي رمى، والمعنى أن الله هو الذي أظفركم بهم، لكن من شدة نسبة الفضل إلى الله نسب إليه الفعل ذاته!
فانظر كيف تُشرَع القلوب إلى السماء وتتخلص من حبال التثاقل إلى الأرض..

وإذا تأمل متدبر القرآن هذه الآية ﴿وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى﴾ لوجد فيها إثباتاً ونفياً، فأثبت لرسول الله رمياً، ونفى عنه رمياً آخر، فالمثبت هو الحذف والإلقاء، والمنفي هو الإيصال والتبليغ، كما حرره أبو العباس ابن تيمية، وذكر - رحمه الله - في موضع آخر في الآية ثلاثة أوجه وناقشها، وهي في الفتاوى (15/39) لمن أراد التوسع.

ويشبه هذا المعنى المذكور في سورة الأنفال آية أخرى في سورة التوبة يقول الله فيها: ﴿قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ﴾[التوبة: 14]
فانظر كيف نسب السبب لأيدي الصحابة، ونسب الأثر لله سبحانه وتعالى!
فصحيح أنكم أنتم الذين تقاتلونهم لكن الله هو الذي يعذبهم بذلك!

لا يتوقف مشهد تعليق القلوب بالله في المجتمع المسلم، بل إن القرآن يوجه قارئه إلى تربية التعلق بالله في نفوس (الأسرى) .. إنهم الأسرى الذين هم مجموعة من الكفار المحاربين الذين تعذر عليهم إتمام مهمتهم الخبيثة!
ومع ذلك يحثنا كتاب الله على تفقيههم في معاني (أعمال القلوب) يقول الله في سورة الأنفال:
﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرَى إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾[الأنفال: 70]

يجب أن يدرك الأسرى أن الموضوع كله متعلقٌ بما في القلوب!

ولما ذكر الله قصة الثلاثة الذين خلِّفوا وهم كعب بن مالك وصاحبيه، وهي مرويةٌ بطولها في صحيح البخاري، شرحت الآيات حالة استغلاق الهم والغم الذي أصاب هؤلاء الثلاثة، ثم وصلت الآية إلى جوهرها وهو "الحالة الإيمانية" التي يحبها الله سبحانه، وثمّنها منهم، وجعلتها الآية ختام المشهد، يقول الله سبحانه:
﴿وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ﴾[التوبة: 118]

أرأيت؟!
ما أبدع عرض الآية لهذا المقام الإيماني في سياق تفاعلات الهم والغم، فبعد أن ضاق عليهم الخارج (الأرض بما رحبت) وضاق الداخل (وضاقت عليهم أنفسهم) تصل الآية إلى ذروة الإيمان ﴿وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ﴾



توقيع رقية مبارك بوداني

الحمد لله أن رزقتني عمرة هذا العام ،فاللهم ارزقني حجة ، اللهم لا تحرمني فضلك ، وارزقني من حيث لا أحتسب ..


رقية مبارك بوداني غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس