عرض مشاركة واحدة
قديم 24-05-25, 05:44 AM   #20
أم أبي تراب
نفع الله بك الأمة
Mo

تفسير سورة آل عمران
من آية 188إلى آية 200
" لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوا وَّيُحِبُّونَ أَن يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلَا تَحْسَبَنَّهُم بِمَفَازَةٍ مِّنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ "188.
كان الكلام قبل هذا مع أهل الكتاب و أنه قد أخذ عليهم الميثاق بتبيين كتابهم للناس فقصروا في ذلك و تركوا العمل به و اشتروا به ثمنًا قليلا فاستحقوا العقاب من ربهم.
وهنا ذكر حالا أخرى من أحوالهم ليحذر المؤمنين منها و هو أنهم كانوا يفرحون بما أتوا من التأويل و التحريف للكتاب والأعمال التي يتقربون بها إلى الله على زعمهم و يرون لأنفسهم شرفا فيه و فضلا بأنهم أئمة يُقتدَى بهم و كانوا يحبون أن يحمدوا بأنهم حفاظ الكتاب و مفسروه و هم لم يفعلوا شيئًا من ذلك و إنما فعلوا نقيضه إذ حولوه من الهداية إلى ما يوافق أهواء الحكام و أهواء العامة.
"أنَّ رِجَالًا مِنَ المُنَافِقِينَ علَى عَهْدِ رَسولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ كانَ إذَا خَرَجَ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ إلى الغَزْوِ تَخَلَّفُوا عنْه، وفَرِحُوا بمَقْعَدِهِمْ خِلَافَ رَسولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فَإِذَا قَدِمَ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ اعْتَذَرُوا إلَيْهِ، وحَلَفُوا وأَحَبُّوا أنْ يُحْمَدُوا بما لَمْ يَفْعَلُوا، فَنَزَلَتْ"لَا يَحْسِبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بما أتَوْا ويُحِبُّونَ أنْ يُحْمَدُوا بما لَمْ يَفْعَلُوا" الآيَةَ.الراوي : أبو سعيد الخدري -صحيح البخاري-الصفحة أو الرقم:4567.
عمومُ المعنى: أنه تعالَى يُخاطِبُ نبيَّه مُحمَّدًا صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أنْ لا يَظُنَّ هو، ولا يَظُنَّ الذين يَفرحون بما فَعَلوه من أعمالٍ -ككِتْمان العِلم لمَن سَأَلهم كاليهودِ، والتخلُّفِ عن الغزْوِ في سَبيلِ اللهِ تعالَى كالمنافِقين، وكأعمالِ المتزيِّنين للنَّاسِ المُرائين لهم بما لم يَشرَعْه اللهُ ورَسولُه- ويُحبُّون أنْ يُثنِيَ عليهم النَّاسُ بما لم يَعملوه؛ أنَّهم سيَنجُون مِن عَذابِ الله، بلْ لهم عَذابٌ أليمٌ!
وقد دلَّ مفهومُ قَولِه تعالَى "وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا"
آل عمران: 188. على أنَّ مَن أحبَّ أنْ يُحمَدَ ويُثنى عليه بما فعَلَه من الخيرِ واتِّباعِ الحقِّ، إذا لمْ يكُن قصْدُه بذلك الرِّياءَ والسُّمْعَةَ- أنَّه غيرُ مَذمومٍ، بلْ هذا مِن الأمورِ التي جازَى بها اللهُ تعالَى خَواصَّ خَلْقِه، وسَأَلوها مِنه، كما قال إبراهيمُ عليه السَّلامُ"وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ "الشعراء: 84.
والمراد ب " اللسان " القول . وفيه استحباب اكتساب ما يورث الذكر الجميل . واجعل لي ثناء حسنًا وذكرًا جميلا في الذين يأتون بعدي إلى ما شاء الله .
من فضل الله على العبد أن يجعل ألسنة الخلق تذكره بخير .. فقد تُمدح يومًا .. المهم أن يكون المدح صدقا فيك .. وليس شرطا أن تسمع ذكرك الحسن في حياتك ربما تثني عليك الأجيال القادمة..!! فـ أينما توقفت سفينة حياتك اترك أثرًا نافعًا .. وامض وشعارك "وَاجْعَل لي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ."
فَلَا تَحْسَبَنَّهُم بِمَفَازَةٍ مِّنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ:
-أنَّ مَرْوَانَ، قالَ: اذْهَبْ يا رَافِعُ، لِبَوَّابِهِ، إلى ابْنِ عَبَّاسٍ فَقُلْ: لَئِنْ كانَ كُلُّ امْرِئٍ مِنَّا فَرِحَ بما أَتَى وَأَحَبَّ أَنْ يُحْمَدَ بما لَمْ يَفْعَلْ، مُعَذَّبًا لَنُعَذَّبَنَّ أَجْمَعُونَ، فَقالَ ابنُ عَبَّاسٍ:ما لَكُمْ وَلِهذِه الآيَةِ؟ إنَّما أُنْزِلَتْ هذِه الآيَةُ في أَهْلِ الكِتَابِ، ثُمَّ تَلَا ابنُ عَبَّاسٍ"وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ" هذِه الآيَةَ، وَتَلَا ابنُ عَبَّاسٍ"لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بما أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بما لَمْ يَفْعَلُوا"، وَقالَ ابنُ عَبَّاسٍ: سَأَلَهُمُ النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ عن شيءٍ فَكَتَمُوهُ، إيَّاهُ وَأَخْبَرُوهُ بغَيْرِهِ، فَخَرَجُوا قدْ أَرَوْهُ أَنْ قدْ أَخْبَرُوهُ بما سَأَلَهُمْ عنْه وَاسْتَحْمَدُوا بذلكَ إلَيْهِ، وَفَرِحُوا بما أَتَوْا مِن كِتْمَانِهِمْ إيَّاهُ، ما سَأَلَهُمْ عنْه."الراوي : عبدالله بن عباس -صحيح مسلم -الصفحة أو الرقم :2778.
فَلَا تَحْسَبَنَّهُم بِمَفَازَةٍ مِّنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ :
فلا يظنون أنهم بمحل نجوة من العذاب وسلامة، بل قد استحقوه، وسيصيرون إليه، بلْ لهم عَذابٌ أليمٌ!
وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ: الجملة هذه استئنافية، لمَّا بيَّن أنهم ليسوا بناجين من العذاب أكد هذا بقوله:وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ: أليم بمعنى مؤلم موجع.
فهم يظنون أن انتصارهم في معركة الدنيا لا هزيمة بعده، ولكنه سبحانه قال بعد هذه الآية:
" وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ"189.
بعد قوله تعالى " فَلَا تَحْسَبَنَّهُم بِمَفَازَةٍ مِّنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ : قال سبحانه : وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ"
فلا أحد يستطيع أن يخرج من ملكه، وما دام لله ملك السماوات والأرض، فهذا الوعيد سيتحقق، فالله حين يوعد فهو - سبحانه - قادر على إنفاذ ما أوعد به، ولن يفلت أحد منه أبدًا.
فإذا ما سر أعداء الدين في فورة توهم الفوز، فالمؤمن يفطن إلى النهاية وماذا ستكون؟ ولذلك تجد أن الحق سبحانه وتعالى قال "تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ *مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ*سَيَصْلَىٰ نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ*وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ* فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِّن مَّسَدٍ"المسد:1:5.وهذه السورة قد نزلت في عم رسول الله صلى الله عليه وسلم . وكانت هذه السورة دليلا من أدلة الإيمان بصدق الرسول في البلاغ عن الله، لأن أبا لهب كان كافرا، وكان هناك كفرة كثيرون سواه، ألم يكن عمر بن الخطاب منهم؟ ألم يكن خالد بن الوليد منهم؟ ألم يكن عكرمة بن أبي جهل منهم؟ ألم يكن صفوان منهم؟ كل هؤلاء كانوا كفارا وآمنوا، فمن الذي كان يُدري محمدًا صلى الله عليه وسلم أنه بعد أن يقول "تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ *مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ*سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ*وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ* فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِّن مَّسَدٍ"المسد:1:5. من كان يدري محمدا بعد أن يقول هذا ويكون قرآنا يتلى ويحفظه الكثير من المؤمنين، وبعد ذلك كله من كان يدريه أن أبا لهب يأتي ويقول: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وقد يضيف: إن كان محمد يقول: إنني سأصلى نارا ذات لهب فهأنذا قد آمنت، من كان يدريه أنه لن يفعل، مثلما فعل ابن الخطاب، وكما فعل عمرو بن العاص. إن الذي أخبر محمدًا يَعلم أن أبا لهب لن يختار الإيمان أبدًا، فيسجلها القرآن على نفسه، وبعد ذلك يموت أبو لهب كافرًا.
إذن فقول الحق سبحانه بعد قوله" فَلَا تَحْسَبَنَّهُم بِمَفَازَةٍ مِّنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ" قال سبحانه بعدها " وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ"
يوضح لنا أنه قد ضم هذا الوعيد إلى تلك الحقيقة الإيمانية الجديدة.وواقعة لا محالة.فجميع المخلوقات محصورة بين سماء تظل، وأرض تقل، فكل منا محصور بين مملوكين لله، وما دام كل منا محصورًا بين مملوكين لله، فأين تذهبون؟إن لله الملك وله القدرة المطلقة ، ولا يعجزه أحدٌ.
بعد أن بيَّنَ- سبحانه - أن ملك السموات والأرض بقبضته، أشار- سبحانه - إلى ما فيهما من عبر وعظات فقال:
" إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِّأُولِي الْأَلْبَابِ "190.
الخلق: هو الابتداع على غير مثال سبق.
أي: إن في إيجاد السموات والأرض على هذا النحو البديع، وما فيهما من الآيات المشاهدة العظيمة من كواكب وبحار وزروع وأشجار ...وفي إيجاد الليل والنهار على تلك الحالة المتعاقبة، وفي اختلافهما طولا وقِصَرًا.. وفي كل ذلك لأمارات واضحة، وأدلة ساطعة، لأصحاب العقول السليمة على وحدانية الله-تبارك وتعالى- وعظيم قدرته، وباهر حكمته.
فالآية فيها حث للعباد على التفكر فيها، والتبصر بآياتها، وتدبر خلقها.وورد في هذه الآية : ويلٌ لمن قرأَها ولم يتفَكَّر فيها.
يَقولُ التَّابعيُّ عَطاءُ بنُ أبي رَباحٍ: دَخَلتُ أنا وعُبَيدُ بنُ عُمَيرٍ وهو أحَدُ التَّابِعينَ، على عائِشةَ رَضِيَ اللهُ عنها. دَخَلوا عِندَها لزيارَتِها وسُؤالِها "دخلتُ أَنا وعُبَيْدُ بنُ عُمَيْرٍ على عائشةَ فقالت لعُبَيْدِ بنِ عُمَيْرٍ : قد آنَ لَكَ أن تزورَنا ؟ فقالَ : أقولُ يا أمَّه كما قالَ الأوَّلُ زُرْ غِبًّا تزدَدْ حبًّا قالَ فقالَت دَعونا من رطانَتِكم هذِهِ قالَ ابنُ عُمَيْرٍ أخبرينا بأعجَبِ شيءٍ رأيتِهِ من رسولِ اللَّهِ - صلَّى اللَّهُ عليهِ وعلى آله وسلَّمَ - قالَ فسَكَتَت ثمَّ قالت لمَّا كانَ ليلةٌ منَ اللَّيالي قالَ: يا عائشةُ ذريني أتعبَّدُ اللَّيلةَ لربِّي قلتُ واللَّهِ إنِّي لأحبُّ قربَكَ وأحبُّ ما سرَّكَ قالَت فقامَ فتطَهَّرَ ثمَّ قامَ يصلِّي قالَت فلَمْ يزَلْ يَبكي حتَّى بلَّ حِجرَهُ قالَت ثمَّ بَكى فلم يزَلْ يبكي حتَّى بلَّ لِحيتَهُ قالَت ثمَّ بَكَى فلم يزَل يَبكي حتَّى بلَّ الأرضَ فجاءَ بلالٌ يؤذنُهُ بالصَّلاةِ فلمَّا رآهُ يبكي قالَ: يا رسولَ اللَّهِ لِمَ تَبكي وقد غَفرَ اللَّهُ لَكَ ما تقدَّمَ وما تأخَّرَ قالَ: أفلا أَكونُ عبدًا شَكورًا لقد نَزَلَت عليَّ اللَّيلةَ آيةٌ ويلٌ لمن قرأَها ولم يتفَكَّر فيها" إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ..." آل عمران: 191. الآيةَ كلَّها".الراوي : عائشة أم المؤمنين -المحدث : الوادعي -المصدر : الصحيح المسند- الصفحة أو الرقم - 1627 :خلاصة حكم المحدث : حسن.
يَرْوي ابنُ عبَّاسٍ رَضِي اللهُ عنهما أنَّه باتَ عندَ خالتِهِ مَيْمُونةَ بنتِ الحارِثِ أُمِّ المُؤمنينَ رَضِي اللهُ عنها، وكان النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم يَبِيتُ عندها في لَيلتِها:
"أنَّهُ رَقَدَ عِنْدَ رَسولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ، فَاسْتَيْقَظَ فَتَسَوَّكَ وَتَوَضَّأَ وَهو يقولُ"إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ"آل عمران: 190، فَقَرَأَ هَؤُلَاءِ الآيَاتِ حتَّى خَتَمَ السُّورَةَ، ثُمَّ قَامَ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ، فأطَالَ فِيهِما القِيَامَ وَالرُّكُوعَ وَالسُّجُودَ، ثُمَّ انْصَرَفَ فَنَامَ حتَّى نَفَخَ، ثُمَّ فَعَلَ ذلكَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ سِتَّ رَكَعَاتٍ، كُلَّ ذلكَ يَسْتَاكُ وَيَتَوَضَّأُ وَيَقْرَأُ هَؤُلَاءِ الآيَاتِ، ثُمَّ أَوْتَرَ بثَلَاثٍ، فأذَّنَ المُؤَذِّنُ فَخَرَجَ إلى الصَّلَاةِ وَهو يقولُ: اللَّهُمَّ اجْعَلْ في قَلْبِي نُورًا، وفي لِسَانِي نُورًا، وَاجْعَلْ في سَمْعِي نُورًا، وَاجْعَلْ في بَصَرِي نُورًا، وَاجْعَلْ مِن خَلْفِي نُورًا، وَمِنْ أَمَامِي نُورًا، وَاجْعَلْ مِن فَوْقِي نُورًا، وَمِنْ تَحْتي نُورًا، اللَّهُمَّ أَعْطِنِي نُورًا."الراوي : عبدالله بن عباس- صحيح مسلم.
قال النووي رحمه الله :فيه استحباب قراءة هذه الآيات عند القيام من النوم " انتهى.
قال ابن كثير- رحمه الله:وقد ثبت أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان يقرأ هذه الآيات العشر من آخر آل عمران إذا قام من الليل لتهجده .ا.هـ.
لَآيَاتٍ لِّأُولِي الْأَلْبَابِ :هذا الخلق وتدبره آيات وعلاماتٍ لأصحابِ العقولِ السَّليمةِ - التي تُدرِكُ حَقائقَ الأشياء، فتدلُّهم على أنَّ خالقَ ذلك هو الربُّ المعبودُ وحْدَه سبحانه، كما تدلُّهم على صِفاتِ الله تبارَك وتعالَى - فَلُب الشيء هو خلاصته وصفوته.
لَمَّا ذكَر اللهُ تعالى أنَّ الذين يَنتفعونَ بتلك الآياتِ هم أُولو الألبابِ، شرَعَ في وصْفِهم ، فقال:
"الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ""191.
الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ:أي: إنَّ أُولي الألبابِ هم الذينيستحضرون عظمته في قلوبهم ويُديمون ذِكرَ اللهِ تعالى بقلوبِهم وألْسنتِهم، وفي جميعِ أحوالِهم، في حالِ وُقوفِهم، وحالِ جُلوسِهم، وحالِ اضطجاعِهم.وهذا يشمل جميع أنواع الذكر بالقول والقلب، ويدخل في ذلك الصلاة قائمًا، فإن لم يستطع فقاعدًا، فإن لم يستطع فعلى جنب.
ثم وصفهم سبحانه وتعالى بوصف آخر فقال :وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ:يضيفون إلى هذا الذكر؛ التدبر والتفكر في هذا الكون وما فيه من بديع المخلوقات، وآيات بينات على توحيد الخالق، ليصلوا من وراء ذلك إلى الإيمان العميق، والإذعان التام، والاعتراف الكامل بوحدانية الله.وعظيم قدرته... فإن من شأن الأخيار من الناس أنهم يتفكرون في مخلوقات الله وما فيها من عجائب المصنوعات، وغرائب المبتدعات، ليدلهم ذلك على كمال قدرة الصانع- سبحانه -، فيعلموا أن لهذا الكون قادرًا مدبرًا حكيمًا، لأن عظم آثاره وأفعاله، تدل على عظم خالقها.إذن فساعة يفكر الإنسان بعقله لابد أن يقول: إن وراء خلق الكون قوة خارقة. وقد عرفها العربي بفطرته فقال: البعرة تدل على البعير والقدم تدل على المسير، أفلا يدل كل ذلك على اللطيف الخبير؟!
وعلى هذا فينبغي لك أن تكرس جهودك على التأمل المبني على العقل، حتى يكون عندك عقل غريزي وعقل مكتسب.تفسير العثيمين.
ثم حكى- سبحانه - ثمرات ذكرهم لله وتفكرهم في خلقه فقال:رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا : أي: إنَّهم حين يَتفكَّرون في خَلْقِ السَّمواتِ والأرض، يقولون: إنَّك يا ربَّنا، لم تَخلقْ هذا الخَلْقَ عبثًا ولا لهوًا؛ فأنتَ مُنزَّهٌ عن ذلك، ولكنَّك خلقتَه لحِكمةٍ ولأمرٍ عظيمٍ، من تكليفٍ وبعْثٍ، وحسابٍ وجزاءٍ، فتُجزي كلَّ أحدٍ بما عمِله من خيرٍ أو شرٍّ.
الثناء على ذوي العقول؛ لأن الله جعل هذه الآيات نافعة لأولي العقول، وعلى هذا فينبغي لك أن تكرس جهودك على التأمل المبني على العقل، حتى يكون عندك عقل غريزي وعقل مكتسب.
سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ:أي أنهم بعد أن أذعنت قلوبهم للحق، ونطقت ألسنتهم بالقول الحسن، وتفكرت عقولهم في بدائع صنع الله تفكيرًا سليمًا، استشعروا عظمة الله استشعارًا ملك عليهم جوارحهم، فتوسلوا بإيمانهم هذا وتفكرهم فرفعوا أكف الضراعة إلى الله بقولهم:يا ربنا إنك ما خلقت هذا الخلق البديع العظيم الشأن عبثا، أو عاريًا عن الحكمة، أو خاليًا من المصلحة، سُبْحانَكَ أي ننزهك تنزيها تامًّا عن كل مالا يليق بك ،قدّموا التنزيه المتضمّن لكل كمال قبل السؤال لشدّة رجائهم في الوقاية من هذا المهلك الرهيب،فَقِنا عَذابَ النَّارِ :أي أَجِرْنا من عذابِ النارفوفقنا للعمل بما يرضيك بأنْ تُوفِّقَنا للأعمالِ الصالحات، وتُجنِّبَنا بفضلِك الذُّنوبَ والسيِّئات، واصرف عنا عذاب النار برحمتك وفضلك.
"رَبَّنَا إِنَّكَ مَن تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَار"ٍ192.
والخزي: مصدر خزي يخزى بمعنى ذل وهوان بمرأى من الناس، أي مَن أدخلتَه النارَ يا رَبَّنا، فقدْ أَهنتَه وفَضحْتَه على رؤوس الأشهاد.
لَمَّا سألوا ربَّهم أن يَقيَهم عذابَ النار، أتْبعوا ذلك بما يدلُّ على عِظَمِ ذلك العقابِ وشِدَّتهوهو الخزي والفضيحة، ليكون موقع السؤال أعظم.وفي هذا .. مبالغة في تعظيم أمر العقاب بالنار، وإلحاح في طلب النجاة منها، قيل : قال أنس وقتادة معناه : إنك من تُخَلِّد في النارِ فقد أخزيته وقال سعيد بن المسيب هذه خاصة لمن لا يخرج منها.
نسأل الله الستر والعفو والعافية في الدنيا والآخرة .
وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَار :أي: إنَّهم إنما دخلوا النارَ بظُلمِهم، وليس للظالمِ يَومَ القيامةِ أحدٌ يُنقذُه من عذابِ اللهِ تعالى ، فيوم القيامة لا مجير لهم منك، ولا محيد لهم عما أردت بهم، و " مِنْ " للدلالة على استغراق النفي، أي لا ناصر لهم أيا كان هذا الناصر، وفي ذلك إشارة إلى انفراد الله-تبارك وتعالى- بالسلطان ونفاذ الإرادة.
"رَّبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ" 193. .
رَّبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ :أي: إنَّهم قالوا: يا ربَّنا، إنَّنا قد سمِعْنا داعيًا يَدْعو إلى الإيمانِ، وهو الرسول محمد ، وقيل: المنادِي هو كتابُ اللَّهِ تعالى، وكلاهما صحيح ومتعيّن.
قال أبو الدرداء: يرحم الله المؤمنين ما زالوا يقولون"ربنا ربنا"حتى استجيب لهم، واختلف المتأولون في المنادِي، فقال ابن جريج وابن زيد وغيرهما: المنادِي محمد صلى الله عليه وسلم، وقال محمد بن كعب القرظي: المنادِي كتاب الله وليس كلهم رأى النبي صلى الله عليه وسلم وسمعه، ولما كانت ينادي بمنزلة يدعو، حسن وصولها باللام بمعنى "إلى الإيمان.تكرار لفظ ربنا فيه استحباب الإلحاح في الدعاء، والإلحاح من أسباب إجابة الدعاء. وفيه إظهار الضراعة والخضوع لله رب العالمين .وفيه التوسل بالربوبية حال الدعاء وهو ورد كثيرا في القرآن في سياقات دعوات الأنبياء في القرآنفأكثر دعوات الأنبياء كانت بالتوسل بالربوبية ومثل ذلك قول إبراهيم عليه السلام "رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ" الشعراء:83. "هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِن لَّدُنكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ" آل عمران:38.وقول سليمان عليه السلام "قَالَرَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لا يَنْبَغِي لأحَدٍ مِنْ بَعْدِي"ص: 35.وقول موسى عليه السلام"فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ"القصص: 24.وقول إبراهيم عليه السلام"رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِن ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ" إبراهيم:40. " قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِّنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيدًا لِّأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِّنكَ وَارْزُقْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ "المائدة: 114. عيسى عليه السلام توسل في دعائه بالأولوهية بقوله اللهم وكذلك بالربوبية بقوله ربنا.
أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا :أي: يقولُ للنَّاسِ: آمِنوا بربِّكم، فَآمَنَّا:يلاحظ أن المتعلَق محذوف قالوا آمنا – آمنا بماذا!؟- المعنى هنا أننا آمنا بكل شيء يجب الإيمان به،من آمن بالله آمن بكل ما أخبر الله به ومنه بقية الأصول الستة، لذلك الكلمات قد يُستغنى بمُجملِها عن تفصيلِها فتفيد العموم، فحذف المتعلَق هنا يفيد عموم الإيمان بما يجب الإيمان به.الإيمان بالله عز وجل: هو الإقرار المتضمن للقبول والإذعان وليس مجرد الإقرار، ولو كان الإيمان مجرد الإقرار لكان أبو طالب مؤمنًا لأنه مقر، ولكنه لا يكون إيمانا حتى يتضمن القبول والإذعان، يعني الانقياد.
فَآمَنَّا:فاء التعقيب؛ للدَّلالةِ على المبادرةِ والسَّبقِ إلى الإيمان، أي فسارعنا إلى الاستجابةِ له، فأَقرَرْنا بالحقِّ وقبِلْناه، مُنقادِين إليه، ومُذعِنين له، وفي سرعة امتثالهم دلالة على سلامة فطرتهم، وبعدهم عن المكابرة والعناد.
رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا :أي: بإيمانِنا واتِّباعِنا نبيّك، استُرْ علينا ذُنوبَنا، وتجاوزْ عن مُؤاخذتِنا بها.
وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا : أي: بإيمانِنا واتِّباعِنا نبيّك، امحُ عنَّا خَطايانا؛ فالحسناتُ يُذهِبْنَ السيِّئاتِ.قال تعالى" أَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ وزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ، إنَّ الحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ"هود: 114.
وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ : أي: اجعلْنا إذا قَبضتَ أرواحَنا إليك في عِدادِ الصَّالحين. ومعنى وفاتهم مع الأبرار: أن يموتوا على حالة البر والطاعة وأن تلازمهم تلك الحالة إلى الممات، وألا يحصل منهم ارتداد على أدبارهم، بل يستمروا على الطاعة استمرارا تامًا، وبذلك يكونون في صحبة الأبرار وفي جملتهم.
"رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدتَّنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ "194.
رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدتَّنَا عَلَى رُسُلِكَ:أي: أعطِنا- يا ربَّنا- ما وعَدتَنا به على ألْسنةِ رُسلِك عليهم السَّلامُ، من النَّصرِ على الأعداء ، ومِن الثوابِ على الأعمالِ الصَّالحة.
فائدة: قوله عَلى رُسُلِكَ فيه مضاف محذوف أي آتنا ما وعدتنا على ألسنة رسلك من ثواب.و "ما" موصولة أي آتنا الذي وعدتنا به أو وعدتنا إياه.
فقد وعد سبحانه بسيادة الدنيا في قوله تعالى " وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ"النور: 55.
وقال سبحانه "إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ "محمد:7.
ووعد بسعادة الآخرة فقال " وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ"التوبة:72.
فالمؤمنون ذوو الألباب مستمرون في التوسل بالربوبية والضراعة لله وتَرَقُّوا فانتقلوا من طلب الغفران إلى طلب الثواب الجزيل، والعطاء الحسن في الدنيا والآخرة.
وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ :إشارة إلى قوله تعالى "يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ"التحريم:8.
أي: لا تَفْضَحْنا بذُنوبِنا على رُؤوسِ الخلائقِ، ولا تُذِلَّنا يومَ القيامةِ.
إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعادَ : أي نسألك يا ربنا إنجاز الوعد، فإن قلت: كيف دعوا الله بإنجاز ما وعد والله لا يخلف الميعاد؟وهو تعالى من لا يجوز عليه خلف الوعد. قلت: معناه طلب التوفيق فيما يحفظ عليهم أسباب إنجاز الميعاد، والتخوف إنما هو في جهتهم لا في جهة الله تعالى لأن هذا الدعاء إنما هو في الدنيا، فمعنى قول المرء: اللهم أنجز لي وعدك، إنما معناه:اجعلني ممن يستحق إنجاز الوعد.
تلك هي الدعوات الخاشعات التي حكاها- سبحانه - عن أصحاب العقول السليمة، وهم ينضرعون بها إلى خالقهم- عز وجل -فماذا كانت نتيجتها؟ نتيجتها ما ورد في الآية التالي:
"فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنكُم مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ثَوَابًا مِّنْ عِندِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِندَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ"195.
فَاسْتَجَابَ : أي: أجاب الله دعاءهم، دعاء العبادة - الإيمان بالله عز وجل وهو الإقرار المتضمن للقبول والإذعان- ، ودعاء الطلب .ولم يقل فأجاب ولكن قال فاستجاب فالسين والتاء تفيد معنى التأكيد، أجاب أخص من استجاب، لأن استجاب لا تُقال إلا لمن قَبِلَ ما دُعيَ إليه. أما أجاب تُقال لمن أجاب بالقَبول أو الرفض.
عَنِ الْفَرَّاءِ ، وَعَلِيِّ بْنِ عِيسَى الرَّبَعِيِّ : أَنَّاسْتَجَابَ أَخَصُّ مِنْ أَجَابَ ، لِأَنَّ اسْتَجَابَ يُقَالُ لِمَنْ قَبِلَ مَا دُعِيَ إِلَيْهِ ، وَ أَجَابَ أَعَمُّ، فَيُقَالُ لِمَنْ أَجَابَ بِالْقَبُولِ ، وَبِالرَّدِّ.
أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنكُم مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ:
لا أضيع: يعني لا أهدره بل أحتسبه.وقوله" عَمَلَ عَامِلٍ " " عَمَلَ " هنا مضاف فيقتضي العموم يعني: أي عمل قل أو كثر فإن الله لا يضيعه، وهذا كقوله"فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ"7."وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍشَرًّا يَرَهُ"8.الزلزلة.
عن أمِّ سلمةَ رضِيَ اللهُ عَنها "أنَّها قالت : يا رسولَ اللَّهِ، لا نسمعُ اللَّهَ ذَكَر النِّساءَ في الهجرةِ بشيءٍ ؟ فأنزلَ اللَّهُ تعالى :فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى إلى آخرِ الآيةِ. وقالتِ الأنصارُ : هيَ أوَّلُ ظعينةٍ قدمَتْ علَينا"خلاصة حكم المحدث :أشار في المقدمة إلى صحته -الراوي : أم سلمة أم المؤمنين- المحدث :أحمد شاكر- المصدر :عمدة التفسير-الصفحة أو الرقم1/451.
"قالت يا رسولَ اللَّهِ لا أسمعُ اللَّهَ ذَكرَ النِّساءَ في الهجرَةِ فأنزلَ اللَّهُ تبارك وتعالى أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ"الراوي : أم سلمة أم المؤمنين- المحدث :الألباني-المصدر : صحيح الترمذي- الصفحة أو الرقم: 3023 - خلاصة حكم المحدث : صحيح لغيره.
شرح الحديث :لقد راعى الشَّرعُ الحكيمُ أحوالَ النَّاسِ مِن حيث النَّوعُ والقدرةُ على التَّحمُّلِ، وجعَل التَّكاليفَ أنواعًا؛ فمِنها ما يَشترِكُ فيه الجميعُ ذُكورًا وإناثًا، ومنها تكاليفُ خاصَّةً بكلِّ نوعٍ تتَناسَبُ مع طبيعةِ الخِلْقةِ، ومع ما يُناطُ بكلِّ نوعٍ مِن أعباءِ الحياةِ، دون حَيفٍ أو جَورٍ بأحَدِ النَّوعينِ، ورتَّب الأجرَ على الأعمالِ، والله يتفضَّلُ على مَن يَشاءُ مِن عبادِه.
وفي هذا الحديثِ تَسأَلُ أمُّ سلمةَ أمُّ المؤمنينَ رضِيَ اللهُ عَنها النَّبيَّ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم، فتقولُ "يا رسولَ اللهِ، لا أسمَعُ اللهَ ذكَر النِّساءَ في الهجرةِ"، أي: ما تَكلَّم اللهُ في كتابِه في شأنِ النِّساءِ اللَّاتي هاجَرْن في سبيلِ اللهِ؟ فأنزل اللهُ تبارك وتعالى قولَه" أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ "آل عمران: 195، " أَنِّي لَا أُضِيعُ" أي: لا أُحبِطُ عمَلَكم أيُّها المؤمِنون، بل أُثيبكم عليه، ولا أَمحو ولا أُزيل ثوابَه وأجرَه " عَمَلَ عَامِلٍ" ، يريدُ وجهَ اللهِ وثوابَ الآخرةِ، " مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى" بل الكلُّ مِن الرِّجالِ والنِّساءِ يُجازَى ويُكافَأُ بما وعَد اللهُ مِن الثَّوابِ والفضلِ، " بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ" أي: لأنَّ الذَّكرَ مِن الأنثى، والأنثى مِن الرَّجلِ، وقيل: أي: مُتعاوِنون في النُّصرةِ وإخوةٌ في الدِّينِ.
وقيل: كلُّكم مِن آدمَ وحوَّاءَ، وقيل: بمعنى بعضُكم كبَعضٍ في الثَّوابِ على الطَّاعةِ، والعِقابِ على المعصيةِ، وقيل: إنَّ الرِّجالَ والنِّساءَ في الطَّاعةِ على شكلٍ واحدٍ.
وفي الحديثِ: بيانُ فضلِ وعدلِ اللهِ سبحانه وتعالى.
الدرر السنية.
فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا :أي: فَالَّذِينَ هَاجَرُوا بأن تركوا أوطانهم التي أحبوها إلى أماكن أخرى من أجل إعلاء كلمة الله.
وَأُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ: وأُخرجوا من بيوتهم فرارًا بدينهم من ظلم الظالمين، واعتداء المعتدين،أخرجوا إما مباشرة بأن طُردوا من البلاد، أو بالتضييق عليهم حتى يخرجوا؛ لأن الإخراج من البلاد، إما أن يكون مباشرة بالطرد، وإما أن يكون بالتضييق عليه حتى يخرج.
وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي أي تحملوا الأذى والاضطهاد في سبيل الحق الذي آمنوا به وَقَاتَلُوا أعداء الله وَقُتِلُوا وهم يجاهدون من أجل إحقاق الحق وإبطال الباطل.
هؤلاء الذين فعلوا كل ذلك، وعدهم الله-تبارك وتعالى- بالأجر العظيم فقال:لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ : أي لأمحون عنهم ما ارتكبوه من سيئات، ولأسترنها عليهم حتى تُعتبر نسيًا منسيًا .
وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ :أي تجري من تحت قصورها الأنهار التي فيها العسل المصفَى، وفيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين.والجنة درجات :
"أُصِيبَ حَارِثَةُ يَومَ بَدْرٍ وهو غُلَامٌ، فَجَاءَتْ أُمُّهُ إلى النبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ فَقَالَتْ: يا رَسولَ اللَّهِ، قدْ عَرَفْتَ مَنْزِلَةَ حَارِثَةَ مِنِّي، فإنْ يَكُنْ في الجَنَّةِ أصْبِرْ وأَحْتَسِبْ، وإنْ تَكُ الأُخْرَى تَرَى ما أصْنَعُ، فَقَالَ: ويْحَكِ ، أوَهَبِلْتِ، أوَجَنَّةٌ واحِدَةٌ هي، إنَّهَا جِنَانٌ كَثِيرَةٌ، وإنَّه في جَنَّةِ الفِرْدَوْسِ" الراوي : أنس بن مالك- صحيح البخاري
"مَن آمَنَ باللَّهِ وبِرَسولِهِ، وأَقامَ الصَّلاةَ، وصامَ رَمَضانَ؛ كانَ حَقًّا علَى اللَّهِ أنْ يُدْخِلَهُ الجَنَّةَ، جاهَدَ في سَبيلِ اللَّهِ أوْ جَلَسَ في أرْضِهِ الَّتي وُلِدَ فيها، فقالوا: يا رَسولَ اللَّهِ، أفَلا نُبَشِّرُ النَّاسَ؟ قالَ: إنَّ في الجَنَّةِ مِئَةَ دَرَجَةٍ، أعَدَّها اللَّهُ لِلْمُجاهِدِينَ في سَبيلِ اللَّهِ، ما بيْنَ الدَّرَجَتَيْنِ كما بيْنَ السَّماءِ والأرْضِ، فإذا سَأَلْتُمُ اللَّهَ، فاسْأَلُوهُ الفِرْدَوْسَ؛ فإنَّه أوْسَطُ الجَنَّةِ وأَعْلَى الجَنَّةِ -أُراهُ- فَوْقَهُ عَرْشُ الرَّحْمَنِ ، ومِنْهُ تَفَجَّرُ أنْهارُ الجَنَّةِ."الراوي : أبو هريرة- صحيح البخاري.
وفي هذا الحديثِ يُبيِّن النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أنَّ مَن آمَن باللهِ تعالَى وأنَّه وَحْدَه المستحِقُّ بالعبادةِ، ولم يُشرِكْ بعِبادةِ ربِّه أحَدًا، وآمَنَ برَسولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ إيمانًا صادقًا مِن قلْبِه، وأنَّه خاتمُ المرسَلينَ، ورسَولُ اللهِ إلى الخلْقِ كافَّةً، وأقام الصَّلواتِ الخمْسَ ، فأدَّاها بشُروطِها وأركانِها كما يَنْبغي، وصام شَهرَ رَمَضانَ إيمًانا واحتسابًا؛ استحَقَّ دُخولَ الجنَّةِ بفَضْلِ اللهِ ورَحمتِه، سَواءٌ جاهَدَ في سَبيلِ اللَّهِ إنِ استطاعَ، أوْ جَلَسَ في أرْضِهِ الَّتي وُلِدَ فيها ولم يُشارِكْ في الجِهادِ؛ لأنَّ كلَّ مُسلمٍ يُعامَلُ بحَسْبِ عَمَلِه كثيرًا كان أو قَليلًا، فالتَّفاوُتُ حاصلٌ في عمَلِ الدُّنيا، وكذلك حاصلٌ في دَرَجاتِ الجنَّاتِ في الآخرةِ.
ثَوَابًا مِّنْ عِندِ اللَّهِ: الثواب لا يكون إلا من عنده-تبارك وتعالى-، لكنه صرح به- سبحانه - تعظيمًا للثواب وتفخيمًا لشأنه. فهو سبحانه الذي يعطي عبده الثواب الجزيل على العمل القليل.
وَاللَّهُ عِندَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ:
أي: إنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ عنده الجزاءُ الحسن لِمَن عمِلَ صالحًا، ممَّا لا عَينٌ رأتْ، ولا أُذنٌ سمِعَتْ، ولا خَطَر على قلبِ بشَرٍ.وأضافه إليه ونسبه إليه ليدل على أنه عظيم ، لأن العظيم الكريم لا يعطي إلا جزيلا كثيرا .
"قالَ اللَّهُ: أعْدَدْتُ لِعِبادِي الصَّالِحِينَ ما لا عَيْنٌ رَأَتْ، ولا أُذُنٌ سَمِعَتْ، ولا خَطَرَ علَى قَلْبِ بَشَرٍ."
الراوي : أبو هريرة-صحيح البخاري .
"قالَ اللَّهُ أَعْدَدْتُ لِعِبَادِي الصَّالِحِينَ ما لا عَيْنٌ رَأَتْ، ولَا أُذُنٌ سَمِعَتْ، ولَا خَطَرَ علَى قَلْبِ بَشَرٍ، فَاقْرَؤُوا إنْ شِئْتُمْ "فلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لهمْ مِن قُرَّةِ أَعْيُنٍ"
السجدة: 17."الراوي : أبو هريرة - صحيح البخاري .
وقد ختم- سبحانه - الآية بهذه الجملة الكريمة لبيان اختصاصه بالثواب الحسن كأن كل جزاء للأعمال في الدنيا لا يُعَدّ حسنًا بجوار ما أعده- سبحانه - في الآخرة لعباده المتقين.
"لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ"196..
قيل : الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم والمراد الأمة .
وقيل :للجميع.تفسير القرطبي.
لَمَّا وعَد اللهُ تعالى وبشر- سبحانه - عباده المؤمنين الصادقين بالثَّوابِ العظيم، وكانوا في الدُّنيا في نهاية الفقرِ والشِّدَّة، والكفَّارُ كانوا في النِّعم، ذكَر اللهُ تعالى في هذه الآيةِ ما يُسلِّيهم ويُصبِّرُهم على تلك الشِّدَّة وألا ينخدعوا بظاهرِ ما عليه الكفَّارُ من قوة وسطوة ومتاع دنيوي من تردُّدٍ على البلاد، وتنقُّلٍ فيها بأنواعِ التِّجاراتِ والمكاسبِ، بِما يجعلُهم في بَحبوحةٍ في العيش، وترَفٍ في الحياةِ، وعِزٍّ وغلبةٍ في بعضِ الأوقات.
لَا يَغُرَّنَّكَ : إظهار الأمر المضر في صورة الأمر النافع، وهو مشتق من الغِرة بكسر الغين- وهي الغَفْلَة- ويقال: رجل غِر إذا كان ينخدع لمن خادعه.
والتقلب في البلاد: التصرف فيها على جهة السيطرة والغلبة ونفوذ الإرادة.
"مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ"197. .
مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ :أي: إنَّهم مُنتقِلون بعدَ مماتِهم وذَهابِ مُتعِهم، إلى الإقامةِ في نارِ جَهنَّم.
وَبِئْسَ الْمِهَادُ: أي: وبئس الفراشُ والمقرُّ هي، أي: جهنَّم.والمهد هو المكان الذي ينام فيه الطفل. ومعنى ذلك أنه يُقَلَّب فيهم في جهنم كما يشاء الله ويقدر، لأنه لا قدرة لهم على أي شيء، شأنهم في ذلك شأن الطفل، لايزال ملازمًا لفراشه ومَهْدِهِ حتى يُقلبه ويُحركه غيرُهُ.
أي: إنَّ هذا الذي عليه الكفَّارُ من قوة وسطوة ومتاع دنيوي متاع قليل مؤقت قليل كمًّا وكيفًًا زائل ليس له ثبوت ولا بقاء، بل يتمتعون به قليلا، ويعذبون عليه أبدًا عذاب لا نهاية له .
"لَٰكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نُزُلًا مِّنْ عِندِ اللَّهِ وَمَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ لِّلْأَبْرَار" 198..
أما المتقون لربهم، المؤمنون به الذين امتَثلوا ما أمَر الله تعالى به، واجتَنبوا ما نهى عنه، - فمع ما يحصل لهم من عز الدنيا ونعيمها،، فإنَّهم يُمتَّعون في الدارِ الآخِرةِ في جَنَّاتٍ تَجري من خلالها أنواعٌ من الأنهار، وهم ماكثونَ في هذا النَّعيمِ على الدَّوام.
فلو قدر أنهم في دار الدنيا، قد حصل لهم أي بؤس وشدة، وعناء ومشقة، لكان هذا بالنسبة إلى النعيم المقيم في الآخرة، والسرور والحبور، والبهجة نزرًا يسيرًا، ومنحة في صورة محنة.

دخلَ عمرُ بنُ الخطابِ على رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلمَ:
وإنَّه- صلى الله عليه وسلم - لَعَلَى حَصِيرٍ ما بيْنَهُ وبيْنَهُ شَيءٌ، وتَحْتَ رَأْسِهِ وِسَادَةٌ مِن أَدَمٍ حَشْوُهَا لِيفٌ، وإنَّ عِنْدَ رِجْلَيْهِ قَرَظًا مَصْبُوبًا، وعِنْدَ رَأْسِهِ أَهَبٌ مُعَلَّقَةٌ، فَرَأَيْتُ أثَرَ الحَصِيرِ في جَنْبِهِ فَبَكَيْتُ، فَقالَ: ما يُبْكِيكَ؟ فَقُلتُ: يا رَسولَ اللَّهِ، إنَّ كِسْرَى وقَيْصَرَ فِيما هُما فِيهِ، وأَنْتَ رَسولُ اللَّهِ!فَقالَ: أَمَا تَرْضَى أنْ تَكُونَ لهمُ الدُّنْيَا ولَنَا الآخِرَةُ."
الراوي : عمر بن الخطاب- صحيح البخاري.
نُزُلًا مِّنْ عِندِ اللَّهِ:والنُّزل: ما يُعد للنزيلِ والضيفِ لإكرامِهِ والحفاوةِ به مِنْ طَعامٍ وشرابٍ وغيرِهِمَا.
أي: إنَّ الله تعالى قدْ أعدَّ لهم تلك الجنَّاتِ مَنزلَ ضِيافةٍ دائمًا مِن كرامةِ اللهِ تعالى لهم .
أي لهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها حالة، قدْ أعدَّ لهم سبحانه تلك الجنَّاتِ مَنزلَ ضِيافةٍ دائمًا على سبيل الإكرام لهم، والتشريف لمنزلتهم.
وَمَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ لِّلْأَبْرَار: أي: إنَّ ما عندَ اللهِ تعالى من النَّعيمِ المقيم خيٌر للطَّائعين المتقين- الذين أحْسَنوا العملَ- من متاعِ الدُّنيا القليلِ الزَّائل

"وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَن يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ لَا يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ"199.
لَمَّا حكَى اللهُ تعالى بعضَ مخالفاتِ أهلِ الكتابِ، مِن نبْذِ الميثاق وتَحريفِ الكتابِ وغيرِ ذلك، سِيقتْ هذه الآيةُ؛ لبيانِ أنَّ أهلَ الكتابِ ليس كلُّهم كمَن حُكيتْ مخالفاتُهم، بل منهم مَن له مَناقبُ جليلةٌ، مثل: عبد الله بن سَلَام وأصحابه.وقد بيَّن- سبحانه - هنا صفات الأخيار منهم: أي: "وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وهم اليهود والنصارى لَمَن يُؤْمِنُ بِاللَّهِ أي منهم من يؤمن إيمانًا حقًا مُنَزهًا عنِ الإشراكِ بكل مظاهره ويؤمن بما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ من القرآن الكريم على لسان نبيكم محمد صلّى الله عليه وسلّم ويؤمن بحقيقة ما أُنزل إليهم من التوراة والإنجيل ولا يزالون مع هذا الإيمان العميق خَاشِعِينَ لِلَّهِ : أي خاضعين له- سبحانه - خائفين من عقابه، طالبين لرضاه، فهؤلاء الذين يؤمنون بما أَنْزَلَ اللهُ على رسولِهِ عليه الصلاة والسلام مع إيمانهم بكتبهم إنما يفعلون ذلك تعظيمًا لله وذلًا له، لا طلبًا للدنيا، أو المدح أو ما أشبه ذلك
لا يَشْتَرُونَ بِآياتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا: والمراد بآيات الله هنا: الآيات الشرعية؛ أي: لا يُحرِّفون ما في كُتُبِهم، ولا يُبدِّلونه، ولا يَكتمون ما فيها من العِلم- ومِن ذلك البشارةُ بمحمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وبيانُ صِفتِه للناس-؛ ليَحْصُلوا في مُقابلِ ذلك على متاعٍ دُنيويٍّ زائل، مِن منصبٍ، أو جاهٍ، أو مالٍ، وغير ذلك من أعراض الدنيا الفانية وهو قليل زائل حتى ولو بلغ قناطير مقنطرة من الذهب والفضة؛ لأنه بالنسبة لما في الآخرة ليس بشيء كما صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم"أنَّ رَسولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ قالَ:رِبَاطُ يَومٍ في سَبيلِ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وما عَلَيْهَا، ومَوْضِعُ سَوْطِ أَحَدِكُمْ مِنَ الجَنَّةِخَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وما عَلَيْهَا، والرَّوْحَةُ يَرُوحُهَا العَبْدُ في سَبيلِ اللَّهِ، أَوِ الغَدْوَةُ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وما عَلَيْهَا."الراوي : سهل بن سعد الساعدي- صحيح البخاري.
وفي الحَديثِ:فَضلُ الرِّباطِ في سَبيلِ اللهِ.
وفيه:بيانُ حَقارةِ الدُّنيا بالنِّسبةِ إلى الآخِرةِ.
وهذه الصفات توجد في اليهود ، ولكن قليلا كما وجد في عبد الله بن سلام رضي الله عنه وأمثاله ممن آمن من أحبار اليهود ولم يبلغوا عشرة أنفس . كان عبدُ اللهِ بنُ سلَامٍ رَضيَ اللهُ عنه مِن يَهودِ المدينةِ، وذلك قبْلَ مَبْعثِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وكان حَبْرًا عالِمًا مِن عُلماءِ اليهودِ ويَعلَمُ مِن التَّوراةِ صِفاتِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وأسلَمَ بعْدَ قُدومِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ إلى المَدينةِ مُهاجِرًا، وأقامَ الحُجَّةَ على اليَهودِ بأنَّهم قَومٌ بُهتٌ، وشَهِد عليهم بذلك.
" بَلَغَ عَبْدَ اللَّهِ بنَ سَلَامٍ مَقْدَمُ رَسولِ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ المَدِينَةَ فأتَاهُ، فَقالَ: إنِّي سَائِلُكَ عن ثَلَاثٍ لا يَعْلَمُهُنَّ إلَّا نَبِيٌّ؛ قالَ: ما أوَّلُ أشْرَاطِ السَّاعَةِ؟ وما أوَّلُ طَعَامٍ يَأْكُلُهُ أهْلُ الجَنَّةِ؟ ومِنْ أيِّ شَيءٍ يَنْزِعُ الوَلَدُ إلى أبِيهِ؟ ومِنْ أيِّ شَيءٍ يَنْزِعُ إلى أخْوَالِهِ؟ فَقالَ رَسولُ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: خَبَّرَنِي بهِنَّ آنِفًا جِبْرِيلُ، قالَ: فَقالَ عبدُ اللَّهِ: ذَاكَ عَدُوُّ اليَهُودِ مِنَ المَلَائِكَةِ، فَقالَ رَسولُ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ:أمَّا أوَّلُ أشْرَاطِ السَّاعَةِ فَنَارٌ تَحْشُرُ النَّاسَ مِنَ المَشْرِقِ إلى المَغْرِبِ، وأَمَّا أوَّلُ طَعَامٍ يَأْكُلُهُ أهْلُ الجَنَّةِ فَزِيَادَةُ كَبِدِ حُوتٍ ، وأَمَّا الشَّبَهُ في الوَلَدِ: فإنَّ الرَّجُلَ إذَا غَشِيَ المَرْأَةَ فَسَبَقَهَا مَاؤُهُ كانَ الشَّبَهُ له، وإذَا سَبَقَ مَاؤُهَا كانَ الشَّبَهُ لَهَا. قالَ: أشْهَدُ أنَّكَ رَسولُ اللَّهِ، ثُمَّ قالَ: يا رَسولَ اللَّهِ، إنَّ اليَهُودَ قَوْمٌ بُهُتٌ ، إنْ عَلِمُوا بإسْلَامِي قَبْلَ أنْ تَسْأَلَهُمْ بَهَتُونِي عِنْدَكَ، فَجَاءَتِ اليَهُودُ، ودَخَلَ عبدُ اللَّهِ البَيْتَ، فَقالَ رَسولُ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: أيُّ رَجُلٍ فِيكُمْ عبدُ اللَّهِ بنُ سَلَامٍ؟ قالوا: أعْلَمُنَا وابنُ أعْلَمِنَا، وأَخْيَرُنَا وابنُ أخْيَرِنَا، فَقالَ رَسولُ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ:أفَرَأَيْتُمْ إنْ أسْلَمَ عبدُ اللَّهِ؟ قالوا: أعَاذَهُ اللَّهُ مِن ذلكَ، فَخَرَجَ عبدُ اللَّهِ إليهِم، فَقالَ: أشْهَدُ أنْ لا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وأَشْهَدُ أنَّ مُحَمَّدًا رَسولُ اللَّهِ، فَقالوا: شَرُّنَا وابنُ شَرِّنَا، ووَقَعُوا فِيهِ" الراوي : أنس بن مالك- صحيح البخاري.
وفي الحَديثِ: مِن عَلاماتِ نُبوَّةِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ إخبارُه عَن بَعضِ الأُمورِ الغَيبيَّةِ.
وفيه:فَضيلةٌ ومَنقَبةٌ لعبْدِ اللهِ بنِ سلَامِ رَضيَ اللهُ عنه.
وفيه:أنَّ اليهودَ أهلُ كَذِبٍ وفُجورٍ، يَقولونَ ويفتَروَن على غيرِهم ما ليسَ فيه.الدرر السنية.
وأما النصارى فكثير منهم مهتدون وينقادون للحق مثل أصحمة – النجاشي - ملك الحبشة وغيره كثير ،كما قال تعالى
"
لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُم مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ"المائدة :
82 . .
قَالَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ حِينَ مَاتَ النَّجَاشِيُّ"مَاتَ اليومَ رَجُلٌ صَالِحٌ، فَقُومُوا فَصَلُّوا علَى أخِيكُمْ أصْحَمَةَ."الراوي : جابر بن عبد الله- صحيح البخاري
" عن أُمِّ سَلَمةَ -في شَأْنِ هِجرَتِهم إلى بِلادِ النَّجاشيِّ، وقد مَرَّ بَعضُ ذلك- قالتْ:فلمَّا رأتْ قُرَيشٌ ذلك اجتَمَعوا على أنْ يُرسِلوا إليه، فبعَثوا عَمرَو بنَ العاصِ، وعَبدَ اللهِ بنَ أبي رَبيعةَ، فجمَعوا هَدايا له، ولبَطارِقَتِه، فقدِموا على الملِكِ، وقالوا: إنَّ فِتْيةً منَّا سُفَهاءَ فارَقوا دِينَنا، ولم يَدخُلوا في دِينِكَ، وجاؤوا بدِينٍ مُبتدَعٍ لا نَعرِفُه، ولجَؤوا إلى بِلادِكَ، فبعَثْنا إليك لتَرُدَّهم.فقالتْ بَطارِقَتُه: صدَقوا أيُّها الملِكُ. فغضِبَ، ثُمَّ قال: لا لعَمرُ اللهِ، لا أرُدُّهم إليهم حتى أُكلِّمَهم؛ قَومٌ لجَؤوا إلى بِلادي، واختاروا جِواري. فلمْ يَكُنْ شيءٌ أبغَضَ إلى عَمرٍو وابنِ أبي رَبيعةَ مِن أنْ يَسمَعَ الملِكُ كَلامَهم، فلمَّا جاءهم رسولُ النَّجاشيِّ، اجتمَعَ القَومُ، وكان الذي يُكلِّمُه جَعفَرُ بنُ أبي طالبٍ، فقال النَّجاشيُّ: ما هذا الدِّينُ؟ قالوا:أيُّها الملِكُ، كنَّا قَومًا على الشِّركِ؛ نَعبُدُ الأوْثانَ، ونَأكُلُ المَيْتةَ، ونُسيءُ الجِوارَ، ونَستحِلُّ المَحارمَ والدِّماءَ، فبعَثَ اللهُ إلينا نَبيًّا مِن أنفُسِنا، نَعرِفُ وَفاءَه وصِدقَه وأمانَتَه، فدَعانا إلى أنْ نَعبُدَ اللهَ وَحدَه، ونَصِلَ الرَّحِمَ، ونُحسِنَ الجِوارَ، ونُصلِّيَ، ونَصومَ.قال: فهل معكم شيءٌ ممَّا جاء به؟ -وقد دَعا أساقِفَتَه، فأمَرَهم، فنشَروا المَصاحفَ حَولَه- فقال لهم جَعفَرٌ: نعمْ، فقرَأ عليهم صَدرًا مِن سورةِ "كهيعص".فبَكى -واللهِ- النَّجاشيُّ، حتى أخضَلَ لِحيَتَه، وبكَتْ أساقِفَتُه حتى أخضَلوا مَصاحفَهم، ثُمَّ قال: إنَّ هذا الكَلامَ ليَخرُجُ مِن المِشكاةِ التي جاء بها موسى، انطَلِقوا راشدينَ، لا واللهِ، لا أرُدُّهم عليكم، ولا أنعَمُكم عَينًا. فخرَجا مِن عندِه، فقال عَمرٌو: لآتيَنَّه غَدًا بما أستأصِلُ به خَضراءَهم، فذكَرَ له ما يقولونَ في عيسى."الراوي : أبو بكر بن عبدالرحمن - المحدث : شعيب الأرناؤوط - المصدر : تخريج سير أعلام النبلاء -الصفحة أو الرقم : 1/216 - خلاصة حكم المحدث : صحيح.
فقال عمْرُو: لآتِيَنَّهُ غدًا بما أستأصِلُ به خَضْراءَهُم"، يَتوعَّدُهُم عمْرٌو أنْ يَتكلَّمَ مع النَّجاشيِّ مرَّةً أُخرى؛ لِيُساوِمَهُ فيهم، "فذكَرَ له ما يَقولونَ في عيسى"، فحاوَلَ أنْ يُوقِعَ بيْنَهم وبيْنَ النَّجاشيِّ في أمْرِ عيسى ابنِ مَريَمَ، وذلِكَ أنَّ النَّصارى يَعبُدونَ عيسى ابنَ مَريَمَ عليه السَّلامِ.
وفي روايةِ أحمَدَ فسَأَلَهم النَّجاشيُّ "ما تَقولونَ في عيسى ابنِ مَريَمَ؟ فقالَ له جَعفَرٌ:نقولُ فيه الَّذي جاءَ به نبيُّنا، هو عبدُ اللهِ ورسولُهُ ورُوحُهُ وكَلِمَتُهُ ألْقاها إلى مَريَمَ العَذْراءِ البَتولِ،فصَدَّقَهم بما قالوا، وقالَ لهم "اذْهَبوا فأنتُم سُيومٌ بأرْضي" والسُّيوم بلُغةِ الحَبشةِ: الآمِنونَ، "مَن سبَّكَم غُرِّمَ"، بمَعْنى: مَن وقَعَ فيكم بالسِّبابِ حاكَمَهُ النَّجاشيُّ، فمِثلُ هذا باعِثٌ لهم على الاطمِئْنانِ؛ لأنَّ السِّبابَ هو أقَلُّ الأذَى الَّذي قد يقَعُ للغُرَباءِ، "فما أُحِبُّ أنَّ لي دَبْرًا ذَهَبًا، وإنِّي آذَيتُ رَجُلًا منكم"، والدَّبْرُ بلِسانِ الحَبَشةِ: الجَبَلُ، وقد رَدُّوا على قُرَيشٍ هَداياها كما جاءَ في الرِّواياتِ .الدرر السنية.
أُولَئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ :أولئك التي هذه أوصافهم الذين عدلوا عن الدنيا ولم يأخذوها بدلًا عن طاعة الله والإيمان به ؛ لَهُمْ أَجْرُهُمْ: أي: ثواب، وإضافته إلى الله "عِندَ رَبِّهِمْ" يدل على عِظَمِهِ وأنه عظيم جدًا، فإن الشيء من العظيم عظيم، ومن الكريم كثير،و فيه إشارة أنه باق؛ لأن ما عند الله يبقى، "مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِندَ اللَّهِ بَاقٍ"النحل : 96. ولهذا يخلد أهل الجنة فيها أبدًا، نسأل الله أن يجعلنا منهم.
إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ: السرعة: عدم التباطؤ في الشيء، فالله تعالى سريع الحساب من وجهين:
الوجه الأول: أن الدنيا قليلة وفانية وسريعة وما هي إلا لحظات ثم تنقضي بسرعة، فاليوم الجمعة مثلا، أو السبت أو الأحد أو أحد أيام الأسبوع ما تأخذ إلا شيئًا قليلا حتى يصل الإنسان إلى نهايته ويموت، فيجد الحساب أمامه، فهذه سرعة.
والسرعة الثانية: يوم القيامة فإن الله تعالى يحاسب الخلائق كلها في نصف يوم؛ لقوله تعالى"أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلا "الفرقان: ٢٤.والقيلولة إنما تكون في نصف النهار، ويلزم من هذا أن الله يحاسب الخلائق كلهم في نصف يوم حتى إن كل واحد منهم يقيل في منزله ومستقره.تفسير الشيخ العثيمين.
"يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ" 200.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا : نستشهد بقول عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه"إذا سمعت الله يقول:يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا فأرعها سمعك -يعني استمع لها- فإما خيرًا تُؤمر به، وإما شرًا تُنهى عنه".وقلنا:إن الله تعالى إذا صدَّرَ الخطاب بهذا فهو دليل على العناية به.ووجهه:أنه صدَّره النداءَ الذي يفيدُ تنبيه المخاطب.
ثم إذا كان النداء بوصف الإيمان كان دليلا على أن ما يأتي بعده من مقتضى الإيمان؛ لأنه لولا أنه من مقتضاه ما صدر الخطاب لمن يوجه إليه بلفظ الإيمان. فكأنه قال: يا أيها الذين آمنوا بإيمانكم افعلوا كذا وكذا، أو:لإيمانكم لا تفعلوا كذا وكذا. تفسير الشيخ العثيمين.
اصْبِرُوا: على كل ما يحتاج إلى صبر، ومعلوم أن الذي يحتاج إلى الصبر هو الذي يخالف هوى النفس؛ فالذي يخالف هواك هو الذي يحتاج إلى الصبر؛ لأنه يشق عليك تَحَمّله، فطاعة الله عز وجل ثقيلة على النفوس فاصبر عليها، والمعاصي ثقيل تركها على النفوس فاصبر على الترك، والآلام والمصائب التي تصيب الإنسان ثقيلة على النفس فاصبر عليها.فالمصائب التي تصيب الإنسان هي بنفسها مكفرة للذنوب، إذا صبر الإنسان ظفر، ولاسيما إذا قرن صبره باحتساب الأجر على الله عز وجل، إذا صبر الإنسان ظفر، ولاسيما إذا قرن صبره باحتساب الأجر على الله عز وجل،كانت العاقبة الحميدة، كانت مع التكفير زيادة حسنات.وَصَابِرُوا:المصابرة أن يجاهد المسلم نفسه مجاهدة لا تنقطع، حتى يحقق المجاهد رضا ربه عنه، بفعل الطاعة وترك المعصية، ذاكرًا قول الله تعالى "وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ" الحجر: 99.
وبمغالبة أَعداءَ الدِّين بالصبرِ ، حتى تَنتصِروا عليهم؛ فلا يكونوا أصْبرَ منكم.
المصابرة تكون من اثنين،"الصبر الأول"لا أحد يضادك في الشيء إنما هو شيء بينك وبين نفسك تصبر.
"
الصبر الثاني" إنسان يضادك ويثيرك ويعتدي عليك فصابره .. بمعنى غالبه بالصبر، وهذا يكون في ملاقاة الأعداء. فالعدو يصابرك وأنت تصابره، ولكن الله تعالى قد سلى عباده المؤمنين في قوله تعالى" وَلَا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِن تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا "
النساء : 104. أنت إذا جرحت تتألم وهو إذا جرح يتألم بلا شك، " وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ "النساء: ١٠٤.فرق عظيم، فالذي يرجو من الله عز وجل هذا الثواب على ما حصل له يهون عليه هذا الشيء، حتى إنه أحيانا لا يشعر به من شدة احتسابه الأجر على الله عز وجل.تفسير العثيمين.
وَرَابِطُوا وَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ :
المرابطة كما أنها لزوم الثغر الذي يخاف هجوم العدو منه في الظاهر؛ فهي لزوم ثغر القلب؛ لئلا يدخل منه الهوى والشيطان . فيزيله عن مملكته.
فالمرابطة: أخص المصابرة، يعني رابطوا على الطاعات، ومن ذلك ما بيَّنَهُ النبيُّ عليه الصلاة والسلام حيثُ قالَ
"أَلا أدُلُّكُمْ علَى ما يَمْحُو اللَّهُ به الخَطايا، ويَرْفَعُ به الدَّرَجاتِ؟ قالُوا بَلَى يا رَسولَ اللهِ، قالَ: إسْباغُ الوُضُوءِ علَى المَكارِهِ، وكَثْرَةُ الخُطا إلى المَساجِدِ، وانْتِظارُ الصَّلاةِ بَعْدَ الصَّلاةِ، فَذَلِكُمُ الرِّباطُ"
الراوي : أبو هريرة - صحيح مسلم.
إسباغ الوضوء على المكاره، يعني: في أيام البرودة، فإن الإنسان إذا أسبغ الوضوء، يعني:أتمه وأكمله دل هذا على إيمانه بالله عز وجل وعلى شدة تصديقه ورجائه لثواب الله.
فالمرابطة، هي الثبات واللزوم والإقامة على الصبر والمصابرة، فقد يصبر العبد ولا يصابر، وقد يصابر ولا يرابط، وقد يصبر ويصابر ويرابط من غير تعبد بالتقوى، فأخبر سبحانه أن ملاك ذلك كله التقوى، وأن الفلاح موقوف عليها فقال: وَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ"آل عمران: 200.

تم بفضل الله الانتهاء من تفسير سورة آل عمران
اللهم اغفر لي ولوالدي ولمن دخل بيتي مؤمنًا
التفسير مجمع من كتب التفسير وأقوال العلماء وحاولنا قدر المستطاع الإحالة لكن لتصرفنا أحيانا بالتخريج أو الاختصار غير المخل فالإحالة إجمالية قدر الطوق
وأستغفر الله من أي خطأ أو سهو



توقيع أم أبي تراب
أم أبي تراب غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس