عرض مشاركة واحدة
قديم 06-11-06, 05:27 AM   #3
حفصة
~مشارِكة~
Post [Aljame3] أئمة الهدى ( ابن القيّم )

وفاته – رحمه الله –
توفي – رحمه الله – ليلة الخميس الثالث عشر من شهر رجب من عام واحد وخمسين وسبعمائة للهجرة ، عن ستين سنة .
وصُلِّيَ عليه من الغد بعد صلاة الظهر بالجامع الأموي ثم بجامع جرّاح ، وقد ازدحم الناس على تشييع جنازته .
قال ابن كثير : وقد كانت جنازته حافلة – رحمه الله – شهدها القضاة والأعيان والصالحون من الخاصة والعامة ، وتزاحم الناس على حمل نعشه .

الدروس والفوائد :
إنما تُذكر سيرُ هؤلاء الأئمة الأعلام لأخذ الفوائد والعبر والدروس ، ومن تلك الدروس :
1 - ما نحن فيه في هذه السلسلة ، مِن ذِكرٍ لأولئك الأعلام ، وثناء عطرٍ على أولئك الأئمة وكأنهم يعيشون بيننا ، وكأننا نعرفهم معرفة الصديق لصديقه ، وما ذلك إلا لأنهم صدقوا مع الله فصدق الله معهم – فيما نحسب – والناس شهود الله في أرضه كما قال صلى الله عليه وسلم ، فيكون ذلك دافعاً ومرَغِّباً في طلب العلم والاستزادة منه ، فالذِّكر للإنسان عمر ثاني .
قال ابن القيم – رحمه الله – : ومن تأمل أحوال أئمة الإسلام كأئمة الحديث والفقه كيف هم تحت التراب وهم في العالمين كأنهم أحياء بينهم لم يَفْقِدوا منهم إلا صورَهم ، وإلا فذكرُهم وحديثُهم والثناءُ عليهم غير منقطع ، وهذه هي الحياة حقا ، حتى عـُدّ ذلك حياة ثانية ، كما قال المتنبي :
ذكر الفتى عيشه الثاني وحاجته *** ما فاته وفضول العيش أشغال . اهـ .
ولو لم يكن في العلم إلا ما قاله الإمام أحمد : موعدنا يومَ الجنائز ، لكان كافياً في الترغيب فيه ، فهذه جنائز العلماء تشهد بذلك ، والعلم خير من المال كما قال عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه . فالعلم خادم والمال مخدوم ، والعلم حارس والمال محروس .
فكيف وصاحب العلم مذكور في حياته وبعد مماته ، وسعيه مشكور في الدنيا والآخرة .
والأمر كما قيل :
يا رُبَّ حيٍّ رخام القبر مسكِنَه *** وربَّ ميتٍ على أقدامه انتصبا
وقيل :
الناس صنفان : موتى في حياتهمُ *** وآخرون ببطن الأرض أحياء
وقيل أيضا :
قد مات قوم وما ماتت مكارمهم *** وعاش قوم وهم في الناس أموات
ويعني هذا أن من الناس من يعيش في هذه الدنيا وهو – كما يُقال – : تكملة عدد ، ولله في وجودهم حكمة !
كما قيل :
إذا ما مات ذو علم وتقوى *** فقد ثُلِمت من الإسلام ثُلمة
وموتُ الحاكم العدلِ المولّى *** بحكم الشرع منقصةٌ ونقمـة
وموت العابدِ القوّام ليـلاً *** يُناجي ربّه في كل ظلمــة
وموتُ فتىً كثير الجود محلٌ *** فإن بقـاءه خصبٌ ونعمـة
وموتُ الفارس الضرغام هدمٌ *** فكم شهِدتْ له بالنصر عزمة
فحسبُك خمسةٌ يُبكى عليهم *** وباقي الناس تخفيف ورحمة
وباقي الناس همجٌ رعاعٌ *** وفي إيجادِهـم لله حكمــة
والمقصود بهذا كما قال عليُّ بنُ أبي طالب رضي الله عنه : الناسُ ثلاثة : فعالمٌ ربانيّ ، ومتعلّمٌ على سبيل نجاة ، وهمجٌ رَعَاع أتباعَ كلِّ ناعق ، يميلون مع كلّ ريح ، لم يستضيئوا بنور العلم ، ولم يلجأوا إلى ركن وثيق .
وقد ثبت في جامع الترمذي وغيره من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ألا إن لدنيا ملعونةٌ ملعونٌ ما فيها إلا ذكرُ الله وما والاه وعالِمٌ أو متعلم .
والجهل أضرُّ على صاحبه من المرض أو الموت .

وفي الجهل قبل الموتِ موتٌ لأهله *** وأجسامهم قبل القبور قبور
وأرواحهم في وحشة من جسومهم *** وليس لهم حتى النشور نشور

فهذه أصناف الناس فاختر لنفسك من أيِّ الأصناف تريد أن تكون ؟
أتريد أن تكون ممن يُذكر في كل مجلس علم ؟ ويتردد اسمه فوق المنابر ؟ وممن وَرّث علماً يُنتفع به فيجري عليه عمله إلى يوم القيامة ، كما في الحديث .
أو ممن يموت فلا يُدرى عنه ؟ وربما لا يُذكر بخير ولا يُترحّم عليه ؟!
وإن كان القطار فاتَكَ فلا أقل من أن تحرِص على من تحت يدك ، فكم ورّث من أبٍ عالماً أفاد الأمة بعلمه ، وكم ورّثت من أمٍّ مِن عالم كان سبباً في هداية الخلق ؟
فعلى يدِ مَنْ تربّى إمام أهل السنة أحمد بن حنبل ؟
وعلى يد مَنْ تربّى خاتمة الحفاظ ابن حجر ؟
وغيرهم من علماء الإسلام .
واعلم أن من علماء الإسلام من لم يطلب العلم إلا بعد المشيب ، فمنهم من طلب العلم بعد الأربعين ، وإن تعجب فاعجب ممن طلب العلم بعد السبعين ! كما في ترجمة صالح بن كيسان .
ولا تحقرن من المعروف شيئاً ، واعلم أن أفلام الكارتون لا تُخرّج علماء ولا رجال ، فاحرص على أولادك ومن استرعاك الله إياهم .
ألسنا نذكر أولئك الأئمةَ الأخيار الأبرار فنترحّم عليهم ، ونذكرهم بكلِّ خير ؟
بل ربما ذكرنا أولئك الأئمة أكثر من ذكرنا آبائنا وأقاربنا .
في كل يوم وفي كثير من بقاع الأرض وفي كثير من مساجد المسلمين يقرأ الإمام على جماعته من كتابٍ لعالم من العلماء فيُصدّر عبارته وقراءته بقوله : قال المؤلّف – رحمه الله – .
2 - أن العلم هو الملك الحقيقي ، ولذا لما ابتنى معاوية بالأبطَح مجلسا جلس عليه ومعه ابنه قُرَظَة فإذا هو بجماعة على رحال لهم ، وإذا شاب منهم قد رفع عقيرته يتغنى :
من يساجلني يساجل ما جداً *** يملأ الدلو إلى عقد الكُرب
قال : من هذا ؟
قالوا : عبدالله بن جعفر .
قال : خلُّوا لـه الطريق ، ثم إذا هو بجماعة فيهم غلام يتغنى :
بينمـا يذكرنني أبصرنني *** عند قِيد الميل يسعى بي الأغر
قلن تعرفن الفتى ؟ قلن:نعم *** قد عرفناه وهل يخفى القمــر
قال : من هذا ؟
قالوا : عمر بن أبي ربيعة .
قال : خلُّوا لـه الطريق فليذهب .
قال : ثم إذا هو بجماعة وإذا فيهم رجل يُسأل ، فيقال لـه : رميت قبل أن أحلق ؟ وحلقت قبل أن أرمي ؟ في أشياء أشكلت عليهم من مناسك الحج ، فقال : من هذا ؟
قالوا : عبد الله بنُ عمر .
فالتَفَتَ إلى ابنه قُرَظَة وقال : هذا الشرف . هذا والله شرف الدنيا والآخرة .

وبينما كان الرشيد يوماً في مجلِسِ الخلافة سأل يحيى ابنَ أكثم:ما أنبلُ المراتب ؟ قال يحيى : قلت : ما أنت فيه يا أمير المؤمنين . قال : فتعرفُ أجلّ مني ؟ قلت : لا . قال : لكني أعرفه ؛ رجلٌ في حلْقه يقول حدثنا فلان عن فلان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال قلت :يا أمير المؤمنين أهذا خير منك وأنت ابنُ عمِّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ووليُّ عهد المؤمنين ؟ قال : نعم ، ويلَك هذا خير مني ؛ لأن اسمه مقترن باسم رسول الله لا يموت أبدا ، ونحن نموت ونفني والعلماء باقون ما بقي الدهر . رواه الخطيب في شرف أصحاب الحديث .
ولما قَدِم هارون الرشيد الرَّقة انجفل الناس خَلْفَ عبدِ الله بنِ المبارك و تقطعت النعال وارتفعت الغَبَرَة ، فأشرفت أمُّ ولدِ أمير المؤمنين من برجٍ من قصر الخشب ، فلما رأت الناس قالت : ما هذا ؟
قالوا : عالمٌ من أهل خراسان قدم الرَّقة يُقال لـه : عبدُ الله بنُ المبارك ، فقالت : هذا والله الملك ! لا ملك هارون الذي لا يجمع الناس إلا بشرط وأعوان .
رواه الخطيب البغدادي في تاريخ بغداد .
وقال أبو الحسن بن فارس : سمعت الأستاذ ابن العميد يقول : ما كنت أظن أن في الدنيا حلاوةً ألذَّ من الرياسة والوزارة التي أنا فيها حتى شهدت مذاكرة سليمانَ ابنِ أيوب بن أحمد الطبراني وأبي بكر الجِعَابي بحضرتي فكان الطبراني يَغلب بكثرة حفظه ، وكان الجعابي يَغلب الطبراني بفطنته وذكاء أهل بغداد ، حتى ارتفعت أصواتُهما ولا يكاد أحدهما يغلب صاحبَه فقال الجعابي : عندي حديث ليس في الدنيا إلا عندي ، فقال : هاتِه ، فقال : حدثنا أبو خليفة حدثنا سليمان بن أيوب وحدّث بالحديث ، فقال الطبراني : أنا سليمان بن أيوب ومني سمع أبو خليفة ، فاسمع مِنِّي حتى يعلو إسنادك !
فإنك تروي عن أبي خليفة عني ، فخجل الجعابي وغلبه الطبراني .
قال ابن العميد : فودِدتُّ في مكاني أن الوزارة والرياسة ليتها لم تكن لي وكنت الطبراني وفرحت مثل الفرح الذي فَرِح الطبراني لأجل الحديث . رواه الخطيب في تاريخ بغداد .
قال ذلك ابن العميد ، ومن هو ابن العميد ؟
قال عنه الذهبي في السير : الوزير الكبير ، وقال أيضا : كان عجباً في الترسّل والإنشاء والبلاغة ، يُضرب به المثل ، وقيل : بُدئت الكتابة بعبد الحميد وخُتِمت بابن العميد .
3 - كـم مـن الأغنياء والأثرياء والوجهاء في زمن ابن القيم وقبله وبعده ذهبوا وذهبت وجاهاتهم وذهب معها ذكرهم ، وما ذلك إلا دليلٌ صريحٌ على أن العلم خيرٌ من المال كما تقدّم ، قال عليُّ بنُ أبي طالب رضي الله عنه : مات خُزّانُ الأموال وهم أحياء ، والعلماءُ باقون ما بقيَ الدّهر .
وصدق الله : ( فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ ) .
وما دام ذكرُ لعبدٍ بالفضل باقياً *** فذلك حيٌّ وهو في التربِ هالكُ
4 - أن مَنْ أجَـلّه الناس لأجل علمه بقيَ لـه الإجلال وبقيَ لـه التقدير والاحترام ، بخلاف من أجلّه الناس لأجل دنياه أو جاهه ، فإنه إذا ذهب عنه ذلك تركه الناس وهجروه ، ولذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم - كما عند البخاري - : نعم المرضعة ، وبئست الفاطمة .
وكانت العرب تقول : مَنْ وَدّكَ لأمرٍ مَلّكَ عند انقضائه .
وكان يُقال : إذا أكرمك الناسُ لمالٍ أو سلطان فلا يُعجبك ذلك ، فإن زوال الكرامة بزوالهما ، ولكن ليُعجبُك إن أكرموك لعلمٍ أو دِين .
قال الإمام مالك : بلغني أن أبا هريرة رضي الله عنه دُعيَ إلى وليمة فأتَى فحُجِبَ فَرَجَعَ فلبِس غير تلك الثياب فأُدخِل ، فلما وُضِعَ الطعام أدخل كمّه في الطعام ! فعوتب في ذلك، فقال : إن هذه الثياب هي التي أُدخلت فهي تأكل!!
وكانوا بنو عمي يقولون : مرحباً *** فلما رأوني مُعسِراً مات مرحبُ !
5 - ملازمة الشيوخ والأخذ عنهم ومشافهتُهم ، فقد استفاد ابن القيم من شيخه ابن تيمية كثيراً ، ولازمه ملازمة الظلّ كما يُقال ، فتجده يقول كثيراً : قال شيخنا ، سألت شيخي ونحو ذلك ، وانتفاعه بوصاياه أكثر ، فمن ذلك ما حكاه في مفتاح دار السعادة قال : وقال لي شيخ الإسلام - رضى الله عنه - وقد جعلت أورد عليه إيرادا بعد إيراد لا تجعل قلبك للإيرادات والشبهات مثل السِّفِنْجَة ، فيتشرّبها ، فلا ينضح إلا بها ، ولكن اجعله كالزجاجة المصمتة تمرّ الشبهات بظاهرها ، ولا تستقرُّ فيها ، فيراها بصفائه ويدفعُها بصلابته ، وإلا فإذا أَشْرَبْتَ قلبك كلَّ شبهة تمرُّ عليها صار مقَرّاً للشبهات . أو كما قال ، فما أعلم أنى انتفعت بوصية في دفع الشبهات كانتفاعي بذلك .
وقد لازم ابنُ القيم شيخَه ابنَ تيمية ستة عشر عاماً وهو يقرأ عليه فنون العلم .
ولهذا كان يُجلُّ شيخَه ويُثني عليه ، وهذا من الوفاء لمن تعلّم منه الإنسانُ علماً .
ولم يكن تقديره لشيخه وإجلاله لـه لم يكن ذلك ليمنعه من مخالفة شيخه في بعض المسائل التي رأى أن الحق فيها خلاف ما ذهب إليه شيخُه ، فالحق أحقُّ أن يُتّبع .
وهو مع ذلك يقول : والله يشكر لشيخ الإسلام سعيه ويعلي درجته ويجزيه أفضل جزائه ويجمع بيننا وبينه في محل كرامته فلو وجد مريده سعة وفسحة في ترك الاعتراض عليه واعتراض كلامه لما فعل كيف وقد نفعه الله بكلامه وجلس بين يديه مجلس التلميذ من أستاذه وهو أحد من كان على يديه فتحه يقظة ومناما ، وهذا غاية جهد المقل في هذا الموضع فمن كان عنده فضل علم فليجد به أو فليعذر ، ولا يبادر إلى الإنكار فكم بين الهدهد ونبي الله سليمان ، وهو يقول لـه : ( أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ ) وليس شيخ الإسلام أعلم من نبي الله ولا المعترِض .
هكذا يجب أن ينظر طالب العلم إلى نفسه وإلى شيوخه ، وإن خالفهم في مسألة أو رأى .
أو استبان لـه الدليل وما شابه ذلك ، مما قد يخفى على الشيخ ويتّضح للتلميذ ، فإنه يجب أن يَعلم أنه حَفِظ شيئاً وغابت عنه أشياء .
فأوصي نفسي وأوصي إخواني بالحرص على تعلّم العلم النافع ، والتّلقي عن الشيوخ والاستفادة ممن بقيَ فربما احتاجت الأمة إليك كما احتاجت الأمة إلى ابن عبّاس فصار عالمها ومفتيها ، وكان يطلب العلمَ صغيراً ، فقال لرجلٍ من الأنصار : هلم يا فلان فلنطلب العلم ، فإن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أحياء .
قال : عجبا لك يا ابن عباس ! ترى الناس يحتاجون إليك وفي الناس مِن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم مَنْ فيهم ؟
قال : فتركت ذلك وأقبلت أطلب العلم .
6 - أن فقد العلماء مصيبة يجب أن تكون عبرة وذكرى ، فيُسارَع إلى ملازمة الأحياء منهم قبل أن تتخطّفَهم يدُ المنون ، وكم ندِم المفرِّطون ولكن حينما لا ينفعُ النّدم .
7 - أن العلم كنز خفيف الحمل ، يزيد بكثرة الإنفاق منه كما قال أبو إسحاق الألبيري – رحمه الله – وهو يُوصي ابنه أبا بكر :
أبا بكر دعوتُك لو أجبتا *** إلى ما فيه حظّك لو عقلتا
إلى عِلْـمٍ تكون به إماماً *** مُطاعاً إن نهيتَ وإن أمرتا
ويجلو ما بعينيك مِن غِشاها *** ويهديك الطريق إذا ضللتا
وتحملُ منه في ناديكَ تاجاً *** ويكسوك الجمال إذا عريتا
ينالُك نفعُه ما دمتَ حياً *** ويبقى ذكرُه لك إن ذهبتا
هو العضبُ المهنّد ليس ينبو *** تُصيبُ به مقاتِل من أردتا
وكنزٌ لا تخافُ عليه لصّاً *** خفيف احِحملِ يوجدُ حيثُ كنتا
يزيد بكثرة الإنفاق منه *** وينقص إن به كفّاً شددتا
فلو قد ذقتَ من حلواه طعماً *** لآثرتَ التّعلّمَ واجتهدتا
ولم يشغلك عنه هوىً مطاعٌ *** ولا دنيا بزخرفها فُتنتا
إلى أن قال :
ستجني من ثمار العجز جهلاً *** وتصغُرُ في العيون إذا كَبُرتا
وتُفقدُ إن جَهِلْتَ وأنت باقٍ *** وتوجدُ إن علمتَ ولو فُقدتا
8 - أن نحرص على قراءة سير أئمة الإسلام وتتبع طريقتهم والإفادة منهم ، فإنهم كانوا على الهدى المستقيم ، بخلاف من خالفوا نهج سلف الأمة ، وتعلّقوا بمناهج أرضية أو مِنْ وَضع خلف الأمة ، يجعلون لهم قواعد وأصول تخالف أصول أهل الإسلام من صنع بُنيّات أفكارهم ، فكم بُليَت الأمة بأمثال هؤلاء ، الذين وقفوا كما وقف حمارُ الشيخ في العقبة – كما يُقال – فلا هُم بالذين تعلّموا العلم وأخذوا به ، ولا هم بالذين بقوا على عقائد عجائز نيسابور ، فتخبّطوا في دياجير الظلمات ، وقالوا عن أئمة الإسلام : هم رجال ونحن رجال !
وصدق من قال : هم رجال وأنتم ذكور !!
أحدُ أولئك المتعالمين – وهو شابٌ من أبناء هذه البلاد – نُشِرَ لـه مقالات ، فصار يُدعى في المجالس ويتصدّر فيها ، وظنّ نفسه أنه إمام الأئمة ! حتى صار يَنال من أئمة الإسلام ويطعن في إمام أهل السنة أحمد بن حنبل بل ويُثني على شيخ المعتزلة والمبتدعة أحمد بن أبي دؤاد ، ويُعرّض بشيخِ الإسلامِ ابنِ تيمية وابن القيم ، ولم يعلم أنه يقف مع أهل البدع في صفٍّ واحد ، ويرمي الإسلام بقوس أعدائه شاء أم أبى .
وليس النَّيْل من أولئك إلا طعناً في الدِّين مِنْ طَرْفٍ خَفِيّ ، والطّعن في حَمَلَةِ الإسلام طعنٌ في الإسلام .
وكان أبو حنيفة – رحمه الله – يقول : سيرُ الرجال أحبُّ إلينا من كثير من الفقه .
لأن دراسة سير الرجال خصوصاً العلماء والصالحين تُكسب القارئ أخلاقاً حميدة ، بل وتُعرِّفُه على أسلاف أمّتِه وقدرهم وقيمتهم ، وتحثُّه على أن يسلك سبيلَهم ، ويتشبّه بهم فإن التّشبُّه بالكرام فلاح .
ولأن دراسة سير أولئك العظماء تُعرّف القارئ بقدر أولئك ، وكم من السنوات أمضوا في طلب العلم ، وكم أمضوا من الجهود في صدّ كيدِ أعداء الإسلام ، وكم من الأوقات أمضوها في التأليف والتصنيف الذي نفع الله به الأمة .
لقد سرد الإمام الذهبي أكثر من مائتين وخمسين صفحة في ترجمة الإمام أحمد – رحمه الله – ثم يأتي متطاول مثل هذا القزم ليرمي ذلك الإمام الجبل بما يرميه به .
وربما كانت أعمار أولئك الأغمار الذين ينالون من سلف الأمة لا تعادل سنوات الطلب في حياة أولئك الأئمة ، أو عمر تأليف كتاب واحد لأحد أئمة الإسلام .
بل لعل نَعل الإمام أحمد خيرٌ وأنفع للأمة من هؤلاء الصبيان !
وأين هي جهود أولئك الأغمار سوى مقال في صحيفة ، وافتيات على موائد الكبار .
أما علموا أن ابن القيم ثنى ركبتيه ستة عشر عاماً مستفيداً من شيخه حتى وفاته ، وهو مع ذلك يغترف من بحر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله .
9 - أن أولئك الأئمة ما كانوا يرون لأنفسهم حقّاً ، بل كانوا يُزرون بأنفسهم ويهضمونها ويرمونها بالتقصير بخلاف المتأخرين الذين يُلمّعون أنفسهم قبل أن يتعلّموا العلم ، وكم من أولئك الذين يُدعون ( مفكرون إسلاميون ) ليس لديهم سوى ثقافة المَجلاّت ، وبحوث النّشَرات ، وجهل بأبجديات العلوم الشرعية ، وذلك مبلغُهم من العِلْم ، فتجد أحدَهم يخبط خبط عشواء في مسائل يعرفها صغار الطلبة ، وهم يُشار إليهم بالبنان ، ولا يرضى أحدهم أن يدعى باسمه مجرّداً عن الألقاب بل ربما ألّف أحدُهم رسالةً أو كتاباً وخط على الغلاف بخط عريض تأليف الشيخ فلان،أو يكتب تحت اسمه أحد علماء البلد الفلاني!
فحال هؤلاء لا ينتهي من العجب ، بينما نجد ابن القيم – رحمه الله – يقول عن نفسه متضرّعاً مبتهلاً :
بُني أبي بكر كثيرٌ ذنوبـــه *** فليس على من نال من عرضه إثمُ
بُني أبي بكر جهول بنفسه *** جهول بأمر الله أنّـى له العلـمُ
بُني أبي بكر غدا متصدّراً *** يُعلّم علماً وهو ليس له علــمُ
بُني أبي بكر غدا متمنياً *** وِصال المعالي والذنوب له همُّ
بُني أبي بكر يروم تَرقّياً *** إلى جنة المأوى وليس له عزمُ
بُني أبي بكر لقد خاب سعيُه *** لم يكن في الصالحات له سهم

هكذا كانوا يُزرون بأنفسهم ، ويرون أنهم مقصّرون .
وكم يحتاج المتعالم من هؤلاء إلى وصية عمر رضي الله عنه حينما قال : تفقّهوا قبل أن تُسوّدوا .

ذَكَرَ ابن كثير كلمة الإمام أحمد – رحمه الله – : قولوا لأهل البدع : بيننا وبينكم يوم الجنائز ، فقال : وقد صدق الله قول أحمد في هذا فإنه كان إمام السنة في زمانه وعيون مخالفيه أحمد بن أبي داؤد وهو قاضي قضاة الدنيا لم يحتفل أحد بموته ولم يلتفت إليه ولما مات ما شيعه إلا قليل من أعوان السلطان ، وكذلك الحارث بن أسد المحاسبي مع زهده وورعه وتنقيره ومحاسبته نفسه في خطراته وحركاته لم يُصلِّ عليه إلا ثلاثة أو أربعة من الناس وكذلك بشر بن غياث المريسي لم يُصلِّ عليه إلا طائفة يسيرة جدا فلله الأمر من قبل ومن بعد .

قال أبو جعفر الطحاوي كنت عند أحمد بن أبي عمران فمرَّ بنا رجل من بني الدنيا فنظرت إليه وشُغلت به عما كنت فيه من المذاكرة ، فقال لي : كأني بك قد فكرتَ فيما أُعطى هذا الرجل من الدنيا ؟! قلت له : نعم ، قال : هل أدلُّك على خلةٍ ؟!
هل لك أن يُحَوِّلَ اللهُ إليك ما عنده من المال و يُحَوِّلَ إليه ما عندك من العلم فتعيشَ أنت غنيا جاهلا ويعيشَ هو عالما فقيرا ؟
فقلت : ما اختارُ أن يُحَوِّلَ اللهُ ما عندي من العلم إلى ما عنده ، فالعلم غنى بلا مال ، وعزٌ بلا عشيرة ، وسلطانٌ بلا رجال .
وفي ذلك قيل :
العلم كنزٌ وذخرٌ لا نفاد له *** نِعم القرينُ إذا ما صاحبٌ صحِبا
قد يجمع المرءُ مالاً ثم يُحرمُه *** عما قليل فيلقى الذلَّ والحَرَبا
وجامعُ العلم مغبوطٌ به أبداً *** ولا يُحاذر منه الفوتَ والسَّلَبَا
يا جامعَ العلم نِعمَ الذُّخْرِ تجمعُه *** لا تعدلنَّ بـه درا ولا ذهبا

أسأل الله أن يحشرنا في زمرة من أحببنا من أئمة الإسلام وعلمائه العِظام .

كتبه /
عبد الرحمن بن عبد الله السحيم



توقيع حفصة
[CENTER][IMG]http://saaid.net/twage3/025.gif[/IMG][/CENTER]
حفصة غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس