(إن ترن أنا أقل منك مالاً وولداً، فعسى ربي أن يؤتيني خيراً من جنتك ويرسل عليها حسباناً من السماء فتصبح صعيداً زلقاً أو يصبح ماؤها غوراً فلن تستطيع له طلباً)
، فالرزق غير ثابت وغير دائم، فالله سبحانه قادر على أن يقلب الصورة، فيصبح الغني فقيراً والفقير غنياً، كما يصبح القوي ضعيفاً والضعيف قوياً، يحرم هذا بأسباب وبغير أسباب، ويمنح ذاك بأسباب وبغير أسباب كذلك. فكم من غني افتقر بعد غناه بين عشية وضحاها وكذلك العكس، والأمثلة في هذا أكثر من أن تحصى، ولكن الإنسان يغفل وينسى بل ينسيه الشيطان هذه الحقيقة القرآنية والسننية وسط متاهات الحياة وملذاتها
{يعدهم ويمنيهم، وما يعدهم الشيطان إلا غروراً}.
أما المؤمن الواثق بربه، المتوكل عليه حقيقة يعلم يقيناً بأن ما فاته من الدنيا لن ينقص من قيمته عند الله، وما يكسبه المرء من حظ الدنيا لن يرفع شأنه عند الله إلا بمقدار ما ينفق من هذا المال في سبيل الله وفي سبيل عمارة الأرض في الخير والإحسان لعباد الله، أما ما عدا ذلك فسيكون مجرد لذة عابرة في الحياة الدنيا ووزر وندامة يوم القيامة.
كما أن المؤمن يعلم بأن الله تعالى يرزق من يشاء بحساب وبغير حساب، وحينما يرزقك فلحكمة بالغة، وقد يكون هذا الرزق سلاح ذو حدين، قد ينفعك وقد يضرك، وحين يحرمك فلحكمة بالغة كذلك، وقد يكون هذا الفقر والحرمان خيراً لك في دينك ودنياك وإن كان ظاهره عكس ذلك. فقد يكون العطاء والغنى استدراجاً للكثير من الناس، كما يكون نعمة لآخرين، وهكذا تتفاوت الأرزاق وتختلف الحكم الربانية في ذلك من شخص لآخر
{والله يعلم وأنتم لا تعلمون}.
أما صاحبنا فظاهر الأمر أن الله قد حرمه من هذا المتاع بسبب بطر النعمة وتكبره على الله، وكان هذا الجزاء الدنيوي؛
{فأحيط بثمره، فأصبح يقلب كفيه على ما أنفق فيها وهي خاوية على عروشها، ويقول يا ليتني لم أشرك بربي أحداً}
وكم من نعم يؤتاها الإنسان فلا يعير لها كبير اهتمام، بل قد يستعملها في الشر ومنع الخير، حتى إذا فقدها أفاق وندم على ما فات، ويتمنى لو تعود إليه لكي يحسن صنعاً، ولات حين مندم.
إن الله تعالى حكيم في فعله وحكيم في حكمه وقضائه، والقاعدة الثابتة هي
{لئن شكرتم لأزيدنكم، ولئن كفرتم إن عذابي لشديد}
، سنة لا تحابي أحداً، جزاء من جنس العمل، قطعت فقطع الله عليك، منعت فمنع الله عنك. وهذا الحكم يشمل كل النعم التي يتمتع بها الإنسان، خاصة المؤمن بما لديه من إيمان وفهم لدين الله وقوة جوارح، لابد أن يسخر هذا في خدمة دينه ونصرته بما أوتي من نعم الله، ومن يمتنع ويبخل فإنه لا يستحق هذه النعم والأجدر أن لا تدوم له، وإذا دامت فلن تنفعه، بل ستكون عليه وزراًً في الدنيا ووبالاً في والآخرة.
وهنا يرجع المرء إلى أصله وحقيقته، على أنه لا شيء ولا يملك شيئاً ولا حول له ولا قوة إلا بالله، فإن شاء رفعه وأعطاه وإن شاء وضعه وحرمه
{ولم تكن له فئة ينصرونه من دون الله وما كان منتصراً}
ومن يستطيع أن ينصره على الله، أو يحاول أن يرد إليه ما فاته؟
{هنالك الولاية لله الحق، هو خير ثواباً وخير عقباً}
، هذه هي الحقيقية، وهذه هي النهاية التي نغفل عنها ونتناساها وسط زحمة الأحداث والفتن المحيطة بنا، حتى كأننا نظن أن ما نملكه من متاع الدنيا قادر على أن ينقذنا من بأس الله إن جاءنا، بل من قضائه وعدله سبحانه.
{وإذا أراد الله بقوم سوءا فلا مرد له وما لهم من دونه من وال}
، فضلاً عن أن المؤمن لابد أن يستسلم لأمر الله ويعتبر ما أصابه من سيئة ومن سوء بسبب ما كسبت يداه، وقد يكون فيه الخير الكثير، والدعوة إلى تغيير مساره وسلوكه مع ربه، وهو أفضل من الاستدراج الذي ينتهي بصاحبه إلى الهلاك النهائي وإلى نقطة اللارجوع.
نسأل الله تعالى في ختام هذه الوقفات أن يبصرنا بعيوبنا ويجعلنا وقافين عند حدوده، مستسلمين لقضائه وقدره وإن كان شديد الوقع على النفوس، وأن يلهمنا الصبر والسلوان على ما أصابنا في سبيل الله، وأن يجعلنا من الشاكرين لنعمه لكي تدوم وتستمر، ويوفقنا لاستعمالها في خدمة دينه والدفاع عن سنة نبيه.صلى الله عليه وسلم .
والحمد لله أولاً وآخراً..