فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ (9) وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ (10) وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ (11)
القهر في اللغة هو التسلط بما يؤذي ولا تقهره بمعنى لا تظلمه بتضييع حقه ولا تتسلط عليه أو لا تحتقره أو تغلب على ماله , كل هذه المعاني تدخل تحت كلمة القهر.
السائل اختلف المفسرون فيها فقال بعضهم : هو سائل المال والمعروف والصدقة ومنهم من قال : أنه سائل العلم والدين والمعرفة وقسم قال : أنه مطلق ويشمل المعنيين.
فسواء كان السائل سائل مال وصدقة أو سائل علم ومعرفة يجب أن لا ينهر مهما كان سؤاله.
لا يصح أن يزجز أو ينهر سائل المال أو سائل العلم والدين , إذا كان سائل مال أعطيناه أو رددناه بالحسنى وسائل العلم علينا أن نجيبه ونعلمه أمور الدين.
أما النعمة فقال بعض المفسرين : أنها النبوة وتعاليمها وقال آخرون: أنها كل ما أصاب الإنسان من خير سواء كان في الدنيا أو الآخرة وقال آخرون : أنها نعمة الدين (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الاسلام دينا) (ما انت بنعمة ربك بمجنون) والواقع أن النعمة هنا أيضاً تشمل كل هذه المعاني فهي نعمة الدين يجب أن يتحدث بها ويبلغ عنها وهي نعمة الدنيا والله سبحانه يحب أن يرى أثر نعمته على عباده وأن يتحدث الانسان بنعم الله عليه وأن يظهرها والنعمة عامة في الدنيا والدين وعلى الإنسان أن يحدث بهذه النعمة.
(النَّعمة بفتح النون وردت في القرآن بمعنى العقوبات والسوء كما في قوله: (ونَعمة كانوا فيها فاكهين) (الكافرين أولي النَّعمة) )
لماذا اختيار كلمة (فحدث) ولم يقل (فأخبر)؟
الإخبار لا يقتضي التكرار يكفي أن تقول الخبر مرة واحدة فيكون إخباراً أما التحديث فهو يقتضي التكرار والإشاعة أكثر من مرة، وفي سياق الآية يجب أن يتكرر الحديث عن الدعوة إلى الله مرات عديدة ولا يكفي قوله مرة واحدة. ولهذا سمى الله تعالى القرآن حديثًا (فليأتوا بحديث مثله) فمعنى (فحدث) في هذه الآية هو المداومة على التبليغ وتكرارها وليس الإخبار فقط فيمكن أن يتم الإخبار مرة واحدة وينتهي الأمر. وفي تسلسل الأحاديث في كتب السنة نلاحظ أنهم يقولون: حدثنا فلان عن فلان ويكررون ذلك مرة أو مرات عديدة حتى يصلوا إلى أخبرنا رسول الله r فالرسول الكريم يخبر بالحديث ثم يتناقله الصحابة فيما بينهم ويستمر تناقل الحديث حتى يعم وينتشر.
لماذا جاء ترتيب الآيات على هذا النحو؟ (فأما اليتيم فلا تقهر، وأما السائل فلا تنهر، وأما بنعمة ربك فحدث).
أثار هذا الترتيب الكثير من الأسئلة عند المفسرين لماذا رتبت الآيات على هذه الصورة؟ لأنه لا يرد بنفس تسلسل الآيات السابقة :(ألم يجدك يتيما فآوى، ووجدك ضالا فهدى، ووجدك عائلاً فأغنى).
لنستعرض الآيات واحدة واحدة: أما اليتيم فلا تقهر جاءت بنفس تسلسل الآية (ألم يجدك يتيما فآوى) نفس النسق.
أما السائل فلا تنهر كان من المفروض أن تأتي مقابلة للآية : (ووجدك عائلا فأغنى) لكنها جاءت في مقابل الآية : (ووجدك ضالاً فهدى)
وأما بنعمة ربك فحدث، كان يجب أن تقدم باعتبار النعمة دين ويجب أن تكون مقابل : (ووجدك ضالاً فهدى)
لكن الواقع أن ترتيب الآيات كما ورد في السورة هو الترتيب الأمثل، كيف؟ اليتيم ذكر أولا مقابل اليتيم، ثم ذكر: (وأما السائل فلا تنهر) قلنا سابقًا: أن السائل يشمل سائل العلم والمال وهنا أخذ بعين الإعتبار السائل عن المال والسائل عن العلم فهي إذن تكون مقابل : (ووجدك ضالاً فهدى) وأيضاً (ووجدك عائلا فأغنى) لأن السائل عن المال يجب أن لا ينهر والسائل عن العلم يجب أن لا ينهر أيضاً وعليه فإن الآية جاءت في المكان المناسب لتشمل الحالتين ومرتبطة بالاثنين تماما.
وأما بنعمة ربك فحدث، هي في أنسب ترتيب لها فإن كان المقصود بالنعمة كل ما أصاب الانسان من خير في الدنيا فلا يمكن أن نتحدث عن النعمة إلا بعد وقوعها وليس قبل ذلك. والآيات السابقة تذكر نعم الله على الرسول فاقتضى السياق أن يكون التحدث بالنعمة آخراً أي بعد حدوث كل النعم على الرسول r.
وإذا كان المقصود بالنعمة الدين، فيجب أن يكون التحديث في المرحلة الأخيرة لأن على الداعية أن يتحلى بالخلق الكريم وفيه إشارة أن الإنسان إذا آتاه سائل عليه أن يتصف بهذه الصفات قبل أن يبلغ الناس عن النعمة (الدين) فعليه أن لا يقهر يتيماً ولا ينهر سائلاً ولا يرد عائلاً وقد جاءت هذه الآية بعد إسباغ النعم وهو توجيه للدعاة قبل أن يتحدثوا أن يكونوا هينين لينين فقد قال تعالى : (ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك) فعلى الداعية أن يتحلى بالخلق الحسن ولا ينهر سائلاً.
وكذلك جعل التحديث بالنعمة (وأما بنعمة ربك فحدث) جاءت بعد ( واما السائل فلا تنهر) لأن كل داعية يتعرض لأسئلة محرجة أحيانا تكون لغاية الفهم وقد تكون لنوايا مختلفة فعليه أن يتسع صدره للسائل مهما كانت نية السائل أو قصده من السؤال وعلى الداعية أن لا يستثار وإلا فشل في دعوته وقد يكون هذا هو قصد السائل أصلاً .
تم بحمد الله
|