(إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ (6)"فهؤلاء هم الذين يبقون على سواء الفطرة ويكملونها بالإيمان والعمل الصالح. ويرتقون بها إلى الكمال المقدّر لها"
وظاهر أن معنى الآية يتسع لكل ما ذكروه، وهي تفيد أيضاً أن حياة غير المؤمن نكد وغمّ، وعيشة ضنك وشقاء قال تعالى: "وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى (124)" طه وقال: "حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ (31)" الحج.
فحياة هؤلاء هابطة سافلة بل هم في أسفل سافلين. ثم لننظر إلى الاستثناء وهو قوله تعالى: "إلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ (6)" فإنه استثنى من الرد أسفل سافلين مَنْ آمن وعمل صالحاً ولم يزد على ذلك، فلم يقل مثل ما قال في سورة العصر: "وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ (3)" وذلك لاختلاف الموطنين، فإن سورة العصر في بيان الخسران الذي يصيب الإنسان، وسورة التين فيما يُنجي من دركات النار، قال تعالى: "وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ (3)" العصر فبيّن لنا أن الإيمان والعمل الصالح يمنعه من الرد أسفل سافلين. ولكن لا يمنعه من الخسران الذي يفوته فيما لو تواصى بالحق وبالصبر فإن كلّ من ترك شيئاً من ذلك خسر شيئاً من الأجر الذي كان يربحه فيما لو فعله، فانظر الفرق بين الموطنين وبين الاستثنائين.
جاء في (التبيان) : "وتأمل حكمة القرآن لما قال: (إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2)) فإنه ضيّق الاستثناء وخصصه فقال: "إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ (3)) ولمّا قال (ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ (5)" وسّع الاستثناء وعممه فقال: "إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ(6)" ولم يقل (وتواصوا) فإن التواصي هو أمر الغير بالإيمان والعمل الصالح، وهو قدر زائد على مجرد فعله. فمن لم يكن كذلك فقد خسر هذا الربح فصار في خُسر، ولا يلزم أن يكون في أسفل سافلين.
فإن الإنسان قد يقوم بما يجب عليه ولا يأمر غيره، فإن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مرتبة زائدة. وقد تكون فرضاً على الأعيان، وقد تكون فرضاً على الكفاية وقد تكون مستحبّة.
والتواصي بالحق يدخل فيه الحق الذي يجب، والحق الذي يُستحب، والصبر يدخل فيه الصبر الذي يجب والصبر الذي يُستحب. فهؤلاء إذا تواصوا بالحق وتواصوا بالصبر حصل لهم من الربح ما خسره أولئك الذين قاموا بما يجب عليهم في أنفسهم ولم يأمروا غيرهم به. وإن كان أولئك لم يكونوا من الذين خسروا أنفسهم وأهليهم. فمطلق الخسار شيء، والخسار المطلق شيء ". 19
ثم قال: "فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ"قيل: ومعنى غير ممنون غير منقوص ولا منقطع، وقيل معناه غير مكدر بالمنّ عليهم 20. والحق أن كل ذلك مراد وهو من صفات الثواب، لأنه يجب أن يكون غير منقطع ولا منغصاً بالمنة 21.
فقال: (غير ممنون) ليجمع هذه المعاني كلها، ولم يقل غير مقطوع ولا نحو ذلك فيفيد معنى دون آخر.
ثم انظر كيف زاد الفاء في قوله (فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ) ولم يفعل مثل ذلك في آية شبيهة بها وهي قوله: "إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (25)" الانشقاق بدون فاء. وذلك لأن السياقين مختلفان، فسياق سورة الانشقاق أكثره في ذكر الكافرين، وقد أطال في ذكرهم ووصف عذابهم فقال: "وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ (10) فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا (11) وَيَصْلَى سَعِيرًا (12) إِنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُورًا (13) إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ (14) بَلَى إِنَّ رَبَّهُ كَانَ بِهِ بَصِيرًا (15)" الانشقاق. ثم قال مقرّعاً للكافرين مؤنّباً لهم: "فَمَا لَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (20) وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآَنُ لَا يَسْجُدُونَ (21) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ (22) وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُوعُونَ (23) فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (24) إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (25)"
في حين لم يزد في الكلام على المؤمنين عن قوله: "فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ (7) فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا (8) وَيَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا (9)" الانشقاق.
فانظر كيف أطال في وصف الكافرين وأعمالهم وعقابهم، وأوجز في الكلام على المؤمنين، ولذا حذف الفاء من جزاء المؤمنين في سورة الانشقاق مناسبة للإيجاز. في حين لم يذكر الكافرين في سورة التين ولم يزد على أن قال: "ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ (5)" يعني الإنسان، وهو غير صريح في أن المقصود به الكافرون أو غيرهم كما أسلفنا.
ثم انظر إلى كل من السورتين كيف تناولت الكلام على الإنسان. فقد بدأت سورة الانشقاق بذكر كدح الإنسان ومشقته ونصبه: "يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ (6) " وتوعّده ربه بركوب الأهوال والشدائد المتتابعة التي يفوق بعضها بعضاً في الشدة فقال: "فَلَا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ (16) وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ (17) وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ (18) لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ (19)".
في حين بدأ في سورة التين بتكريم الإنسان فقال: "لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (4)" فناسب ذلك تأكيد استمرار أجره وعدم تنغيصه، وذلك بزيادة الفاء في التين دون الانشقاق.
ثم قال بعدها: "فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ (7)" والمعنى: أي شيء يجعلك أيها الإنسان مكذّباً بالجزاء بعد هذا الدليل الواضح؟ والمعنى أن خلق الإنسان من نطفة وتقويمه بشراُ سوياً وتدريجه في مراتب الزيادة إلى أن يكمل ويستوي مع تحويله من حال إلى حال، أوضح دليل على قدرة الخالق على الحشر والنشر 22 فإن الذي خلقك أقدر على أن يعيدك بعد موتك ويُنشئك خلقاً جديداً، وأن ذلك لو أعجزه لأعجزه خلقك الأول 23 .
فانظر جلالة ارتباط هذا الكلام بما قبله.
المراجـــع:
18 ـ في ظلال القرآن 30/194 19 ـ التبيان 91 20 ـ البحر المحيط 8/490، روح المعاني 30/176 21 ـ التفسير الكبير 32/11 22 ـ الكشاف 3/349، التفسير الكبير 32/12 23 ـ التبيان 6124 ـ انظر التبيان 33 وما بعدها، التفسير الكبير 32/12
يتبع بإذن الله
|