عرض مشاركة واحدة
قديم 22-03-17, 04:50 PM   #10
عبد السلام بن إبراهيم الحصين
المشرف العام
 
تاريخ التسجيل: 08-02-2007
المشاركات: 867
عبد السلام بن إبراهيم الحصين is on a distinguished road
افتراضي

بسم الله الرحمن الرحيم
فقد قرأت ما كتب في هذه الصفحات عن علامات الإخلاص، وأن النقد قد توجه لكثير منها، بسبب أنها غير مطردة، أو أنها تتخلف في بعض الصور.
ولكي يكون الحديث واضحًا وجليًا لا بد من تقرير عدد من القواعد، ينطلق منها بعد ذلك إلى موضوع البحث:
القاعدة الأولى: الإخلاص هو الأساس الذي بني عليه الدين، والمقصود بالإخلاص في معناه الشرعي الأساسي، هو إفراد الله جل وعلا بالعبادة، قال تعالى في سورة البينة: {وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين}، وقال تعالى في آخر سورة الكهف: {فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحًا ولا يشرك بعبادة ربه أحدًا}، وعدم الإشراك هو الإخلاص المذكور في آية سورة البينة.
وقال تعالى في سورة الأعراف: {وادعوه مخلصين له الدين}، وقال في سورة غافر في موطنين منها: {فادعو الله مخلصين له الدين}، {فادعوه مخلصين له الدين}، وقال في سورة يونس والعنكبوت ولقمان عن المشركين في حال الشدة: {دعوا الله مخلصين له الدين}، وأخبر أن الدين الخالص لا يكون إلا له، فقال في سورة الزمر: {ألا له الدين الخالص والذين اتخذوا من دونه أولياء} الآية، فقابل بين الإخلاص له، والشرك الذي يساوي غيره به في عبادته، وأخبر عن نبيه أنه اتصف بصفة الإخلاص، فقال في سورة الزمر: {قل ا لله أعبد مخلصًا له ديني}، وقد أمره بذلك قبل هذه الآية في أول السورة فقال: {إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق فاعبد الله مخلصًا له الدين}، ثم أعاد الأمر بعد ذلك على لسان نبيه، فقال: {قل إني أمرت أن أعبد الله مخلصًا له الدين}، وهذا في مقام العبودية لله، بحيث لا يصرف شيئًا مما يستحقه الله لغيره، ولهذا قال: {فاعبدوا ما شئتم من دونه}.
وهذا الإخلاص هو حقيقة الإيمان الذي ذكره الله جل وعلا في سورة البلد، فقال بعد أن ذكر عددًا من الأعمال الصالحة: {ثم كان من الذين آمنوا}، أي إنما يستحق الرحمة والفوز من عمل هذه الأعمال، وكان مع ذلك مؤمنًا، مخلصًا لله في عبادته، لا يشرك به أحدا.
وبهذا يتضح معنى الإخلاص، وأنه إفراد الله جل وعلا بالعبادة.
القاعدة الثانية: العلامة هي الشيء الدال على أمر معين، وكل علامة حتى تكون دالة لا بد أن تتوافر لها شروط، وتنتفي عنها الموانع، فإذا وجدت العلامة مكتملة الشروط، منتفية الموانع، وجد عندها ما وضعت علامة عليه.
ويقع اللبس عند البعض في صحة العلامة عندما يراها موجودة، ولا يوجد ما هو علامة عليه، فيظن أن الخلل في العلامة نفسها، ولا يتفطن إلى اكتمال الشروط، وانتفاء الموانع.
فمثلا رؤية الهلال علامة على وجوب صيام رمضان، وقد يراه بعض الناس فترد شهادتهم بسبب نقص في أحوالهم، أو لوقوع خلل في شهادتهم، فلا تكون رؤيتهم علامة، مع أنه قد يكون الهلال فعلا قد هل.
وزوال الشمس علامة على الوجوب، وقد تزول والجو غائم ولا نراها، فيمنع مانع من معرفة العلامة، وهذا لا يقدح في العلامة، بسبب تخلفها في وقت من الأوقات لسبب خارج عنها.
وشرب الخمر علامة على إقامة الحد على الشارب، وقد لا يقام الحد عليه بسبب جهله، أو عدم تعمده، أو لخلل في عقله.
وهكذا كل قاعدة أو دليل أو حكم من الأحكام التي يطبقها المكلف على نفسه، أو على غيره، لا بد أن تكتمل شروطه، وتنتفي موانعه، لكي تكون مؤثرة في المحل الذي يراد إنزالها عليه.
القاعدة الثالثة: الدليل هو المرشد إلى المطلوب، فلا ترتبط دلالته بقناعة الآخرين، بل لا بد أن يكون صالحًا للدلالة، ولو لم تحصل الدلالة به لبعض الناس، بسبب خلل في أذهانهم، أو كبر في نفوسهم، أو لسبب من الأسباب.
وبعد ذلك أقول:
أولا: إذا كان الإخلاص بهذه المكانة والمنزلة فيستحيل أن تخفى علاماته على العبد، لكن وقع لبس من جهة بعض الناس في اعتقاده أن كل عمل لا بد أن يكون فيه إخلاص، وأن كل عمل لا يصح حتى يكون خالصًا، وهذا ليس بصحيح، فالعمل الذي لا بد فيه من الإخلاص هو عبادة الله وحده لا شريك له، فكل عمل تتعبد به لله وتتقرب به إليه فهذا يشترط فيه الإخلاص، وما عداه فيمكن أن يصح بلا إخلاص، مثل تعلم العلوم المباحة، والتجارة، وأداء الديون، ونحو ذلك من أعمال وأقوال يفعلها المسلم دون أن يقصد بها التقرب إلى الله جل وعلا.
فإذا قصد التقرب بها إلى الله؛ فهذا هو الإخلاص المطلوب، وهو قصد باطني، يحمل صاحبه على فعل ما يفعله لإرادة الثواب من الله.
وقد كان الصحابة يسألون النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن المجاهد، يقاتل حمية، ويقاتل شجاعة، ويقاتل رياء، أي ذلك في سبيل الله، فقال: ((من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا، فهو في سبيل الله)) رواه البخاري.
فوضع لهم القاعدة التي يعرفون بها الإخلاص، وهو القصد الباعث على العمل، وهذا لا يحتاج إلى مزيد بيان.
ثانيًا: يقع الإشكال عند بعض الناس في الأعمال التي تكون مشتركة، وتظهر آثارها، وأعني كونها مشتركة أن نفعها يكون متعديًا، كالصدقة، والصلة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وحسن الخلق، ونفع الخلق، وتعليم الجاهل، وغيرها من الأعمال الصالحة، فيكون عند بعض الناس ضعف في تحقيق الإخلاص فيها، بسبب ما يشوبها من المدح والثناء، فربما أفسد هذا عليه نيته، أو يدخل في نيته شيء من طلب ذلك، مع كون الباعث على العمل هو إردة وجه الله، ولكن لتعلقه بالناس يزداد في تزيينه وتعديله، حتى يشك في نفسه هل العمل لله، فتكلم أهل السلوك ببيان علامات يرجع إليها أمثال هؤلاء لتصحيح نياتهم، وحديثهم هو اجتهاد مبني على استنباطات من النصوص، وعلى آراء خاصة لبعضهم، وطالب العلم عليه أن يتعلم ذلك كما يتعلم غيره، ولكي يصلح نيته، كلما أحس بانحرافها، وقد تنحرف وهو لا يشعر، وربما يشعر بذلك، ولكن الهوى يعميه ويصمه.
وأما الأعمال التي تكون صرفة في تعلقها لله فهذه لا يمكن أن يشك الواحد منا في نيته وإخلاصه، فالمصلي لله لا يمكن أن يلتبس حاله في نفسه بمن يصلي للناس.
ثالثًا: سأورد ما ذكرته الأخت الفاضلة نقضًا على علامة أن يكون عمله في السر كعمله في العلانية:
"يصعب تصور أن تكون هذه علامة من علامات الإخلاص .ودللت بعدة أمثلة :
المثال الأول :
إذا أنزلنا هذه العلامة على المرأة المسلمة فغالب صلاتها في البيت ، وتارة تأتي بحب وشوق وسكينة وتأني وتدبر وإطالة .. وتارة أو في معظم الحالات غير ذلك . ومثله بقية المسلمين وبقية العبادات .
المثال الثاني :
شخص جلس في حلقة ذكر لأن له حاجة عند أخيه ، واستدلت بالحديث القدسي والشاهد منه : (( .. : يَقُولُ مَلَكٌ مِنْ الْمَلائِكَةِ: فِيهِمْ فُلانٌ لَيْسَ مِنْهُمْ، إِنَّمَا جَاءَ لِحَاجَةٍ. قَالَ: هُمْ الْقَوْمُ لا يَشْقَى بِهِمْ جَلِيسُهُمْ )) .
أي أن عمله ونيته كانت لغير لله ، لذا كيف تكون تلك العلامة من علامات الإخلاص . وقد كان عمله ونيته لغير الله .
فقيل لها : هذا فيه بيان فضل حلق الذكر .
قالت : نعم ، ولكن ((هل كان عمله في السر والعلانية واحد ؟ )) .
فقيل لها : لا .
فقالت : إذن كيف يكون العمل في السر والعلانية واحدا ؟ علامة من علامات الإخلاص ؟ فلم نقدر نجيب على سؤالها .

المثال الثالث :
رجل غالبا ما يصلي في بيته ، فجاءه ضيوف ، وحان وقت الصلاة فنشطت همته أو استحى منهم وصلى معهم في المسجد جماعة . وهناك طبعا فرق بين الحياء والرياء .
والشاهد :لولا ضيوفه لصلى في بيته ".
أقول وبالله التوفيق: المثال الأول يدل على خلل في فهم العلامة، بحيث ظن الناظر أن العمل لا بد أن يكون له علانية، حتى يكون عمل العبد له في السر والعلانية واحدًا، والصحيح أن المقصود بالعلامة أن العامل لو عمل أمام الناس لم يختلف عمله عما هو بينه وبين الله، فهذه المرأة التي صلت في بيتها وخشعت، لو أنها صلت في المسجد، فهل سيقل خشوعها؟ المفترض أنه من باب أولى أن يكون عملها علانية كعملها في السر، إلا أن تخشى من إظهار عملها خوفًا على صحة نيتها.
والوضوء مثلا: الذي يتوضأ في بيته، ولا يراه الناس، بلا شك أنه سيتوضأ أمام الناس ولا فرق.
فكيف يكون هذا المثال نقدًا لهذه العلامة، وهو في الحقيقة تأكيد للعلامة، ودليل على صحتها.
وأما المثال الثاني: فلا علاقة لهذه العلامة به، فلا يصلح أن يكون نقدًا للعلامة؛ لأن هذا الرجل أثيب على عمل لم يرد به وجه الله أصلا، وهذا كرم من الله يجود به بسبب أمر آخر، كما أن الزنا مثلا سبب للعقوبة وقد يعفو الله جلا وعلا، فلكرامة حلق الذكر عند الله جل وعلا أعطى من حضرها بلا قصد كمن حضرها قصدًا، ولكن هذا لا يعني استواء من حضر بقصد صالح، ومن حضر بغير قصد، بل بينهما تفاوت لا يعمله إلا الله، ولكنهم في هذه الميزة، وهي المغفرة أدخل الله جل وعلا معهم من كان حاضرًا بغير نية.
ثم هذا الحاضر قد يكون مجيئه في الأصل لغير قصد، لكن لما حضر واستفاد وأنس بالجلوس، صحت نيته، فربما يقال هذا.
ومهما يكن، فإن مغفرة الذنب له لا تعني عدم صحة العلامة؛ لأن العلامة تفيد أن الإخلاص من صوره أن يكون عمله سواء، ولا تنفي أن يثاب الإنسان على عمل لم يكتمل قصده فيه.
وأما المثال الثالث: فإن العلامة تنطبق عليه تماما، فهذا المصلي في المسجد حياء ممن جاءه، لا يثاب إلا على صلاته التي يصليها في بيته، وأما خروجه، وأجر الجماعة؛ فليس له فيه أجر، إلا أن تكون نيته صالحة، وخالصة.
فمن قال من أهل العلم أن من صلى في المسجد حياء يثاب ثواب من صلى فيه بقصد وجه الله؟
والله أعلم.
عبد السلام بن إبراهيم الحصين غير متواجد حالياً