تقديم الأحفظ للقرآن في الدفن في قبر واحد
بل قد ذهب النبي عليه الصلاة والسلام في ربط الأمة بالقرآن مذهباً بعيداً لا تتصوره العقول، فلما كان ما كان في يوم أحد وجاء النبي عليه الصلاة والسلام يدفن الشهداء كان يدفن الاثنين والثلاثة والأربعة في القبر الواحد، فكان يسأل: (أيهم أحفظ لكتاب الله؟) فيقدمه في قبره ولحده؛ ليبين لهم النبي عليه الصلاة والسلام أن هذا القرآن هو شرف هذا المؤمن وعزه، وأن طريقه إلى الله عز وجل موسومة مرسومة بكتاب الله عز وجل وبارتباطه به. ولذلك عندما ننظر إلى هذه الصور نجد أن النبي عليه الصلاة والسلام أراد أن يكون هو القدوة لهم عندما كان يقرأ ويسمع ويطلب السماع عليه الصلاة والسلام، ثم جعل خير الدنيا والآخرة ورفعة الدنيا ورفعة الآخرة والتقدم في أمر الدنيا وفي أمر الآخرة كل ذلك جعله مربوطاً بكتاب الله عز وجل؛ ليعلم كل فرد في هذه الأمة أنه إذا أراد الفلاح والنجاح والأجر والمثوبة والتقدم والخيرية فإن طريقه عبر كتاب الله سبحانه وتعالى. ......
صور من حياة الصحابة في تأثرهم بالقرآن وبسنة النبي صلى الله عليه وسلم
انتقل إلى نقطة ثانية، وهي صور من مجتمعات الصحابة والمجتمعات الإسلامية الأولى المتعلقة بأثر هذا النزول القرآني وبأثر ذلك المنهج النبوي، وكيف كان انعكاسه على الصحابة رضوان الله عليهم، إنها صور عجيبة فريدة تبين لنا كيف كان القرآن هو الحياة وكانت الحياة هي القرآن في مجتمعات المسلمين في القرون الفاضلة.
فهذا عمر بن الخطاب - كما في صحيح البخاري - يقول: (كنت أنا وجار لي من الأنصار نتناوب النزول على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيرد إلى المسجد وأرد إلى السوق ليستمع ما ينزل من الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا كان آخر اليوم أخبرني بما نزل من القرآن) فإذا كان اليوم الثاني غير كل موقعه. هذه الصورة تبين لنا أن الصحابة قسموا الحياة نصفين: فنصف جعلوه للعمل وكسب الرزق والقوت بما ييسر الله عز وجل. ونصف جعلوه لئلا يفوتهم من القرآن ومن سنة المصطفى عليه الصلاة والسلام شيء أبداً. وكان بالإمكان أن يُجعل ذلك على تراخٍ وتهاون، وأن يسأل عنه عندما يفرغ من عمله إذا وجد الفرصة المناسبة، أو لا يسأل حتى يأتي من يخبره.
لقد كان أثر ذلك المنهج من الرسول عليه الصلاة والسلام منعكساً، فجعلوا الأهمية العظمى لتلقي هذا القرآن وفهمه وتدبره وحمله والعمل به.
وننظر إلى صورة أخرى في البخاري -أيضاً- عن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (إني لأعرف أصوات رفقة الأشعريين بالقرآن حين يدخلون بالليل، وأعرف منازلهم من أصواتهم بالقرآن بالليل، وإن كنت لم أر منازلهم حين نزلوا بالنهار)، والأشعريون قوم أبي موسى الأشعري من أهل اليمن، وكانوا إذا جاءوا في الليل يعرف النبي عليه الصلاة والسلام أن القوم قد وصلوا، وأنهم نزلوا في شرق المدينة أو غربها، فلقد كان القرآن هو الذي يُحيا به الليل، وتعمر به المحاريب، وتلهج به الألسنة، وتُستجاش به مشاعر القلوب والنفوس.
وهناك صورة أخرى، فـسعد رضي الله عنه عندما فتح الله عليهم في القادسية أرسل إلى عمر يبشره بالفتح، وكان في ضمن كتابه أنه قال: ذهب من الناس فلان وفلان -يعني استشهدوا- ممن لا تعلمهم -أي: ولا تعرفهم ولا تعرف أسماءهم؛ لأنهم مجهولون مغمورون، لكنهم مؤمنون مجاهدون- الله بهم عالم، كانوا يدوون بالقرآن كدوي النحل في الليل. ومتى هذا؟ إنه في السفر والحرب، فكيف إذا كانوا في الحضر وإذا كانوا في الأمن؟! فكان هذا دأبهم وهم في المعارك على صهوات الجياد، وهم في الخوف في حراسة الثغور كان هذا دأبهم،
كما عند البخاري من غير تسمية الأسماء، وعند غيره بتسمية عباد بن بشر ورفيق له أنهما كانا مكلفين بحماية المسلمين في ليلة من الليالي، فنام أحدهما وقام الآخر يصلي ما شاء الله له أن يصلي ويقرأ ما شاء الله له أن يقرأ، فأصابه سهم وهو واقف يصلي، فنزعه ومضى في صلاته، فأصابه الثاني فنزعه ومضى في صلاته، فأصابه الثالث فقال لصاحبه لما أنكر عليه أنه لم يوقظه: لولا خشية أن يؤتى المسلمون من قبلي ما أيقظتك كراهة أن أقطع صلاتي.
كان هذا هو وصف القوم وارتباطهم بكتاب الله عز وجل، وكان معلوماً في صفوف الجيوش الإسلامية وراياتها أن في كل فرقة وكتيبة قارئاً، وإذا التحمت الصفوف وحمي الوطيس كان القارئ يقرأ سورة (الأنفال) يهيج بها على الجهاد، ويقوي بها العزائم، ويثبت بها الأقدام، ويشوق إلى لقاء الله عز وجل، فكانت القلوب حينئذ تطير من صدورها وتهفوا إلى لقاء ربها، وتتوق إلى نعيم الله عز وجل. ولذلك كان هذا القرآن يتقدم مسيرة الأمة في كل منحىً من مناحي حياتها،
وعندما نرى الشرف والمنزلة والتقديم والتعظيم يأتينا أمر ابن عباس ذلك الغلام الصغير والفتى الذي لم يكن عمره عندما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم يتجاوز الخامسة عشرة، وفي بعض الروايات أنه كان ابن ثلاث عشرة سنة، وفي بعضها أنه كان ابن عشر سنين. ذلك الشاب كان يدخل مجلس عمر رضي الله عنه، وكان مجلس عمر يضم كبار الصحابة من المهاجرين والأنصار من البدريين المتقدمين في الإسلام، فقال بعض الأنصار: يا أمير المؤمنين! إن عندنا من أبنائنا من هو في مثل سن هذا، فلماذا تقدمه عليهم؟ فسكت عمر حتى إذا ضمه المجلس سأل فقال: ما تقولون في قول الله عز وجل:
إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا
[النصر:1-3]؟ فأجاب بعض الصحابة وقال: بشر الله رسوله بالفتح وبدخول الناس في دين الله أفواجاً، ومنَّ عليه بذلك، وأمره أن يسبح إزاء هذه النعمة. وكل قال قولاً. فالتفت إلى ابن عباس الغلام الصغير فقال: ما تقول فيها يا ابن عباس ؟! قال: هو أجل رسول الله صلى الله عليه وسلم نعي إليه) يعني أنه قد أراد الله عز وجل أن يشير إلى رسوله أنه قد اقترب أجله وانتقاله إلى ربه ومولاه؛ لأنه إذا بلغ الرسالة وفتح الله عليه ودخل الناس في دين الله أفواجاً فقد أكمل ما عليه، وأوشك أن ينتقل إلى خالقه ومولاه، فقال عمر : (والله! ما أعلم منها إلا ما قلت يا ابن عباس !)، وبهذا شرفه عمر وقدمه، فكان أهل القرآن هم المقدمون والمستشارون والمعظمون في مجتمع المسلمين. ......
اهتمام الصحابة بعدم الاختلاف في القرآن
وانظر كذلك إلى مواقف أخرى كثيرة تبين لنا هذا الشأن، فقد كان القرآن هو الذي يلفت الأنظار، وهو الذي يحدد المواقف، ففي صحيح الإمام مسلم عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه -و عمر له قصص كثيرة فيها مزية الغيرة لدين الله والاهتمام بشرع الله وبدين الله- قال: (سمعت هشام بن حكيم يقرأ سورة الفرقان، فإذا هو يقرأها على غير ما أقرأنيها رسول الله صلى الله عليه وسلم)، وتأمل في كون الذي أقرأه إياها هو الرسول عليه الصلاة والسلام؛ فإنه كان هو الذي يعلم الصحابة القرآن، إنها مهمة رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: (سمعته فإذا هو يقرأها على غير ما أقرأنيها رسول الله عليه الصلاة والسلام - وكان هشام يصلي ويقرأ- قال عمر : فكدت أساوره في الصلاة) يعني: كاد أن يقطع عليه صلاته لينكر عليه هذه القراءة؛ لأنه تلقاها عن الرسول وعنده منها علم وبينة، قال: (فانتظرته حتى سلم فلببته بردائه وانطلقت به أجره إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم). هكذا كان عمر ، وهكذا كان حرصهم على القرآن أن لا يحرف وأن لا يغير وأن لا يُدخل فيه ولا يزاد عليه، وفي هذا قصص عجيبة وأمثلة كثيرة، قال: (فلببته بردائه وأخذته إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: يا رسول الله! إني سمعت هذا يقرأ سورة الفرقان على غير ما أقرأتني. فقال الرسول عليه الصلاة والسلام: أرسله يا عمر. اقرأ يا هشام !). فقرأ هشام ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: هكذا أُنزلت. وقرأ عمر فقال: هكذا أُنزلت، إن القرآن أُنزل على سبعة أحرف). ......