عرض مشاركة واحدة
قديم 24-08-08, 03:17 AM   #4
راجية الفردوس الأعلى
جُهدٌ لا يُنسى
افتراضي

ذكر جمل من الأخبار الشاهدة لسعة حفظه وسيلان ذهنه واطلاعه على العلل سوى ما تقدم:
ساق صاحب هدي الساري بسنده إلى عدة من مشايخ بغداد يقولون: إن محمد بن إسماعيل البخاري قدم بغداد، فسمع به أصحاب الحديث، فاجتمعوا وأرادوا امتحان حفظه، فعمدوا إلى مائة حديث فقلبوا متونها وأسانيدها، وجعلوا متن هذا الإسناد لإسناد آخر، وإسناد هذا المتن لمتن آخر، ودفعوها إلى عشرة أنفس لكل رجل عشرة أحاديث، وأمروهم إذا حضروا المجلس أن يلقوا ذلك على البخاري، وأخذوا عليه الموعد للمجلس فحضروا وحضر جماعة من الغرباء من أهل خراسان وغيرهم ومن البغداديين، فلما اطمأن المجلس بأهله انتدب رجل من العشرة فسأله عن حديث من تلك الأحاديث فقال البخاري لا أعرفه فما زال يلقى عليه واحدا بعد واحد حتى فرغ البخاري يقول لا أعرفه وكان العلماء ممن حضر المجلس يلتفت بعضهم إلى بعض ويقولون فهم الرجل! ومن كان لم يدر القصة يقضي على البخاري بالعجز والتقصير وقلة الحفظ، ثم انتدب رجل من العشرة أيضا فسأله عن حديث من تلك الأحاديث المقلوبة، فقال: لا أعرفه، فسأله عن آخر فقال: لا أعرفه فلم يزل يلقي عليه واحدا واحدا حتى فرغ من عشرته، والبخاري يقول: لا أعرفه، ثم انتدب الثالث والرابع إلى تمام العشرة حتى فرغوا كلهم من إلقاء تلك الأحاديث المقلوبة، والبخاري لا يزيدهم على "لا أعرفه"، فلما علم أنهم قد فرغوا إلتفت إلى الأول فقال: أما حديثك الأول فقلت كذا وصوابه كذا، وحديثك الثاني كذا وصوابه كذا، والثالث والرابع على الولاء، حتى أتى على تمام العشرة، فرد كل متن إلى إسناده، وكل إسناد إلى متنه، وفعل بالآخرين مثل ذلك، فأقر الناس له بالحفظ، وأذعنوا له بالفضل، قلت: هنا يخضع للبخاري فما العجب من رده الخطأ إلى الصواب، فإنه كان حافظا بل العجب من حفظه للخطأ على ترتيب ما ألقوه عليه من مرة واحدة!!!
وروينا عن أبي بكر الكلوذاني قال: ما رأيت مثل محمد بن إسماعيل، كان يأخذ الكتاب من العلم فيطلع عليه اطلاعة فيحفظ عامة أطراف الأحاديث من مرة واحدة!
وقال غنجار في تاريخه: سمعت أبا القاسم منصور بن إسحاق بن إبراهيم الأسدي يقول سمعت أبا محمد عبد الله بن محمد بن إبراهيم يقول سمعت يوسف بن موسى المروزي يقول كنت بالبصرة في جامعها إذ سمعت مناديا ينادي: يا أهل العلم لقد قدم محمد بن إسماعيل البخاري! فقاموا إليه وكنت معهم، فرأينا رجلا شابا ليس في لحيته بياض، فصلى خلف الأسطوانة، فلما فرغ أحدقوا به وسألوه أن يعقد لهم مجلسا للإملاء فأجابهم إلى ذلك، فقام المنادي ثانيا في جامع البصرة فقال: يا أهل العلم لقد قدم محمد بن إسماعيل البخاري فسألناه أن يعقد مجلس الإملاء فأجاب بأن يجلس غدا في موضع كذا، فلما كان الغد حضر المحدثون والحفاظ والفقهاء والنظارة حتى اجتمع قريب من كذا كذا ألف نفس، فجلس أبو عبد الله للإملاء فقال قبل أن يأخذ في الإملاء: يا أهل البصرة أنا شاب وقد سألتموني أن أحدثكم وسأحدثكم بأحاديث عن أهل بلدكم تستفيدونها ـ يعني ليست عندكم ـ قال فتعجب الناس من قوله، فأخذ في الإملاء فقال: حدثنا عبد الله بن عثمان بن جبلة بن أبي رواد العتكي ببلدكم قال حدثني أبي عن شعبة عن منصور وغيره عن سالم بن أبي الجعد عن أنس بن مالك أن أعرابيا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله الرجل يحب القوم، الحديث، ثم قال هذا ليس عندكم عن منصور إنما هو عندكم عن غير منصور، قال يوسف بن موسى فأملى عليهم مجلسا من هذا النسق يقول في كل حديث روى فلان هذا الحديث عندكم كذا، فأما من رواية فلان يعني التي يسوقها فليست عندكم.
وقال حمدويه بن الخطاب: لما قدم البخاري قدمته الأخيرة من العراق، وتلقاه من تلقاه من الناس وازدحموا عليه، وبالغوا في بره، قيل له في ذلك: فقال كيف لو رأيتم يوم دخولنا البصرة كأنه يشير إلى قصة دخوله التي ذكرها يوسف بن موسى.
وساق بسنده عن أبي حسان مهيب بن سليم: سمعت محمد بن إسماعيل البخاري يقول: اعتللت بنيسابور علة خفيفة، وذلك في شهر رمضان، فعادني إسحاق بن راهويه في نفر من أصحابه فقال لي: أفطرت يا أبا عبد الله؟ فقلت: نعم. فقال يعني تعجلت في قبول الرخصة! فقلت: أخبرنا عبدان عن بن المبارك عن بن جريج قال قلت لعطاء: من أي المرض أفطر؟ قال: من أي مرض كان، كما قال الله عز وجل:"فمن كان منكم مريضا" قال البخاري: لم يكن هذا عند إسحاق.
وقال محمد بن أبي حاتم الوراق: سمعت محمد بن إسماعيل يقول: لو نشر بعض أستاري هؤلاء لم يفهموا كيف صنفت البخاري ولا عرفوه، ثم قال: صنفته ثلاث مرات.
وقال أحيد بن أبي جعفر وإلي بخارى: قال لي محمد بن إسماعيل يوما: رب حديث سمعته بالبصرة كتبته بالشام ورب حديث سمعته بالشام كتبته بمصر، فقلت له: يا أبا عبد الله بتمامه، فسكت.
وقال سليم بن مجاهد: قال لي محمد بن إسماعيل: لا أجيء بحديث عن الصحابة والتابعين إلا عرفت مولد أكثرهم ووفاتهم، ومساكنهم، ولست أروي حديثا من حديث الصحابة والتابعين يعني من الموقوفات إلا وله أصل أحفظ ذلك عن كتاب الله وسنة رسوله.
وقال علي بن الحسين بن عاصم البيكندي: قدم علينا محمد بن إسماعيل فقال له رجل من أصحابنا: سمعت إسحاق بن راهويه يقول: كأني أنظر إلى سبعين ألف حديث من كتابي، فقال له محمد بن إسماعيل: أو تعجب من هذا القول؟ لعل في هذا الزمان من ينظر إلى مائتي ألف ألف من كتابه، وإنما عني نفسه.
وقال محمد بن حمدويه: سمعت البخاري يقول: أحفظ مائة ألف حديث صحيح وأحفظ مائتي ألف حديث غير صحيح.
قال وراقه: سمعته يقول: ما نمت البارحة حتى عددت كم أدخلت في تصانيفي من الحديث، فإذا نحو مائتي ألف حديث.
وقال أيضا: لو قيل لي: تمن لما قمت حتى أروي عشرة آلاف حديث في الصلاة خاصة.
وقال أيضا: قلت له: تحفظ جميع ما أدخلت في مصنفاتك؟ فقال: لا يخفي علي جميع ما فيها، وصنفت جميع كتبي ثلاث مرات.
قال: وبلغني أنه شرب البلاذر، فقلت له مرة في خلوة: هل من دواء للحفظ؟ فقال: لا أعلم، ثم أقبل علي فقال: لا أعلم شيئا أنفع للحفظ من نهمة الرجل، ومداومة النظر.
قال: وأنا أرجو أن يبارك الله تعالى للمسلمين في هذه المصنفات.
وقال البخاري: تذكرت يوما أصحاب أنس، فحضرني في ساعة ثلاثمائة نفس، وما قدمت على شيخ إلا كان انتفاعه بي أكثر من انتفاعي به.
وقال وراقه: عمل كتابا في الهبة، فيه نحو خمسمائة حديث، وقال ليس في كتاب وكيع في الهبة إلا حديثان مسندان أو ثلاثة، وفي كتاب بن المبارك خمسة أو نحوها.
وقال أيضا: ما جلست للتحديث حتى عرفت الصحيح من السقيم، وحتى نظرت في كتب أهل الرأي، وما تركت بالبصرة حديثا إلا كتبته.
قال: وسمعته يقول: لا أعلم شيئا يُحتاج إليه إلا وهو في الكتاب والسنة، قال: فقلت له: يمكن معرفة ذلك؟ قال: نعم.
وقال أحمد بن حمدون الحافظ: رأيت البخاري في جنازة، ومحمد بن يحيى الذهلي يسأله عن الأسماء والعلل، والبخاري يمر فيه مثل السهم، كأنه يقرأ قل هو الله أحد.
وساق صاحب هدي الساري بسنده عن أبي حامد الأعمش الحافظ قال: كنا يوما عند محمد بن إسماعيل البخاري بنيسابور، فجاء مسلم بن الحجاج فسأله عن حديث عبيد الله بن عمر عن أبي الزبير عن جابر قال بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في سرية ومعنا أبو عبيدة الحديث بطوله، فقال البخاري: حدثنا بن أبي أويس حدثني أخي عن سليمان بن بلال عن عبيد الله فذكر الحديث بتمامه، قال: فقرأ عليه إنسان حديث حجاج بن محمد عن بن جريج عن موسى بن عقبة عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "كفارة المجلس إذا قام العبد أن يقول سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك" فقال له مسلم: في الدنيا أحسن من هذا الحديث ابن جريج عن موسى بن عقبة عن سهيل بن أبي صالح تعرف بهذا الإسناد في الدنيا حديثا فقال محمد بن إسماعيل: إلا أنه معلول، فقال مسلم: لا إله إلا الله، وارتعد، أخبرني به، فقال أستر ما ستر الله، هذا حديث جليل رواه الناس عن حجاج بن محمد عن بن جريج، فألحّ عليه، وقبَّل رأسه، وكاد أن يبكي، فقال: اكتب إن كان ولا بد؛ حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا وهيب حدثنا موسى بن عقبة عن عون بن عبد الله قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كفارة المجلس، فقال له مسلم: لا يبغضك إلا حاسد، وأشهد أنه ليس في الدنيا مثلك.
وقال محمد ابن أبي حاتم: سمعته يقول: صنفت كتاب "الاعتصام" في ليلةٍ.

ذكر فضائل الجامع الصحيح وسبب تأليفه سوى ما تقدم في الفصول الأولى وغيرها: قال أبو عبد الله محمد بن إسماعيل: كنت عند إسحاق بن راهويه فقال لنا بعض أصحابنا: لو جمعتم كتابا مختصرا لسنن النبي صلى الله عليه وسلم! فوقع ذلك في قلبي، فأخذت في جمع هذا الكتاب –يعني كتاب الجامع- .
قال محمد ابن إسماعيل: أخرجت هذا الكتاب -يعني الصحيح- من زهاء ستمائة ألف حديث.
قال أبو الهيثم الكشميهني سمعت الفربري يقول سمعت محمد بن إسماعيل البخاري يقول: ما وضعت في كتاب الصحيح حديثا إلا اغتسلت قبل ذلك وصليت ركعتين.
وعن البخاري قال: صنفت الجامع من ستمائة ألف حديث، في ست عشرة سنة، وجعلته حجة فيما بيني وبين الله.
وقال أبو سعيد الإدريسي: أخبرنا سليمان بن داود الهروي سمعت عبد الله بن محمد بن هاشم يقول: قال عمر بن محمد بن بجير البجيري سمعت محمد بن إسماعيل: يقول صنفت كتابي الجامع في المسجد الحرام، وما أدخلت فيه حديثا حتى استخرت الله تعالى وصليت ركعتين وتيقنت صحته.
قلت: الجمع بين هذا وبين ما تقدم أنه كان يصنفه في البلاد؛ أنه ابتدأ تصنيفه وترتيبه وأبوابه في المسجد الحرام، ثم كان يخرج الأحاديث بعد ذلك في بلده وغيرها، ويدل عليه قوله إنه أقام فيه ست عشرة سنة، فإنه لم يجاور بمكة هذه المدة كلها، وقد روى بن عدي عن جماعة من المشايخ أن البخاري حول تراجم جامعه بين قبر النبي صلى الله عليه وسلم ومنبره، وكان يصلي لكل ترجمة ركعتين.
قلت: ولا ينافي هذا أيضا ما تقدم؛ لأنه يحمل على أنه في الأول كتبه في المسودة، وهنا حوله من المسودة إلى المبيضة.
وقال الفربري: سمعت محمد بن حاتم وراق البخاري يقول: رأيت البخاري في المنام خلف النبي صلى الله عليه وسلم والنبي صلى الله عليه وسلم يمشي فكلما رفع النبي صلى الله عليه وسلم قدمه وضع أبو عبد الله قدمه في ذلك الموضع.
وقال الخطيب: أنبأنا أبو سعد الماليني، أخبرنا أبو أحمد بن عدي، سمعت الفربري يقول: سمعت نجم بن فضيل وكان من أهل الفهم يقول: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في المنام خرج من قبره، والبخاري يمشي خلفه، فكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذا خطا خطوة يخطو محمد ويضع قدمه على خطوة النبي صلى الله عليه وسلم.
قال الخطيب: وكتب إلى علي بن محمد الجرجاني من أصبهان أنه سمع محمد بن مكي يقول سمعت الفربري يقول: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في النوم فقال لي: أين تريد؟ فقلت: أريد محمد بن إسماعيل، فقال: أقرئه مني السلام.
وقال شيخ الإسلام أبو إسماعيل الهروي: فيما قرأنا على فاطمة وعائشة بنتي محمد بن الهادي أن أحمد بن أبي طالب أخبرهم عن عبد الله بن عمر بن علي أن أبا الوقت أخبرهم عنه سماعا أخبرنا أحمد بن محمد بن إسماعيل الهروي سمعت خالد بن عبد الله المروزي يقول سمعت أبا سهل محمد بن أحمد المروزي يقول سمعت أبا زيد المروزي يقول: كنت نائما بين الركن والمقام فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم في المنام، فقال لي: يا أبا زيد إلى متى تدرس كتاب الشافعي ولا تدرس كتابي؟ فقلت: يا رسول الله وما كتابك؟ قال جامع محمد بن إسماعيل.
وقال الخطيب: حدثني محمد بن علي الصوري، حدثنا عبد الغني بن سعيد، حدثنا أبو الفضل جعفر بن الفضل أخبرنا محمد بن موسى بن يعقوب بن المأمون قال: سئل أبو عبد الرحمن النسائي عن العلاء وسهيل فقال: هما خير من فليح، ومع هذا فما في هذه الكتب كلها أجود من كتاب محمد بن إسماعيل.
وقال أبو جعفر العقيلي: لما صنف البخاري كتاب الصحيح عرضه على بن المديني وأحمد بن حنبل ويحيى بن معين وغيرهم فاستحسنوه، وشهدوا له بالصحة، إلا أربعة أحاديث، قال العقيلي: والقول فيها قول البخاري، وهي صحيحة.
وقال الحاكم أبو أحمد: رحم الله محمد بن إسماعيل الإمام، فإنه الذي ألف الأصول، وبين للناس، وكل من عمل بعده فإنما أخذه من كتابه، كمسلم فرق أكثر كتابه، وتجلد فيه حق الجلادة، حيث لم ينسبه إليه.
وقال أبو الحسن الدار قطني الحافظ: لولا البخاري لما راح مسلم ولا جاء.
وقال أيضا: إنما أخذ مسلم كتاب البخاري فعمل فيه مستخرجا وزاد فيه أحاديث.

ذكر ما وقع بينه وبين الذهلي في مسألة اللفظ وما حصل له من المحنة بسبب ذلك وبراءته مما نسب إليه من ذلك: قال الحاكم أبو عبد الله في تاريخه: قدم البخاري نيسابور سنة خمسين ومائتين، فأقام بها مدة يحدث على الدوام، قال: فسمعت محمد بن حامد البزار يقول: سمعت الحسن بن محمد بن جابر يقول: سمعت محمد بن يحيى الذهلي يقول: اذهبوا إلى هذا الرجل الصالح العالم فاسمعوا منه، قال: فذهب الناس إليه فأقبلوا على السماع منه حتى ظهر الخلل في مجلس محمد بن يحيى، قال فتكلم فيه بعد ذلك.
وقال حاتم بن أحمد بن محمود: سمعت مسلم بن الحجاج يقول: لما قدم محمد بن إسماعيل نيسابور ما رأيت واليا ولا عالما فعل به أهل نيسابور ما فعلوا به؛ استقبلوه من مرحلتين من البلد أو ثلاث، وقال محمد بن يحيى الذهلي في مجلسه: من أراد أن يستقبل محمد بن إسماعيل غدا فليستقبله فإني أستقبله، فاستقبله محمد بن يحيى وعامة علماء نيسابور، فدخل البلد، فنزل دار البخاريين، فقال لنا محمد بن يحيى: لا تسألوه عن شيء من الكلام فإنه إن أجاب بخلاف ما نحن عليه وقع بيننا وبينه، وشمت بنا كل ناصبي ورافضي ومرجىء بخراسان، قال: فازدحم الناس على محمد بن إسماعيل حتى امتلأت الدار والسطوح، فلما كان اليوم الثاني أو الثالث من يوم قدومه، قام إليه رجل فسأله عن اللفظ بالقرآن، فقال: أفعالنا مخلوقة، وألفاظنا من أفعالنا، قال: فوقع بين الناس اختلاف؛ فقال بعضهم: قال: لفظي بالقرآن مخلوق، وقال بعضهم: لم يقل. فوقع بينهم في ذلك اختلاف، حتى قام بعضهم إلى بعض، قال: فاجتمع أهل الدار فأخرجوهم.
وقال أبو أحمد بن عدي ذكر لي جماعة من المشايخ أن محمد بن إسماعيل لما ورد نيسابور واجتمع الناس عنده حسده بعض شيوخ الوقت، فقال لأصحاب الحديث أن محمد بن إسماعيل يقول لفظي بالقرآن مخلوق، فلما حضر المجلس قام إليه رجل فقال: يا أبا عبد الله ما تقول في اللفظ بالقرآن مخلوق هو أو غير مخلوق؟ فأعرض عنه البخاري، ولم يجبه، ثلاثا، فألحّ عليه، فقال البخاري: القرآن كلام الله غير مخلوق، وأفعال العباد مخلوقة، والامتحان بدعة، فشغب الرجل وقال: قد قال: لفظي بالقرآن مخلوق.
وقال الحاكم: حدثنا أبو بكر أبي الهيثم حدثنا الفربري قال سمعت محمد بن إسماعيل يقول إن أفعال العباد مخلوقة، فقد حدثنا علي بن عبد الله حدثنا مروان بن معاوية حدثنا أبو مالك عن ربعي بن حراش عن حذيفة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "أن الله يصنع كل صانع وصنعته" قال البخاري: وسمعت عبيد الله بن سعيد ـ يعني أبا قدامة السرخسي ـ يقول: ما زلت أسمع أصحابنا يقولون إن أفعال العباد مخلوقة قال محمد بن إسماعيل : حركاتهم وأصواتهم وأكسابهم وكتابتهم مخلوقة، فأما القرآن المبين المثبت في المصاحف، الموعى في القلوب، فهو كلام الله غير مخلوق؛ قال الله تعالى: "بل هو آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم" قال: وقال إسحاق بن راهويه: أما الأوعية فمن يشك أنها مخلوقة، وقال أبو حامد بن الشرقي: سمعت محمد بن يحيى الذهلي يقول: القرآن كلام الله غير مخلوق، ومن زعم لفظي بالقرآن مخلوق فهو مبتدع، ولا يجالس، ولا يكلم، ومن ذهب بعد هذا إلى محمد بن إسماعيل فاتهموه، فإنه لا يحضر مجلسه إلا من كان على مذهبه.
وقال الحاكم: ولما وقع بين البخاري وبين الذهلي في مسألة اللفظ انقطع الناس عن البخاري إلا مسلم بن الحجاج وأحمد بن سلمة. قال الذهلي: ألا من قال باللفظ فلا يحل له أن يحضر مجلسنا، فأخذ مسلم رداءه فوق عمامته وقام على رؤوس الناس فبعث إلى الذهلي جميع ما كان كتبه عنه على ظهر جمال.
قلت: وقد أنصف مسلم فلم يحدث في كتابه عن هذا ولا عن هذا.
وقال الحاكم أبو عبد الله: سمعت محمد بن صالح بن هانئ يقول: سمعت أحمد بن سلمة النيسابوري يقول: دخلت على البخاري فقلت: يا أبا عبد الله! إن هذا رجل مقبول بخراسان، خصوصا في هذه المدينة، وقد لج في هذا الأمر حتى لا يقدر أحد منا أن يكلمه فيه، فما ترى؟ قال: فقبض على لحيته ثم قال: وأفوض أمري إلى الله إن الله بصير بالعباد، اللهم إنك تعلم أني لم أرد المقام بنيسابور أشرا ولا بطرا ولا طلبا للرياسة، وإنما أبت علي نفسي الرجوع إلى الوطن لغلبة المخالفين، وقد قصدني هذا الرجل حسدا لما آتاني الله لا غير، ثم قال لي: يا أحمد أني خارج غدا لتخلصوا من حديثه لأجلي.
وقال الحاكم أيضا عن الحافظ أبي عبد الله بن الأخرم قال: لما قام مسلم بن الحجاج وأحمد بن سلمة من مجلس محمد بن يحيى بسبب البخاري قال الذهلي: لا يساكنني هذا الرجل في البلد، فخشي البخاري وسافر.
وقال غنجار في تاريخ بخارى: حدثنا خلف بن محمد قال: سمعت أبا عمرو أحمد بن نصر النيسابوري الخفاف بنيسابور يقول: كنا يوما عند أبي إسحاق القرشي ومعنا محمد بن نصر المروزي، فجرى ذكر محمد بن إسماعيل فقال محمد بن نصر: سمعته يقول: من زعم أني قلت لفظي بالقرآن مخلوق فهو كذاب فإني لم أقله، فقلت له: يا أبا عبد الله قد خاض الناس في هذا فأكثروا، فقال: ليس إلا ما أقول لك،.
قال أبو عمرو: فأتيت البخاري فذاكرته بشيء من الحديث حتى طابت نفسه، فقلت: يا أبا عبد الله ههنا من يحكي عنك إنك تقول لفظي بالقرآن مخلوق، فقال: يا أبا عمرو احفظ عنى؛ من زعم من أهل نيسابور وسمى غيرها من البلدان بلادا كثيرة أننى قلت لفظى بالقرآن مخلوق فهو كذاب، فإني لم أقله، إلا أني قلت أفعال العباد مخلوقة.
وقال الحاكم: سمعت أبا الوليد حسان بن محمد الفقيه يقول: سمعت محمد بن نعيم يقول: سألت محمد بن إسماعيل لما وقع في شأنه ما وقع عن الإيمان، فقال: قول وعمل ويزيد وينقص والقرآن كلام الله غير مخلوق، وأفضل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي على هذا حييت وعليه أموت وعليه أبعث إن شاء الله تعالى.

ذكر محنته مع أمير بخارى: قال غنجار في ( تاريخه ) : ... سمعت بكر بن منير بن خليد بن عسكر يقول: بعث الأمير خالد بن أحمد الذهلي والي بخارى إلى محمد بن إسماعيل أن احمل إلي كتاب (الجامع ) و ( التاريخ ) وغيرهما لأسمع منكم، فقال لرسوله: أنا لا أذل العلم، ولا أحمله إلى أبواب الناس، فإن كانت لك إلى شيء منه حاجة، فاحضر في مسجدي، أو في داري. وإن لم يعجبك هذا فإنك سلطان، فامنعني من المجلس، ليكون لي عذر عند الله يوم القيامة، لأني لا أكتم العلم، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من سئل عن علم فكتمه ألجم بلجام من نار) فكان سبب الوحشة بينهما هذا.
سمعت أبا بكر بن أبي عمرو الحافظ البخاري يقول: كان سبب منافرة أبي عبد الله أن خالد بن أحمد الذهلي الأمير خليفة الطاهرية ببخارى سأل أن يحضر منزله، فيقرأ (الجامع) و ( التاريخ) على أولاده، فامتنع عن الحضور عنده، فراسله بأن يعقد مجلسا لأولاده لا يحضره غيرهم فامتنع، وقال: لا أخص أحدا. فاستعان الأمير بحريث بن أبي الورقاء وغيره، حتى تكلموا في مذهبه، ونفاه عن البلد، ودعى عليهم، فلم يأت إلا شهر حتى ورد أمر الطاهرية ، بأن ينادى على خالد في البلد، فنودي عليه على أتان. وأما حريث، فإنه ابتلي بأهله، فرأى فيها ما يجل عن الوصف. وأما فلان، فابتلي بأولاده، وأراه الله فيهم البلايا.
حدثنا سهل بن شاذويه قال: كان محمد بن إسماعيل يسكن سكة الدهقان، وكان جماعة يختلفون إليه، يظهرون شعار أهل الحديث من إفراد الإقامة، ورفع الأيدي في الصلاة وغير ذلك. فقال حريث بن أبي الورقاء وغيره: هذا رجل مشغب، وهو يفسد علينا هذه المدينة، وقد أخرجه محمد بن يحيى من نيسابور، وهو إمام أهل الحديث، فاحتجوا عليه بابن يحيى، واستعانوا عليه بالسلطان في نفيه من البلد، فأخرج، وكان محمد بن إسماعيل ورعا، يتجنب السلطان ولا يدخل عليهم.
قال الحاكم: سمعت أحمد بن محمد بن واصل البيكندي، سمعت أبي يقول: من الله علينا بخروج أبي عبدالله ومقامه عندنا، حتى سمعنا منه هذه الكتب، وإلا من كان يصل إليه وبمقامه في هذه التواح: فربر وبيكند، بقيت هذه الآثار فيها، وتخرج الناس به.
قلت: خالد بن أحمد الأمير، قال الحاكم: له ببخارى آثار محمودة كلها، إلا موجدته على البخاري، فإنها زلة، وسبب لزوال ملكه.

وفاته: نزل عند أقارب له بها ( بلدة خرتنك على فرسخين من سمرقند) وجعل يدعو الله أن يقبضه إليه حين رأى الفتن في الدين، ولما جاء في الحديث (وإذا أردت بقوم فتنة فتوفنا إليك غير مفتونين)، ثم اتفق مرضه على إثر ذلك فكانت وفاته ليلة عيد الفطر وكان ليلة السبت عند صلاة العشاء وصلي عليه يوم العيد بعد الظهر من هذه السنة أعنى سنة ست وخمسين ومائتين وكفن في ثلاثة أثواب بيض ليس فيها قميص ولا عمامة وفق ما أوصى به، وحين ما دفن فاحت من قبره رائحة غالية أطيب من ريح المسك ثم دام ذلك أياما ثم جعلت ترى سواري بيض بحذاء قبره وكان عمره يوم مات ثنتين وستين سنة وقد ترك رحمه الله بعده علما نافعا لجميع المسلمين فعلمه لم ينقطع بل هو موصول بما أسداه من الصالحات في الحياة وقد قال رسول الله صلى لله عليه وسلم (إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث علم ينتفع به) الحديث رواه مسلم .

ذكر تصانيفه والرواة عنه: تقدم ذكر الجامع الصحيح، وذكر الفربري أنه سمعه منه تسعون ألفا، وأنه لم يبق من يرويه غيره، وأطلق ذلك بناء على ما في علمه، وقد تأخر بعده بتسع سنين أبو طلحة منصور بن محمد بن علي بن قريبة البزدوي، وكانت وفاته سنة تسع وعشرين وثلمائة، ذكر ذلك من كونه روى الجامع الصحيح عن البخاري أبو نصر بن ماكولا وغيره.
ومن رواة الجامع أيضا ممن اتصلت لنا روايته بالإجازة إبراهيم بن معقل النسفي، وفاته منه قطعة من آخره رواها بالإجازة، وكذلك حماد بن شاكر النسوي، والرواية التي اتصلت بالسماع في هذه الأعصار وما قبلها هي رواية محمد بن يوسف بن مطر بن صالح بن بشر الفربري.
وشرطه في صحيحه هذا أعز من شرط كل كتاب صنف في الصحيح لا يوازيه فيه غيره لا صحيح مسلم ولا غيره وما أحسن ما قال بعض الفصحاء من الشعراء
صحيح البخاري لو أنصفوه لما خط إلا بماء الذهب
هو الفرق بين الهدى والعمى هو السد بين الفتى والعطب
أسانيد مثل نجوم السماء أمام متون لها كالشهب
بها قام ميزان دين الرسول ودان به العجم بعد العرب
حجاب من النار لا شك فيه يمز بين الرضى والغضب
وستر رقيق إلى المصطفى ونص مبين لكشف الريب
فيا عالما أجمع العالمو ن على فضل رتبته في الرتب
سبق الأئمة فيما جمعت وفزت على زعمهم بالقصب
نفيت الضعف من الناقل ين ومن كان منهما بالكذب
وأبرزت في حسن ترتيبه وتبويبه عجبا للعجب
فأعطاك مولاك ما تشتهيه وأجزل حظك فيما وهب


ومن تصانيفه أيضا: الأدب المفرد، يرويه عنه أحمد بن محمد بن الجليل بالجيم البزار ورفع اليدين في الصلاة
والقراءة خلف الإمام يرويهما عنه محمود بن إسحاق الخزاعي وهو آخر من حدث عنه ببخارى.
وبر الوالدين يرويه عنه محمد بن دلويه الوراق
التاريخ الكبير يرويه عنه أبو أحمد محمد بن سليمان بن فارس وأبو الحسن محمد بن سهل النسوي وغيره
قال البخاري : أخذ إسحاق بن راهويه كتاب التاريخ الذي صنفت فأدخله على عبد الله بن طاهر فقال: أيها الأمير ألا أريك سحرا؟ قال: فنظر فيه عبد الله بن طاهر فتعجب منه، وقال: لست أفهم تصنيفه.
والتاريخ الأوسط يرويه عنه عبد الله بن أحمد بن عبد السلام الخفاف وزنجويه بن محمد اللباد
والتاريخ الصغير يرويه عنه عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن الأشقر
وخلق أفعال العباد يرويه عنه يوسف بن ريحان بن عبد الصمد والفربري أيضا
وكتاب الضعفاء يرويه عنه أبو بشر محمد بن أحمد بن حماد الدولابي وأبو جعفر شيخ بن سعيد وأدم بن موسى الخواري.
وهذه التصانيف موجودة مروية لنا بالسماع أو بالإجازة .
ومن تصانيفه أيضا:
الجامع الكبير ذكره بن طاهر
والمسند الكبير
والتفسير الكبير ذكره الفربري
وكتاب الأشربة ذكره الدار قطني في المؤتلف والمختلف في ترجمة كيسة.
وكتاب الهبة ذكره وراقه كما تقدم
وأسامي الصحابة ذكره أبو القاسم بن منده وأنه يرويه من طريق بن فارس عنه وقد نقل منه أبو القاسم البغوي الكبير في معجم الصحابة له، وكذا بن منده في المعرفة، ونقل أيضا من كتاب الوحدان له، وهو من ليس له إلا حديث وأحد من الصحابة.
وكتاب المبسوط ذكره الخليلي في الإرشاد وأن مهيب بن سليم رواه عنه
وكتاب العلل ذكره أبو القاسم بن منده أيضا وأنه يرويه عن محمد بن عبد الله بن حمدون عن أبي محمد عبد الله بن الشرقي عنه.
وكتاب الكنى ذكره الحاكم أبو أحمد ونقل منه
وكتاب الفوائد ذكره الترمذي في أثناء كتاب المناقب من جامعه.

وممن روى عنه:أ) من مشايخه:
عبد الله بن محمد المسندي
وعبد الله بن منير
وإسحاق بن أحمد السرماري
ومحمد بن خلف بن قتيبة
ونحوهم
ب) ومن أقرانه:
أبو زرعة وأبو حاتم الرازيان
وإبراهيم الحربي
وأبو بكر بن أبي عاصم
وموسى بن هارون الجمال
ومحمد بن عبد الله بن مطين
وإسحاق بن أحمد بن يرك الفارسي
ومحمد بن قتيبة البخاري
وأبو بكر الأعين
ج) ومن الكبار الآخذين عنه من الحفاظ:
صالح بن محمد الملقب جزرة
ومسلم بن الحجاج
وأبو الفضل أحمد بن سلمة
وأبو بكر بن إسحاق بن خزيمة
ومحمد بن نصر المروزي
وأبو عبد الرحمن النسائي وروى أيضا عن رجل عنه
وأبو عيسى الترمذي وتلمذ له وأكثر من الاعتماد عليه
وعمر بن محمد البحيرى
وأبو بكر بن أبي الدنيا
وأبو بكر البزار
وحسين بن محمد القباني
ويعقوب بن يوسف بن الأخرم
وعبد الله بن محمد بن ناجية
وسهل بن شاذويه البخاري
وعبيد الله بن واصل
والقاسم بن زكريا المطرز
وأبو قريش محمد بن جمعه
ومحمد بن محمد بن سليمان الباغندي
وإبراهيم بن موسى الجويري
وعلي بن العباس التابعي
وأبو حامد الأعمشي
وأبو بكر أحمد بن محمد بن صدقة البغدادي
وإسحاق بن داود الصواف
وحاشد بن إسماعيل البخاري
ومحمد بن عبد الله بن الجنيد
ومحمد بن موسى النهرتيري
وجعفر بن محمد النيسابوري
وأبو بكر بن أبي داود
وأبو القاسم البغوي
وأبو محمد بن صاعد
ومحمد بن هارون الخضرمي
والحسين بن إسماعيل المحاملي البغدادي وهو آخر من حدث عنه ببغداد.



توقيع راجية الفردوس الأعلى
راجية الفردوس الأعلى غير متواجد حالياً