عرض مشاركة واحدة
قديم 11-06-07, 08:44 AM   #1
مسلمة لله
جُهدٌ لا يُنسى
افتراضي هل لبس رخيص الثمن من الثياب من الزهد ؟ ضوابط ومسائل مهمة

هل لبس رخيص الثمن من الثياب من الزهد ؟ ضوابط ومسائل مهمة

سؤال:


1. كثيراً ما تجادلني زوجتي حول ثيابي ، حيث إني أقوم بخياطتها ورقعها أحياناً ، ولا ألبس غالي الأثمان إطلاقاً ، بل دائما أشتري ما هو رخيص من الثياب ، فثيابي بالية نوعاً ما ، وكثيراً ما يقال لي إن ذلك يعطي صورة سيئة عن " الملتزمين " ، وأنا أفعل ذلك من باب الزهد ، وأسوة بنبينا الكريم صلى الله عليه وسلم ، ولا ننسى قصة عمر رضي الله عنه وقميصه ، فما الحل ؟ وخاصة أننا نعلم أن في هذا الزمان من لا يعلم معنى الزهد ، فأنا لا ألبس الساعات الغالية ، ولا أشتري أقلاماً وأي تحف ، من جهة أخرى : فإن عملي كموظف بنك يتطلب أن أكون في قمة الأناقة ، أرشدوني ، وكيف نوفق بين ذلك وبين أن هناك من الصحابة ( لا أذكره ) رضوان الله عليهم من كان إذا لبس الأبيض والجديد استبشر به الرسول الكريم . 2. أنا لا ألبس الجيد من النعال ، حيث إني أذكر أنه عن عمر رضي الله عنه عندما نصح أحد الصحابة باستبدال نعله المريح بآخر رخيص ، ولكن إن فعلت ذلك فسوف تقسو قدمي ، وأتهم بعدم الاهتمام بمنظري ، وأني مخالف ، وكيف نوفق مع مدخل الرياء في هذا المطلب ؟ وهل يعد ذلك إيذاءً للنفس - وبخاصة أنه مثلا في الشتاء لا أتكلف بتدفئة نفسي ، بل لا أمانع من التعرض للبرد للإحساس وتذكر الفقراء - ؟

الجواب
:

الحمد لله

أولاً:
قولك عن نفسك إنك " تعمل في بنك " : إن كان هذا البنك من البنوك الربوية : فلا يحل لك العمل به ، ولو في أي وظيفة فيه .
وقد ذكرنا في هذا في الموقع فتاوى متعددة في حكم العمل في البنوك الربوية ، وأنه حرام ، ولا يجوز العمل بها ، فانظر أجوبة الأسئلة : ( 21113 ) و ( 26771 ) .
ثانياً:
ثمة حقائق وأحكام لا بدَّ لك من الوقوف عليها لتعلم ما أخطأت فيه وما أصبتَ :
1. خير الهدي هدي النبي محمد صلى الله عليه وسلم ، فقد لبس من أنواع الثياب ، وكان يتجمل للوفود ، ولصلاة العيد ، ولصلاة الجمعة ، وندب للتجمل لها ، وأقرَّ من رغب أن يكون ثوبه حسناً ، ورغَّب بظهور أثر نعمة الله على عباده ، مع تواضع تام ، وزهد شرعي ، وهذا أكمل الهدي لمن اقتدى به صلى الله عليه وسلم .
عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ رَأَى عُمَرُ عُطَارِدًا التَّمِيمِيَّ يُقِيمُ بِالسُّوقِ حُلَّةً سِيَرَاءَ وَكَانَ رَجُلًا يَغْشَى الْمُلُوكَ وَيُصِيبُ مِنْهُمْ فَقَالَ عُمَرُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي رَأَيْتُ عُطَارِدًا يُقِيمُ فِي السُّوقِ حُلَّةً سِيَرَاءَ فَلَوْ اشْتَرَيْتَهَا فَلَبِسْتَهَا لِوُفُودِ الْعَرَبِ إِذَا قَدِمُوا عَلَيْكَ وَلَبِسْتَهَا يَوْمَ الْجُمُعَةِ - ( وفي رواية " والعيد " ) - فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :إِنَّمَا يَلْبَسُ الْحَرِيرَ فِي الدُّنْيَا مَنْ لَا خَلَاقَ لَهُ فِي الْآخِرَةِ . رواه البخاري ( 846 ) ومسلم ( 2068 ) .

حُلة : ثوب من قطعتين .
سيراء : مخطط بالحرير .
لا خلاق : لا نصيب ولا حظ .

عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ عَلَى الْمِنْبَرِ فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ : ( مَا عَلَى أَحَدِكُمْ لَوْ اشْتَرَى ثَوْبَيْنِ لِيَوْمِ الْجُمُعَةِ سِوَى ثَوْبِ مِهْنَتِهِ ) . رواه ابن ماجه ( 1095 ) وصححه البوصيري ، والألباني في " صحيح ابن ماجه " .
والشاهد من الحديث إقرار النبي صلى الله عليه وسلم لعمر رضي الله عنه على قوله بالتجمل منه صلى الله عليه وسلم للوفود والجمعة والعيد ، وهذا هو واقعه صلى الله عليه وسلم ، وإنما أنكر النبي صلى الله عليه وسلم كونها من حرير .

والحديث : بوَّب عليه البخاري قوله " باب من تجمَّل للوفود " .
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله :
وشاهد الترجمة منه : قول عمر " تجمَّل بها للوفود " ، وأقرَّه النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك .
" فتح الباري " ( 10 / 501 ) .

وقال بدر الدين العيني – رحمه الله - :
المطابقة – أي : مع ترجمة البخاري - تُفهم من كلام عمر رضي الله عنه ؛ لأن عادة النبي صلى الله عليه وسلم كانت جارية بالتجمل للوفد ؛ لأن فيه تفخيم الإسلام ، ومباهاة للعدو ، وغيظا لهم غير أن النبي هنا أنكر على عمر لبس الحرير بقوله إنما يلبس الحرير مَن لا خلاق له ، ولم ينكر عليه مطلق التجمل للوفد ، حتى قالوا : وفي هذا الحديث لبس أنفس الثياب عند لقاء الوفود .
" عمدة القاري " ( 22 / 147 ) .

2. لك أن تلبس ملابس رخيصة الثمن ، لكن ليس لك أن تلبس ملابس بالية ومرقعة ، فالثياب البالية المرقعة ممنوعة في حقك من جهات متعددة :
أ. أنها قد تكون ثياب شهرة .
عن ابن عمر قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( مَنْ لَبِسَ ثَوْبَ شُهْرَةٍ أَلْبَسَهُ الله يَوْمَ القِيَامَةِ ثَوْباً مِثْلَه ) . وفي رواية بزيادة ( ثُمَّ تَلهبُ فِيهِ النَّار ) ، وفي رواية أخرى ( ثَوْبَ مَذَلَّة ) . رواه أبو داود ( 4029 ) وابن ماجه ( 3606 ) و ( 3607 ) ، وحسَّنه الألباني في " صحيح الترغيب " ( 2089 ) .

وليس ثوب الشهرة هو الثوب الغالي الثمن فقط ، كما يظن بعض الناس ، بل قد يكون الثوب البالي إذا كان اللابس يجد غيره مما هو أفضل منه .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله - :
وتكره الشهرة من الثياب ، وهو المترفع الخارج عن العادة ، والمتخفض الخارج عن العادة ؛ فإن السلف كانوا يكرهون الشهرتين : المترفع والمتخفض ، وفى الحديث " من لبس ثوب شهرة ألبسه الله ثوب مذلة " ، وخيار الأمور أوساطها .
" مجموع الفتاوى " ( 22 / 138 ) .
وقال – رحمه الله - :
والثوب الذي هو للشهرة : هو الثوب الذي يُقصد به الارتفاع عند الناس ، وإظهار الترفع ، أو التواضع والزهد .
" مختصر الفتاوى المصرية " ( 2 / 50 ) .

ب. أنها مخالفة لشكر نعمة الله تعالى عليك ، وإظهار تلك الثياب فيه ادعاء الفقر والشكوى من الله !
عَنْ أَبِي الأَحْوَصِ ، عَنْ أَبِيهِ مَالِكٍ ، قَالَ : قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللهِ ، الرَّجُلُ أَمُرُّ بِهِ ، فَلاَ يُضَيِّفُنِي وَلاَ يَقْرِينِي ، فَيَمُرُّ بِي فَأَجْزِيهِ ؟ قَالَ : لاَ بَلْ اقْرِهِ . قَالَ : فَرَآنِي رَثَّ الثِّيَابِ ، فَقَالَ : هَلْ لَكَ مِنْ مَالٍ ؟ فَقُلْتُ : قَدْ أَعْطَانِي اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ كُلِّ الْمَالِ مِنَ الإِِبِلِ وَالْغَنَمِ ، قَالَ : فَلْيُرَ أَثَرُ نِعْمَةِ اللهِ عَلَيْكَ. رواه أبو داود ( 4063 ) وأحمد ( 17231 ) – واللفظ له - ، وصححه الأرناؤط والألباني .

قال الحافظ ابن حجر – رحمه الله – في معنى الحديث - :
يلبس ثيابا تليق بحاله من النفاسة والنظافة ؛ ليعرفه المحتاجون ؛ للطلب منه ، مع مراعاة القصد ، وترك الإسراف .
" فتح الباري " ( 10 / 260 ) .

ج. أنك تقدِّم للمتربصين فرصة للطعن بالملتزمين ، وبسلوكهم ، وبأفعالهم .

د. أن هذا الفعل ليس من هدي سلف الأمة ، وإنما كانوا يرقِّعون ثيابهم للضرورة .

هـ. أن فيه تشبهاً بالضالين من أهل التصوف والمخرقة ، الذين يحرمون ما أحل الله ادعاءً للزهد .

قال القرطبي – رحمه الله - :
قال أبو الفرج بن الجوزي رحمه الله :
وأنا أكره لبس الفُوط والمرقعات لأربعة أوجه :
أحدها : أنه ليس من لبس السلف ، وإنما كانوا يرقعون ضرورة .
والثاني : أنه يتضمن ادعاء الفقر ، وقد أُمر الإنسان أن يُظهر أثرَ نِعَم الله عليه .
والثالث : إظهار التزهد ، وقد أُمرنا بستره .
والرابع : أنه تشبه بهؤلاء المتزحزحين عن الشريعة ، ومَن تشبه بقوم فهو منهم .
وقال الطبري : ولقد أخطأ من آثر لباس الشَّعر ، والصوف على لباس القطن ، والكتان ، مع وجود السبيل إليه من حلِّه .
" تفسير القرطبي " ( 7 / 197 ) .

3. لا يحل لك أن تحرم على نفسك شيئا من زينة اللباس ونحوه ، مما أحله الله لك ، ولو كان نفيسا غالي الثمن ، أو تتركه تركا مطلقا ، تقرباً إلى الله تعالى بهذا الترك .
قال تعالى : ( قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ) الأعراف/ 32 .
قال القرطبي – رحمه الله - :
دلت الآية على لباس الرفيع من الثياب ، والتجمل بها في الجمع ، والأعياد ، وعند لقاء الناس ، ومزاورة الإخوان .
قال أبو العالية : كان المسلمون إذا تزاوروا تجمَّلوا .
" تفسير القرطبي " ( 7 / 196 ) .
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله - :
ومن امتنع عن نوع من الأنواع التي أباحها الله على وجه التقرب بتركها : فهو مخطئ ، ضالٌّ .
" مجموع الفتاوى " ( 22 / 137 ) .
وقال – رحمه الله - :
وكذلك اللباس : فمَن ترك جميل الثياب بُخلاً بالمال : لم يكن له أجر ، ومَن تركه متعبِّداً بتحريم المباحات : كان آثماً .
" مجموع الفتاوى " ( 22 / 138 ) .
4. إذا لبستَ ما أباحه الله لك من الثياب مظهراً لنعمة الله عليه : فإنك مأجور على ذلك ، ولو كانت ثيابك في غاية النفاسة والرفعة .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله - :
ومن تناول ما أباحه الله من الطعام واللباس مُظهراً لنعمة الله ، مستعيناً على طاعة الله : كان مُثاباً على ذلك .
" مجموع الفتاوى " ( 22 / 137 ) .
وقال – رحمه الله - :
ومَن لبس جميل الثياب إظهاراً لنعمة الله واستعانة على طاعة الله : كان مأجوراً ، ومَن لبسه فخراً وخيلاء : كان آثماً ؛ فإن الله لا يحب كل مختال فخور .
" مجموع الفتاوى " ( 22 / 139 ) .
وقال الإمام ابن القيم - رحمه الله - :
لبس الدنيِّ من الثياب يذمّ في موضع ، ويحمد في موضع : فيُذم إذا كان شهرة وخيلاء ، ويُمدح إذا كان تواضعاً واستكانةً ، كما أن لبس الرفيع من الثياب يُذمّ إذا كان تكبّراً وفخراً وخيلاء ، ويُمدح إذا كان تجملاً وإظهاراً لنعمة الله .
" زاد المعاد " ( 1 / 146 ) .
وقال الحافظ ابن حجر – رحمه الله - :
والذي يجتمع من الأدلة : أنَّ مَن قصد بالملبوس الحسن إظهار نعمة الله عليه ، مستحضراً لها ، شاكراً عليها ، غير محتقر لمن ليس له مثله : لا يضره ما لبس من المباحات ، ولو كان في غاية النفاسة ، ففي صحيح مسلم عن ابن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة مِن كِبْر ، فقال رجل : إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسنا ونعله حسنة ، فقال : إن الله جميل يحب الجمال ، الكبر بطر الحق ، وغمط الناس ) ، وقوله ( وغَمْط ) بفتح المعجمة وسكون الميم ثم مهملة : الاحتقار .
" فتح الباري " ( 10 / 259 ، 260 ) .

5. لا يُلزم المسلم بشراء الثياب الغالية الثمن ، بل قد يُنهى عنه إذا كان لا يجد المال الذي يشتري به ، أو إذا قصد الفخر والخيلاء ، وقد يؤجر على تركه شراء تلك الثياب بشرطين :
أ. أن يكون ذلك الترك للشراء تواضعاً لا بُخلاً .
ب. أن لا يلتزم الترك مطلقاً ، بل يشتريها أحياناً لمناسبة زواج ، أو غيرها ، أو إذا أُهديت له ، والمهم أن لا يلتزم ترك لباسها مطلقاً .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله - :
ومَن ترك لبس الرفيع من الثياب تواضعاً لله ، لا بخلاً ، ولا التزاماً للترك مطلقاً : فإنَّ الله يثيبه على ذلك ، ويكسوه مِن حلل الكرامة .
" مجموع الفتاوى " ( 22 / 138 ) .

6. التوسط في الأمور حسن ، فلِمَ تحصر نفسك بين منعها من الغالي من الثياب ، وبين إلباسها البالي منها ؟! وأين أنت من الثياب الوسط بينهما ؟ .
قال أبو الفرج ابن الجوزي : كان السّلف يلبسون الثّياب المتوسّطة ، لا المترفّعة ، ولا الدّون ، ويتخيّرون أجودها للجمعة والعيدين وللقاء الإخوان ، ولم يكن تخيّر الأجود عندهم قبيحاً .
انظر " تفسير القرطبي " ( 7 / 197 ) و " الموسوعة الفقهية " ( 6 / 139 ) .
وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله : " والحق أن ملازمة استعمال الطيبات تفضي إلى الترفه والبطر ، ولا يأمن من الوقوع في الشبهات ؛ لأن من اعتاد ذلك قد لا يجده أحيانا ، فلا يستطيع الانتقال عنه فيقع في المحظور ، كما أن منع تناول ذلك أحيانا يفضي إلى التنطع المنهي عنه ، ويرد عليه صريح قوله تعالى : { قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ } كما أن الأخذ بالتشديد في العبادة يفضي إلى الملل القاطع لأصلها ، وملازمة الاقتصار على الفرائض ـ مثلا ـ وترك التنفل يفضي إلى إيثار البطالة وعدم النشاط إلى العبادة ، وخير الأمور الوسط . " انتهى من فتح الباري (9/106) .

7. وليس كل ثوب رخيص الثمن يكون لبسه من الزهد ، فأهل العلم والزهد لم يتعارض زهدهم مع اللباس الجيد الرفيع ، ومن نظر للزهد على أنه في الثياب ـ فقط ـ فهو مخطئ ، فترى الرجل يتمتع بأنواع الفرش في بيته والسيارات والمأكولات والمشروبات ، ويحصر زهده في ثوبه ونعله ! ولم يكن هذا هدي سلف هذه الأمة من العُبَّاد والزهَّاد والعلماء .
قال القرطبي – رحمه الله - :
وقد اشترى تميم الداري حلة بألف درهم كان يصلي فيها ، وكان مالك بن دينار يلبس الثياب العدنية الجياد ، وكان ثوب أحمد بن حنبل يُشترى بنحو الدينار .
أين هذا ممن يرغَب عنه ، ويؤثر لباس الخشن من الكتان والصوف من الثياب ! ، ويقول : " ولباس التقوى ذلك خير " هيهات ! أتَرى مَن ذكرنا تركوا لباس التقوى ، لا والله ! بل هم أهل التقوى ، وأولو المعرفة والنُّهى ، وغيرهم أهل دعوى ، وقلوبهم خالية من التقوى .
" تفسير القرطبي " ( 7 / 196 ) .

8. فإن قلتَ إن هذا من جهاد النفس ! وإن أفعالنا إنما تكون لله لا للخلق ! : فالجواب :
قال القرطبي – رحمه الله - :
إن قال قائل : تجويد اللباس هوى النفس ، وقد أُمرنا بمجاهدتها ، وتزينٌ للخلْق وقد أمرنا أن تكون أفعالنا لله لا للخلق ! .
فالجواب :
ليس كل ما تهواه النفس يُذم ، وليس كل ما يُتزين به للناس يكره ، وإنما يُنهى عن ذلك إذا كان الشرع قد نهى عنه ، أو على وجه الرياء في باب الدِّين .
فإن الإنسان يجب أن يُرى جميلاً ، وذلك حظ للنفس لا يلام فيه ، ولهذا يسرِّح شعرَه ، ويَنظر في المرآة ، ويسوِّي عمامته ، ويلبس بطانة الثوب الخشنة إلى داخل ، وظهارته الحسنة إلى خارج ، وليس في شيء من هذا ما يكره ، ولا يذم .
" تفسير القرطبي " ( 7 / 197 ) .

9. اللباس غالي الثمن يكون – غالباً – أفضل للبدن ، وأطول حياةً ، هكذا الأمر بالنسبة للنعل ، فإنه يكون أكثر راحة للقدمين ، ويعمِّر طويلاً ، فحرص المسلم على راحته وبذل الثمن المرتفع من أجل ذلك : لا يحرَّج عليه فيه .

10. وانظر أخي الفاضل لقلبك وتفقد أحوالك من حيث الأوامر والنواهي ، وإياك أن تجعل ميزانك في قربك من ربك تعالى : قدَم ثيابك وترقيعها ، ولذا كان بكر بن عبد الله المزني رحمه الله يقول : البسوا ثياب الملوك ، وأميتوا قلوبكم بالخشية .

وقد ذكر الإمام ابن كثير رحمه الله عن علي بن أبي طالب أنه كان يقول :

أَجِدِ الثيابَ إذا اكتسيتَ فإنَّها *** زين الرجال بها تُعزُّ وتُكرم
ودع التواضع في الثياب تخشعا *** فالله يعلم ما تَجنُّ وتَكتُم
فرثاث ثوبك لا يزيدك زلفة *** عند الإله وأنت عبد مجرم
وبهاء ثوبك لا يضرك بعد أن *** تخشى الإله وتتقي ما يحرم
وعلَّق عليها ابن كثير بقوله :
وهذا كما جاء في الحديث : ( إن الله لا ينظر إلى صوركم ولا إلى ثيابكم وإنما ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم ) – رواه مسلم - ، وقال الثوري : " ليس الزهد في الدنيا بلبس العبا ، ولا بأكل الخشن ، إنما الزهد في الدنيا قصر الأمل " .
" البداية والنهاية " ( 8 / 11 ) .

والخلاصة :

أن الذي ينبغي للمرء من اللباس هو ما يناسب حاله : ( لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ ) ؛ فمن لبس رفيع الثياب : إظهارا لنعمة الله عليه ، وتمتعا بما يباح له من الطيبات ، من غير إسراف ولا مخيلة ، فله ذلك ، ولا ينقص من قدره ولا ورعه شيئا ، بل يؤجر ـ إن شاء الله ـ على قصده الحسن .
ومن ترك رفيع الثياب ، تواضعا واستكانة لله تعالى ، فهو أمر حسن ، لكن على ألا يخرج من ذلك إلى شيء من الشهرة ، أو يحرم على نفسه ـ أو غيره ـ شيئا من الطيبات ، أو يفعل ذلك على جهة الالتزام المطلق ، مهما كانت حاله .
وَسُئِلَ شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : " عَنْ الْمُتَنَزِّهِ عَنْ الْأَقْمِشَةِ الثَّمِينَةِ مِثْلِ الْحَرِيرِ وَالْكَتَّانِ الْمُتَغَالَى فِي تَحْسِينِهِ وَمَا نَاسَبَهَا : هَلْ فِي تَرْكِ ذَلِكَ أَجْرٌ أَمْ لَا ؟ أَفْتُونَا مَأْجُورِينَ .
فَأَجَابَ : الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ . أَمَّا مَا حَرَّمَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ كَالْحَرِيرِ فَإِنَّهُ يُثَابُ عَلَى تَرْكِهِ كَمَا يُعَاقَبُ عَلَى فِعْلِهِ ...
وَأَمَّا الْمُبَاحَاتُ : فَيُثَابُ عَلَى تَرْكِ فُضُولِهَا ، وَهُوَ مَا لَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ لِمَصْلَحَةِ دِينِهِ ، كَمَا أَنَّ الْإِسْرَافَ فِي الْمُبَاحَاتِ مَنْهِيٌّ عَنْهُ ، كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَالَّذِينَ إذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا } وَقَالَ تَعَالَى عَنْ أَصْحَابِ النَّارِ : { إنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ } { وَكَانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا } وَقَالَ تَعَالَى : { وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا } { إنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا } . وَالْإِسْرَافُ فِي الْمُبَاحَاتِ هُوَ مُجَاوَزَةُ الْحَدِّ ، وَهُوَ مِنْ الْعُدْوَانِ الْمُحَرَّمِ ، وَتَرْكُ فُضُولِهَا هُوَ مِنْ الزُّهْدِ الْمُبَاحِ .
وَأَمَّا الِامْتِنَاعُ مِنْ فِعْلِ الْمُبَاحَاتِ مُطْلَقًا ؛ كَاَلَّذِي يَمْتَنِعُ مِنْ أَكْلِ اللَّحْمِ وَأَكْلِ الْخُبْزِ أَوْ شُرْبِ الْمَاءِ أَوْ لُبْسِ الْكَتَّانِ وَالْقُطْنِ وَلَا يَلْبَسُ إلَّا الصُّوفَ ، وَيَمْتَنِعُ مِنْ نِكَاحِ النِّسَاءِ ، وَيَظُنُّ أَنَّ هَذَا مِنْ الزُّهْدِ الْمُسْتَحَبِّ فَهَذَا جَاهِلٌ ضَالٌّ مِنْ جِنْسِ زُهَّادِ النَّصَارَى . قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ } { وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ } نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ بِسَبَبِ أَنَّ جَمَاعَةً مِنْ الصَّحَابَةِ كَانُوا قَدْ عَزَمُوا عَلَى تَرْكِ أَكْلِ الطَّيِّبَاتِ . كَاللَّحْمِ وَنَحْوِهِ وَتَرْكِ النِّكَاحِ . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَنَسٍ { أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ : مَا بَالُ رِجَالٍ يَقُولُ أَحَدُهُمْ : أَمَّا أَنَا فَأَصُومُ وَلَا أُفْطِرُ وَيَقُولُ الْآخَرُ : أَمَّا أَنَا فَأَقُومُ وَلَا أَنَامُ وَيَقُولُ الْآخَرُ : أَمَّا أَنَا فَلَا آكُلُ اللَّحْمَ . لَكِنِّي أَصُومُ وَأُفْطِرُ وَأَقُومُ وَأَنَامُ وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ وَآكُلُ اللَّحْمَ فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي } . وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ { أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم رَأَى رَجُلًا قَائِمًا فِي الشَّمْسِ . فَقَالَ : مَا هَذَا ؟ قَالُوا : هَذَا أَبُو إسْرَائِيلَ نَذَرَ أَنْ يَقُومَ وَلَا يَسْتَظِلَّ وَلَا يَتَكَلَّمَ وَيَصُومَ فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم : مُرُوهُ أَنْ يَسْتَظِلَّ وَأَنْ يَتَكَلَّمَ وَأَنْ يَجْلِسَ وَيُتِمَّ صَوْمَهُ } .
وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إنْ كُنْتُمْ إيَّاهُ تَعْبُدُونَ } . فَأَمَرَ بِالْأَكْلِ مِنْ الطَّيِّبَاتِ وَالشُّكْرِ لَهُ ، وَالطَّيِّبُ هُوَ مَا يَنْفَعُ الْإِنْسَانَ ، وَحَرَّمَ الْخَبَائِثَ وَهُوَ مَا يَضُرُّهُ ، وَأَمَرَ بِشُكْرِهِ وَهُوَ الْعَمَلُ بِطَاعَتِهِ ؛ بِفِعْلِ الْمَأْمُورِ وَتَرْكِ الْمَحْظورِ ... " انتهى من مجموع الفتاوى (22/133-134) .

تنبيه :

وكل ما قلناه عن اللباس فإنه يشمل النعل كذلك ، وقد اجتمعا في حديث ابن مسعود والذي فيه إقرار النبي صلى الله عليه وسلم لمن أخبره أن الرجل " يحب أن يكون ثوله حسناً ، ونعله حسنة ) .
عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال : قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( كُلُوا وَاشْرَبُوا وَالْبَسُوا وَتَصَدَّقُوا فِي غَيْرِ إِسْرَافٍ وَلَا مَخِيلَةٍ ) .
رواه النسائي ( 2559 ) وابن ماجه ( 3605 ) ، وحسَّنه الألباني في " صحيح النسائي " .
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : كُلْ مَا شِئْتَ وَالْبَسْ مَا شِئْتَ مَا أَخْطَأَتْكَ اثْنَتَانِ سَرَفٌ أَوْ مَخِيلَةٌ .
رواه البخاري عنه في صحيحه ، في كتاب اللباس ( 5 / 2180 ) .
والله أعلم



الإسلام سؤال وجواب
















توقيع مسلمة لله
[FRAME="7 10"]ما دعوة أنفع يا صاحبي ** من دعوة الغائب للغائب
ناشدتك الرحمن يا قارئا ** أن تسأل الغفران للكاتب
[/FRAME]
مسلمة لله غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس