عرض مشاركة واحدة
قديم 15-05-23, 01:08 AM   #42
أم أبي تراب
نفع الله بك الأمة
Ah11

من آية 226إلى آية 232.
"لِّلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِن نِّسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِن فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ "226. "وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ"227.
وبعد بيان هذه الأحكام في الأيمان العامة، عَقَّبَ- سبحانه- ذلك ببيان حكم اليمين الخاصة .
الإيلاءُ لُغةً: اليَمينُ أو الحَلِفُ، يقالُ: آلَى، أي: حَلَف.ومنه قوله تعالى"وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنكُمْ وَالسَّعَةِ أَن يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ" النور:22.
وَلا يَأْتَلِ : أي: لا يحلف.كان من جملة الخائضين في الإفك " مسطح بن أثاثة " وهو قريب لأبي بكر الصديق رضي الله عنه، وكان مسطح فقيرًا من المهاجرين في سبيل الله، فحلف أبو بكر أن لا ينفق عليه، لقوله الذي قال.فنزلت هذه الآية، ينهاهم عن هذا الحلف المتضمن لقطع النفقة عنه، ويحثه على العفو والصفح، ويعده بمغفرة الله إن غفر له.
الإيلاءُ اصطِلاحًا: الحَلِفُ على الامتِناعِ مِن وَطءِ الزَّوجةِ مُطلَقًا أو أكثَرَ مِن أربعةِ أشهُرٍ.
فقدكان الرجل من أهل الجاهلية يحلف على ألا يمس امرأته السنة والسنتين، والأكثر من ذلك يقصد الإضرار بها فيتركها لا هي زوجة ولا هي مطلقة فأراد المولى -عز وجل- أن يضع حدًّا لهذا العمل الضار فوَقَّته بمدة أربعة أشهر، ليتروى فيها الرجل لعل وعسى يرجع إلى رشده فإن رجع في تلك المدة أو في آخرها بأن حنث في اليمين ووطء زوجته وكفر عن يمينه فيها وإلا طلق.
الإيلاء شرعًا:عرفه حبر هذه الأمة عبد الله بن عباس كما في فتح القدير للشوكاني بقوله: هو الرجل يحلف لامرأته بالله أن لا ينكحها، فتتربص أربعة أشهر، فإن هو نكحها كفرّ عن يمينه، فإن مضت أربعة أشهر قبل أن ينكحها خيره السلطان: إما أن يفيء، وإما أن يعزم فيطلق، كما قال الله سبحانه وتعالى" لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ * وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ "البقرة:226-227. والله أعلم.
تَرَبُّصُ : والتربص التلبث والانتظار والترقب.
فَاءُوا : و فَاءُوا معناه رجعوا. والفيء في اللغة هو رجوع الشيء إلى ما كان عليه من قبل.
فإذا حلف الرجل ألَّا يطأ زوجته، ثم بدا له أن يأتيها قبل مضي الأربعة أشهر، فله ذلك ويُكفِّر عن يمينه؛ روى مسلم عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم"مَن حَلَفَ علَى يَمِينٍ، فَرَأَى غَيْرَها خَيْرًا مِنْها، فَلْيُكَفِّرْ عن يَمِينِهِ، ولْيَفْعَلْ."الراوي : أبو هريرة - المحدث : مسلم - المصدر : صحيح مسلم -الصفحة أو الرقم : 1650 - خلاصة حكم المحدث : صحيح.
فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ : أي فإن فاؤا إلى زوجاتهم وحنثوا في أيمانهم التي حلفوها بالابتعاد عنهن، بأن كفروا عنها وتابوا إلى ربهم فحنثهم مغفور لهم لأنه- سبحانه- غفور لمن تاب من بعد ظلمه وأصلح، رحيم بعباده في كل أوامره وتكاليفه.
والفيئة والرجوع إلى زوجته, أحب إلى الله تعالى, ولهذا قال" فَإِنْ فَاءُوافَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ " يغفر لهم ما حصل منهم من الحلف, بسبب رجوعهم. " رَحِيمٌ " حيث جعل لأيمانهم كفارة وتحلة, ولم يجعلها لازمة لهم غير قابلة للانفكاك, ورحيم بهم أيضًا, حيث فاءوا إلى زوجاتهم, وحنوا عليهن ورحموهن. لأن الحياة الزوجية لا تقوم على البغض والكراهية والهجران، وإنما تقوم على المحبة والمودة والرحمة.
وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ: أي وإن عزموا ألا يعودوا إلى ملامسة المرأة، وثبتوا على ترك القربان حتى مضت المدة،أي: امتنعوا من الفيئة, فكان ذلك دليلًا على رغبتهم عنهن, وعدم إرادتهم لزوجاتهم, وهذا لا يكون إلا عزمًا على الطلاق.
فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ: فإن الله سميع لإيلائهم ، عليم بنياتهم، ويعلم ما في قلوبهم من قصد، لا يخفى عليه شيء جلَّ وعلا فليراقبوه فيما يفعلون،فإن قصد الطلاق عازمًا عليه فليبادرْ به فورًا، ولا يقصد الإضرار بها بتعليقها ، فإن كانوا يريدون بذلك إيذاء النساء ومضارتهنّ فهو يتولى عقابهم، وإن كان لهم عذر شرعي بأن كان الباعث على الإيلاء تربيتهنّ لإقامة حدود الله، والباعث على الطلاق اليأس من إمكان العشرة، فالله يغفر لهم.
تعليق الإيلاء بالمشيئة:
إذا حلف الرجل ألَّا يطأ زوجته مدة أكثر من أربعة أشهر، وقال بعدها مباشرة: إن شاء الله، فإن هذا لا يكون إيلاءً؛ فاليمين المعلقة بالمشيئة لا حنث فيها.للحديث:عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ، قالَ: قالَ سُلَيْمانُ بنُ داوُدَ عليهما السَّلامُ: لَأَطُوفَنَّ اللَّيْلَةَ بمِئَةِ امْرَأَةٍ، تَلِدُ كُلُّ امْرَأَةٍ غُلامًا يُقاتِلُ في سَبيلِ اللَّهِ، فقالَ له المَلَكُ: قُلْ إنْ شاءَ اللَّهُ، فَلَمْ يَقُلْ ونَسِيَ، فأطافَ بهِنَّ، ولَمْ تَلِدْ منهنَّ إلَّا امْرَأَةٌ نِصْفَ إنْسانٍ قالَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: لو قالَ: إنْ شاءَ اللَّهُ لَمْ يَحْنَثْ، وكانَ أرْجَى لِحاجَتِهِ."الراوي : أبو هريرة - المحدث : البخاري - المصدر : صحيح البخاري-الصفحة أو الرقم : 5242 - خلاصة حكم المحدث : صحيح.
لَأَطُوفَنَّ اللَّيْلَةَ ..... أيْ: واللهِ لَأُجامِعَنَّ.
الفرق بين الظهار والإيلاء: الظَّهار هو أن يقول الرجل لزوجته : أنتِ عليّ كَظَهر أمي ، ونحو ذلك مما يُحرِّم الزوجة على زوجها ، وهذا القول سماه الله مُنكرًا من القول وزورًا ، فقال تعالى "الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلاَّ اللاَّئِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ"المجادلة:2 .
ومن قال مثل هذا القول فلا يجوز له أن يَقْرَب أهله إلا بعد أن يُكفِّر كفارة مُغلّظة ، لقوله تعالى "وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (3) فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا ذَلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ"المجادلة: 3/4 .
والإيلاء بِيَدِ صاحبه ، متى ما شاء رَجَع عنه ، فإن رَجَع عنه قبل انتهاء المدّة كَفَّر عن يمينه ، وإن رَجَع بعد انتهاء المدة لم يُكفِّر .
إلا أنه لا يجوز أن يتعدّى الإيلاء أربعة أشهر ، لقوله تعالى "لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ"البقرة: 226.الشيخ عبد الرحمن السحيم.
يتضح من هذه الآية الكريمة أن مدة الإيلاء تكون أكثر من أربعة أشهر، وهذا قول جمهور العلماء، فإن حلف على أربعة أشهر فما دونها لا يكون موليًا؛ الجامع لأحكام القرآن؛ للقرطبي، جـ3، ص:108 -المغني؛ لابن قدامة، جزء11، صفحة: 8.
وبهذه الأحكام السامية يكون الإسلام قد شرع للرجل والمرأة ما ينفعهما ويصون كرامتهما، ويحفظ لهما حريتهما وحسن استمتاعهما بالحياة.
ثم ساقت السورة في خمس آيات أحكام الطلاق، وفصلت أحواله، وبينت مَرَّاتَهُ، وذَكَرَتْ ما ينبغي أن يكون عليه من عدل وتسامح حتى لا يقع ظلم أو جور على أحد الزوجين.
"وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍوَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَن يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِن كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ "228.
قوله تعالى" وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ " معطوف على ما قبله لشدة المناسبة، وللاتحاد في الحكم وهو التربص الذي سبقت الإشارة إليه في قوله "لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ".والتربص: التأني والتريث والانتظار.والمعنى: أن على المطلقات أن تمكث إحداهن بعد طلاق زوجها لها ثلاثة قروء أيينتظرن: ثلاث حيض، أو ثلاثة أطهار على اختلاف العلماء في المراد بذلك ،بدون نكاح – فترة العِدة- ثم لها أن تتزوج بعد ذلك إن شاءت.
والمراد بالمطلقات هنا المدخول بهن من ذوات الحيض غير الحوامل، لأن غيرهن قد بين الله- تعالى- عدتهن في مواضع أخرى.والمتوفى عنها زوجها بيَّنَ اللهُ عدتها بقوله: وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا ."البقرة:234.
ومن لا يحضن ليأس من الحيض، أو لأنهن لم يرين الحيض فقد بين الله- تعالى- عدتهن بقوله" وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ، وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ ..."الطلاق:4.أي: واللائي لم يحضن فعدتهن كذلك ثلاثة أشهر.
وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَن يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ :، ولهذه العدةِ عِدّةُ حِكَمٍ، منها: العلم ببراءة الرحم، إذا تكررت عليها ثلاثة الأقراء، علم أنه ليس في رحمها حمل، فلا يفضي إلى اختلاط الأنساب، ولهذا أوجب تعالى عليهن الإخبار عن " مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ " وحرم عليهن، كتمان ذلك، من حمل أو حيض، لأن كتمان ذلك، يفضي إلى مفاسد كثيرة.
إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ:أي إذا كن صادقات في الإيمان بالله الذي أنزل الحرام والحلال لمصلحة عباده، وباليوم الآخر الذي يجازَى فيه كل عامل على ما عمل، فلا يكتمن ما خلق الله في أرحامهنّ.
وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا :أي إن بعل المرأة أحق بإرجاعها إلى العصمة الأولى في مدة العدة إذا قصد إصلاح ذات البين وحسن المعاشرة،وهذه حكمة أخرى في هذا التربص، وهي: أنه ربما أن زوجها ندم على فراقه لها، فجعلت له هذه المدة، ليتروى بها ويقطع نظره. أما إذا قصد من المراجعة مضارتها ومنعها من التزوج حتى تكون كالمعلقة، فلا هو يعاشرها معاشرة الأزواج بالحسنى، ولا يمكّنها من التزوج بغيره، فهو آثم بينه وبين ربه بهذه المراجعة.
وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ:أي: وللنساء على بعولتهن أي أزواجهن من الحقوق واللوازم مثل الذي عليهن لأزواجهن من الحقوق اللازمة والمستحبة.والمراد بالمماثلة- كما يقول الآلوسي- المماثلة في الوجوب لا في جنس الفعل، فلا يجب عليه إذا غسلت ثيابه أو خبزت له أن يفعل لها مثل ذلك، ولكن يقابله بما يليق بالرجال .تفسير الآلوسي .
ومرجع الحقوق بين الزوجين يرجع إلى المعروف، وهو: العادة الجارية في ذلك البلد وذلك الزمان من مثلها لمثله، ويختلف ذلك باختلاف الأزمنة والأمكنة، والأحوال، والأشخاص والعوائد.
ولقد قام السلف الصالح بأداء هذه الحقوق على أحسن وجه فقد روى عن ابن عباس أنه قال: إنى لأحب أن أتزين لامرأتى كما تتزين لي لأن الله. تعالى- يقول" وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ".أي: أن يحب أن يؤنسها وأن يدخل السرور على قلبها كما أنه يحب أن تفعل له ذلك.
وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ: أي: لهن عليهم مثل الذي لهم عليهن، وللرجال على النساء مزية وزيادة في الحق، بسبب حمايتهم لهن، وقيامهم بشئونهن ونفقتهن وغير ذلك من واجبات وقد نظر الإسلام إلى هذا الأمر نظرة عادلة، فوجد أن الرجل أملك لزمام نفسه، وأقدر على ضبط حسه، فجعل له الرياسة، ولذا قال- سبحانه" الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ بِما فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ وَبِما أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوالِهِمْ..." النساء:34 .هذه هي الدرجة التي جعلها الإسلام للرجل، وهي درجة تجعل له حقوقًا وتجعل عليه واجبات أكثر، فهي موائمة كل المواءمة لصدر الآية، فإذا كان للرجل فضل درجة فعليه فضل واجب . وقوله: وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ:أي غالب في انتقامه ممن عصاه، حكيم في أمره وشرعه وسائر ما يكلف به عباده. فعلى الرجل والمرأة أن يطلبا عزهما فيما شرعه الله فهو الملجأ والمعاذ لكل ذي حق مهضوم، وعليهما كذلك أن يتمسكا بما كلفهما به، لأنه ما كلفهما إلا بما تقتضيه الحكمة، ويؤيده العقل السليم.الوسيط.
"الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَن يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ "229.
كان الطلاق في الجاهلية، واستمر أول الإسلام، يطلق الرجل زوجته عدد بلا نهاية، فكان إذا أراد مضارتها، طلقها، فإذا شارفت انقضاء عدتها، راجعها، ثم طلقها وصنع بها مثل ذلك أبدًا، فيحصل عليها من الضرر ما الله به عليم، فأخبر تعالى أن "الطَّلاقَ " أي: الذي تحصل به الرجعة " مَرَّتَانِ" قال الفخر الرازي: والحكمة في إثبات حق الرجعة: أن الإنسان ما دام يكون مع صاحبه لا يدري أنه هل تشق عليه مفارقته أولا؟ فإذا فارقه فعند ذلك يظهر، فلو جعل الله- تعالى- الطلقة الواحدة مانعة من الرجوع لعظمت المشقة على الإنسان بتقدير أن يظهر المحبة بعد المفارقة، ثم لما كان كمال التجربة لا يحصل بالمرة الواحدة، فلا جرم أثبت- سبحانه- حق المراجعة بعد المفارقة مرتين، وعند ذلك يكون قد جرب الإنسان نفسه في تلك المفارقة مرتين وعرف حال قلبه في ذلك الباب. فإن كان الأصلح إمساكها راجعها وأمسكها بالمعروف، وإن كان الأصلح له تسريحها – أي طلاقها - سرحها على أحسن الوجوه، وهذا التدريج والترتيب يدل على كمال رحمته ورأفته بعباده" .ا.هـ.
ليس لكم بعد المرتين إلا أحد الأمرين، الإمساك بالمعروف أو الطلاق بإحسان ، فلهذا أمر تعالى الزوج، أن يمسك زوجته "بِمَعْرُوفٍ " أي: عشرة حسنة، ويجري مجرى أمثاله مع زوجاتهم، وهذا هو الأرجح، وإلا يسرحها ويفارقها " بِإِحْسَانٍ " ومن الإحسان، أن لا يأخذ على فراقه لها شيئا من مالها، لأنه ظلم، وأخذ للمال في غير مقابلة بشيء، فلهذا قال" وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلا أَنْ يَخَافَا أَلا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ"ولا يجوز لكم أيها المطلقون أن تأخذوا من زوجاتكم في مقابلة الطلاق شيئًا مما أعطيتموهن من صداق أو من غيره من أموال، لأن هذا الأخذ يكون من باب الظلم الذي نهى الله عنه، وليس من باب العدل الذي أمر الله به.ثم استثنى- سبحانه- صورة يجوز فيها الأخذ فقال: إِلَّا أَنْ يَخافا أَلا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ " أي: إنَّه لا يحِلُّ لكم- أيُّها الرِّجال- إذا أردتم طلاق زَوجاتكم أنْ تأخذوا ممَّا أعطيتموهنَّ شيئًا من المهر أو غيره، إلَّا في حالة واحدة وهي أن يَخشَى الزَّوجانِ، أو أولياؤهما كأقاربهما، من عدمِ قِيام كلِّ واحدٍ منهما بما له على الآخَر من حقوق، وذلك كأنْ تُبغِضَ الزوجةُ زوجَها، ولا تَقدِرَ على مُعاشرتِه؛ لسوء خُلُقه، أو لغير ذلك من أسباب، فتَخشى هي أو غيرها من عدم القيام بحقوق زوجها على الوجه المأمورِ به شرعًا، ويخشى الزَّوج أو غيره من عدم القيام بحقوق زوجته؛ بسبب نُفورِها منه، وبُغضها له، أو تَقصيرِها نتيجةَ ذلك في حقوقه- فلها حينئذٍ أن تُخالعه، أي: تطلُب منه فراقَها مُقابلَ عِوَض تُقدِّمه له،والجناح: الإثم من جنح بمعنى مال عن القصد- وسمى الآثم به للميل فيه من الحق إلى الباطل-. يقال جنحت السفينة أى مالت إلى أحد جانبيها. فلا حرجَ ولا إثم عليها في دفْعه، ولا حرجَ ولا إثم عليه في قَبوله وأخْذه. لأنه عِوَض لتحصيل مقصودها من الفُرْقَة، وفي هذا مشروعية الخُلْع، إذا وجدت هذه الحكمة.
أنَّ امْرَأَةَ ثَابِتِ بنِ قَيْسٍ أتَتِ النبيَّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فَقالَتْ: يا رَسولَ اللَّهِ، ثَابِتُ بنُ قَيْسٍ، ما أعْتِبُ عليه في خُلُقٍ ولَا دِينٍ، ولَكِنِّي أكْرَهُ الكُفْرَ في الإسْلَامِ، فَقالَ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: أتَرُدِّينَ عليه حَدِيقَتَهُ؟ قالَتْ: نَعَمْ، قالَ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: اقْبَلِ الحَدِيقَةَ وطَلِّقْهَا تَطْلِيقَةً"الراوي : عبد الله بن عباس -صحيح البخاري.
تَكْرَهُ الكُفرَ في الإسْلامِ. والمَعنى: أنَّها تُبغِضُه لِدَمامَتِه، وَقُبْحِ صُورَتِه، وتَخْشى أنْ يُؤَدِّيَ بها هَذا النُّفورُ الطَّبيعِيُّ مِنهُ إلى كُفرانِ العَشيرِ، والتَّقصيرِ في حَقِّ الزَّوجِ، والإساءةِ إلَيه، وارتِكابِ الأفْعالِ الَّتي تُنافي الإسلامَ مِنَ الشِّقاقِ والخُصومةِ والنُّشوزِ وَنَحوِها ممَّا يُتَوَقَّعُ مِثلُه مِن الشَّابَّةِ الجَميلةِ المُبغِضةِ لِزَوْجِها أنْ تَفعَلَه. فسألها النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم"أتَرُدِّينَ عليه حَديقَتَه؟" والمعنى: إذا كُنتِ تَكْرَهينَهُ، وَتَخشَينَ أنْ يُؤَدِّيَ بَقاؤُكِ في عِصمَتِه إلى أمرٍ مُخالِفٍ لِدينِ الإسلامِ، فَهَل تَفتَدينَ مِنهُ نَفْسَكِ بِمالٍ، فَتَرُدِّينَ عَلَيهِ بُستانَه الَّذي دَفَعَه لَكِ مَهْرًا؟ قالَتْ: نَعِمَ، أفعَلُ ذلك. فَقالَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لزَوْجِها ثابتِ بنِ قَيسٍ رَضِيَ اللهُ عنه"اقْبَلِ الحَديقةَ وَطَلِّقْها تَطْليقةً".
وفي الحَديثِ: تَسميةُ المُعامَلةِ السَّيِّئةِ لِلزَّوجِ كُفرًا؛ لِما فيها مِن الِاستِهانةِ بِالعَلاقةِ الزَّوجِيَّةِ، وَجُحودِ حُقوقِها المَشْروعةِ، وَهَذا يَدخُلُ في كُفرانِ العَشيرِ، وَيُنافي ما يَقتَضيهِ الإسلامُ.
وفيه: مشروعيَّةُ خَلعِ المرأةِ لِزَوجِها. الدرر السنية.
"تِلْكَ " أي ما تقدم من الأحكام الشرعية " حُدُودُ اللَّهِ "وحدود الله هي ما أوجبه- سبحانه للرجل على زوجته.ولها عليه. أي: أحكامه التي شرعها لكم، وأمر بالوقوف معها، " وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ " ومن يتعد هذه الحدود فأولئك هم الظالمون لأنفسهم بتعريضها لسخط الله وعقابه.
"فَإِن طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ حَتَّى تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ فَإِن طَلَّقَهَا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَن يَتَرَاجَعَا إِن ظَنَّا أَن يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ "230.
لَمَّا كانت الرَّجعةُ والخُلع لا يصحَّانِ إلَّا قبل الطَّلقة الثالثة، وأمَّا بعدها فلا يبقى شيءٌ من ذلك، ذكَرَ اللهُ حُكمَ الرَّجعةِ، ثم أتْبعه بحُكم الخُلع، ثم ذكر بعد الكلِّ حُكمَ الطلقة الثالثة؛ لأنَّها كالخاتمة لهذا الأمر.أي: إذا طلَّق الرَّجُل امرأتَه الطلقة الثالثة، فإنَّها تحرُم عليه، وليس في مقدوره إرجاعُها، إلَّا أنَّها لو تزوَّجت بآخر، بعقدِ نكاحٍ صحيح، وجامعها الزوج الثاني وكان هذا الزواج واقعًا عن رغبةٍ حقيقية- قال ابن كثير: والمقصود أن الزوج الثاني يكون راغبًا في المرأة قاصدًا لدوام عشرتها كما هو المشروع من التزويج.ا.هـ، لا بقصد تحليل المرأة إلى زوجها الأوَّل، فلو طلَّقها زوجُها الثاني – بعد ذلك- وانقضَتْ عِدَّتُها، فلا حرجَ حينئذٍ أن يُنشِئَا- الزَّوج الأوَّل والمرأة- عَقْدَ نِكاحٍ جديدًا بينهما، شريطةَ أن يُوقِنا أو يغلب على ظنِّهما أن يتعاشرَا بالمعروف، وأن يقوم كلٌّ منهما بحقوق الآخَر كما ينبغي.موسوعة التفسير بالدرر السنية.
"أنَّ امْرَأَةَ رِفَاعَةَ القُرَظِيِّ جَاءَتْ إلى رَسولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فَقالَتْ: يا رَسولَ اللَّهِ، إنَّ رِفَاعَةَ طَلَّقَنِي فَبَتَّ طَلَاقِي، وإنِّي نَكَحْتُ بَعْدَهُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بنَ الزَّبِيرِ القُرَظِيَّ، وإنَّما معهُ مِثْلُ الهُدْبَةِ، قالَ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: لَعَلَّكِ تُرِيدِينَ أنْ تَرْجِعِي إلى رِفَاعَةَ؟ لَا، حتَّى يَذُوقَ عُسَيْلَتَكِ وتَذُوقِي عُسَيْلَتَهُ."الراوي : عائشة أم المؤمنين - صحيح البخاري
وإنَّما معهُ مِثْلُ الهُدْبَةِ : تعني غير قادر على جماعها لضعفه كذبًا لأنها تريد زوجها الأول.ففي رواية أخري: فَقالَ زَوجُها – الثاني - عَبدُ الرَّحمنِ رضِيَ اللهُ عنه مُدافِعًا عن نَفْسِه"كَذَبَتْ واللهِ يا رَسولَ اللهِ كَذَبَتْ واللَّهِ يا رَسولَ اللَّهِ، ......، ولَكِنَّهَا نَاشِزٌ، تُرِيدُ رِفَاعَةَ..."صحيح البخاري.
والمراد بالعُسَيلة الجماع.
من حكم هذا التشريع الحكيم ردع الأزواج عن الاستخفاف بحقوق زوجاتهم، وزجرهم عن التساهل في إيقاع الطلاق، فإن الرجل الشريف الطبع، العزيز النفس إذا علم أن زوجته لن تحل له بعد الطلقة الثالثة إلا إذا افترشها شخص آخر توقف عن إيقاع الطلاق، وتباعد عن التسرع والاندفاع وحاول أن يصلح ما بينه وبين أهله بالمعالجة الحكيمة التي تتميز بسعة الصدر وضبط النفس.
وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ:أي: وتلك الأحكام المذكورة عن الطلاق وعن غيره مما كلف الله به عباده يبينها ويوضحها بتلك الطرق الحكيمة لقوم يعلمون الحق، ويعملون بمقتضى علمهم.الوسيط.
وفي هذا من فضيلة أهل العلم، ما لا يخفى، لأن الله تعالى جعل تبيينه لحدوده، خاصًا بهم، وأنهم المقصودون بذلك، وفيه أن الله تعالى يحب من عباده، معرفة حدود ما أنزل على رسوله والتفقه بها.تفسير السعدي.
" وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِّتَعْتَدُوا وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلَا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنزَلَ عَلَيْكُم مِّنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُم بِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ "231.
وبعد أن بين- سبحانه- أن الزوج مخير بين الإمساك والتسريح في مدة العدة، عقب ذلك ببيان أن هذا التخيير من حقه حتى آخر وقت في العدة، وذلك لتذكيره بأن الإمساك أفضل من التسريح، وأن عليه ألا يلجأ إلى الطلاق إلا إذا سُدت طرق الإصلاح والمعالجة، وأنه إذا اختار الطلاق فعليه أن يسلك فيه طريق الحق والعدل لا طريق الباطل والجور.
أي: إذا طلَّقتم- أيُّها الرِّجال- نِساءَكم، طلاقًا لكم عليهنَّ فيه رجعةٌ- وذلك في التطليقة الواحدة، والتطليقتين- فقاربْنَ انقضاء عدتهنَّ، وأشرفْنَ على بلوغ أجلهن ، قال القرطبي: معنى فَبَلَغْنَ قاربن بإجماع من العلماء،
أي فشارفت عدتهن على الانتهاء، وقاربت الانقضاء، فعليكم أن تتدبروا مليا في أمركم، فإن رأيتم الأصلح في بقائهن معكم فنفذوا ذلك وأمسكوهن بمعروف. أى بما هو المعروف من شرع الله الحكيم، وبما تقره الأخلاق الحسنة والعقول السليمة. وإن رأيتم أنه لا رغبة لكم في البقاء معهن فسرحوهن بمعروف أى فأمضوا الطلاق، وتفارقوا بالطريقة التي يرضاها الحق- سبحانه- بأن تؤدوا لهن حقوقهن ، من غير مخاصمةٍ، ولا شقاقٍ، ولا إضرار.
ولا تذكروهن بسوء بعد انفصالكم عنهن، فهذا شأن الأتقياء الصالحين فقد سئل بعضهم، لم طلقت امرأتك؟ فقال: إن العاقل لا يذكر ما بينه وبين أهله. وغير ذلك، من غير مخاصمةٍ، ولا شقاقٍ، ولا إضرار.
وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ:أي: لا يكُن إرجاعُكم لنسائكم مع قُرب انقضاء عِدَّتهن لأجْل المضارَّة بهنَّ؛ لئلَّا يتزوَّجْنَ بغيركم، أو لتطوِّلوا عليهنَّ مدَّة العِدَّة، أو لدفعها إلى ابتغاء طلب الخُلع منكم؛ كي تنالوا منهنَّ فدية في سبيل الخَلاص منكم، فكلُّ ذلك تجاوزٌ لما أمر الله تعالى به من إمساكهنَّ بمعروفٍ أو مفارقتهنَّ بإحسان، ومَن يَقُمْ بتلك الاعتداءات، فالضررُ عائدٌ عليه حقًّا، فبذلك يُكسب نفسه آثامًا، ويستحقُّ عقاب الله تعالى
وَلَا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللهِ هُزُوًا: أي: لا تَجعلوا ما أَنزل اللهُ تعالى لكم في كتابه، من تلك الأحكام العِظام، في موضع السُّخرية والاستهزاء واللَّعب بها، بحيث تتركون العمل بها تجرُّؤًا واستخفافًا؛ فالله تعالى لم يُنزلها عبثًا، بل أنزلها بالحقِّ والصِّدق والحكمة؛ لأجْل العمل على وَفْقها.
وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنزَلَ عَلَيْكُم مِّنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُم بِهِ : أي: اذكروا نِعَم الله تعالى التي لا تُعَدُّ ولا تُحصَى عليكم، ومن ذلك نِعمة الإسلام وما يَحويه من أحكامٍ عِظام، فيها ما يدعو الزَّوجين لتجديد الوئام، أو المفارقة الحَسَنة بعد تَعذُّر الالتئام، فاذكروه سبحانه باللِّسان حمدًا وشكرًا، وبالقلب اعترافًا وتفكُّرًا، وبالجوارح سعيًا وعملًا- بطاعته، ومن تلك النِّعم ما أنزله الله تعالى من الوحي إلى نبيِّه محمَّدٍ صلَّى الله عليه وسلَّم، وهذا يَشمل كتابَ الله عزَّ وجلَّ، وسُنَّةَ رسوله عليه الصَّلاة والسلام المشتملة على الحِكمة، - والضمير في بِهِ يعود على الكتاب والحكمة بعد تأويلهما بالمذكور. وجعل ضميرهما واحدًا لأنهما في مؤداهما وغايتهما شيء واحد، فالسنة ليست نابعة إلا من الكتاب ومنه أخذت قوتها وسلطانها-الوسيط. والله تعالى يُذكِّركم بما أنزله، ترغيبًا بما يُليِّن قلوبَكم للخير، وترهيبًا بما يحذِّركم ويزجركم عن الشرِّ.موسوعة التفسير. الدرر السنية.
وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ:أي: اتَّقوا الله عزَّ وجلَّ في جميع أموركم، بفعل أوامره واجتناب نواهيه، فالتزموا بأحكامه، ولا تتجاوزوا حدوده، وليكن معلومًا لديكم علمًا يقينيًّا أنَّ الله تعالى محيطٌ بكل شيء علمًا، لا يخفى عليه شيءٌ مطلقًا، فيعلم ما تأتون وما تذرون، ويُجازيكم على ذلك بحسَبه، إنْ خيرًا فخير، وإنْ شرًّا فشر، ومِن كمال عِلمِه سبحانه أيضًا أنْ شرَع تلك الأحكامَ التي هي في غاية الإحكام، وصالحة في كلِّ زمان ومكان.
"وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَن يَنكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُم بِالْمَعْرُوفِ ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَن كَانَ مِنكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ"232.
هذا خطاب لأولياء المرأة المطلقة دون الثلاث إذا خرجت من العِدة، وأراد زوجها أن ينكحها، ورضيت بذلك، فلا يجوز لوليها، من أب وغيره - ولكل من له تأثير على المرأة المطلقة-; أن يعضلها; أي: يمنعها من التزوج به حنقًا عليه; وغضبًا; واشمئزازًا لمِا فعلَ مِنَ الطلاقِ الأولِ.تفسير الشيخ السعدي.
وورد في تفسير المراغي: إذا طلقتم النساء وانقضت عدّتهن، وأراد أزواجهن أو غيرهم أن ينكحوهن وأردن هنّ ذلك، فلا تمنعوهنَّ من الزواج، إذا رضي كل من الرجل والمرأة بالآخر زوجًا، وكان التراضي في الخطبة بما هو معروف شرعًا وعادة، بألا يكون هناك محرّم ولا شيء يخلّ بالمعروف ويلحق العار بالمرأة وأهلها.ا.هـ.
وورد في تفسير الوسيط: والمعنى: وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن أي: انقضت عدتهن وخلت الموانع من زواجهن، فلا تمنعوهن من الزواج بمن يردن الزواج به، متى حصل التراضي بين الأزواج والزوجات على ما يحسن في الدين، وتقره العقول السليمة، ويجري به العرف الحسن.ا.هـ.
سبب نزول الآية:
عَنِ الحَسَنِ"فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ"البقرة: 232، قَالَ: حدَّثَني مَعْقِلُ بنُ يَسَارٍ أنَّهَا نَزَلَتْ فِيهِ؛ قَالَ: زَوَّجْتُ أُخْتًا لي مِن رَجُلٍ فَطَلَّقَهَا، حتَّى إذَا انْقَضَتْ عِدَّتُهَا جَاءَ يَخْطُبُهَا، فَقُلتُ له: زَوَّجْتُكَ وفَرَشْتُكَ وأَكْرَمْتُكَ، فَطَلَّقْتَهَا، ثُمَّ جِئْتَ تَخْطُبُهَا! لا واللَّهِ لا تَعُودُ إلَيْكَ أبَدًا، وكانَ رَجُلًا لا بَأْسَ به، وكَانَتِ المَرْأَةُ تُرِيدُ أنْ تَرْجِعَ إلَيْهِ، فأنْزَلَ اللَّهُ هذِه الآيَةَ"فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ"البقرة: 232، فَقُلتُ: الآنَ أفْعَلُ يا رَسولَ اللَّهِ، قَالَ: فَزَوَّجَهَا إيَّاهُ."الراوي : معقل بن يسار - صحيح البخاري - الصفحة أو الرقم : 5130 - خلاصة حكم المحدث : صحيح.
شرح الحديث: في هذا الحديثِ يُخبِرُ التَّابعيُّ الحَسَنُ البَصرِيُّ عن سَبَبِ نُزولِ قَولِهِ تَعالى"فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ" الوارِدُ في الآيةِ الكريمةِ.....؛ فذكر أنَّ الصَّحابيَّ مَعْقِلَ بنَ يَسارٍ المُزنيَّ -وكان من أهلِ بَيعةِ الرِّضوانِ رَضِيَ اللهُ عنه- أخبره أنَّها نزلت فيه؛ وذلك أنَّه زوَّج أُختًا له -واسمهُا جُمَيْل بنت يَسارٍ، وقيل: ليلى- مِن رَجُلٍ -اسمُه أبو البَدَّاح بنُ عاصمٍ-، فَطَلَّقَها طلاقًا رجعيًّا، فلَمَّا انتَهَتْ عِدَّتُها، وبانَتْ مِنه، جاءَ يَطلُبُ خِطبَتَها وتزوَّجَها مرةً أخرى، فرفض مَعقِلُ بنُ يَسارٍ رَضِيَ اللهُ عنه أن يُرجِعَها، وقال له مُتعجِّبًا مُستنكِرًا: زَوَّجْتُكَ وفَرَشْتُكَ، يعني: جَعَلْتُ أختي لك فِراشًا، وَأكرَمْتُكَ فَطَلَّقْتَها، ثُمَّ جِئتَ تَخطُبُها! لا وَاللَّهِ لا تَعودُ إلَيكَ أبَدًا.
وَأخبر أنَّ زَوجَها كانَ رَجُلًا لا بَأسَ به، أي: حَسَن السُّمْعةِ، لا عَيبَ في دِينِه أو خُلُقِهِ، وَكانَت أُختُ مَعقِلٍ تَرغَبُ في العَودةِ إلَيهِ؛ لِأنَّها تُحِبُّهُ، فَأنْزَلَ اللَّهُ عزَّ وجلَّ"فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ..."، أي: لا تَمنَعوهُنَّ مِن العَودةِ إلى أزواجِهِنَّ عِندَ انقِضاءِ عِدَّتِهنَّ، إذا رَغِبنَ في ذلك، فقال مَعقِلٌ رَضِيَ اللهُ عنه لرَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: الآنَ أَفْعَلُ يا رَسولَ اللَّهِ، قالَ: فأعادَها إلَيهِ بِعَقْدٍ جَديدٍ.
وفي الحَديثِ: اعتبارُ قَولِ الوَليِّ بالنِّسبةِ للمَرأةِ في الزَّواجِ.
وفيه: النَّهيُ عن مَنعِ المرأةِ مِن أن تتزوَّجَ كُفْأً تُريدُه وترضى به.
وفيه: سُرعةُ استجابةِ الصَّحابةِ لأمرِ اللهِ ورَسولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم.الدرر السنية.
ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَن كَانَ مِنكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ: أي: ذلك القول الحكيم، والتوجيه الكريم المشتمل على أفضل الأحكام وأسماها يوعظ به، ويستجيب له من كان منكم عميق الإيمان بالله- تبارك وتعالى- وبثوابه وبعقابه يوم القيامة.
ذلكم الذي شرعه الله لكم- أيها المؤمنون- من ترك عضل النساء والإضرار بهن وغير ذلك من الأحكام أَزْكى لَكُمْ وَأَطْهَرُ أي أعظم بركة ونفعًا، وأكثر تطهيرًا من دنس الآثام، فإن المرأة إذا عوملت معاملة كريمة، ولم تُظلم في رغباتها المشروعة، التزمت في سلوكها العفاف والخلق الشريف، أما إذا شعرت بالظلم والامتهان فإن هذا الشعور قد يدفعها إلى ارتكاب ما نهى الله عنه.والله تعالى يعلم ما فيه مصلحتكم ومنفعتكم، وأنتم لا تعلمون ذلك، فامتثلوا ما أمركم به واجتنبوا ما نهاكم عنه تفوزوا وتسعدوا.
وأتى- سبحانه - بضمير الجمع ذلِكُمْ بعد أن قال في صدر الجملة ذلِكَ للإشارة إلى أن حماية المرأة من الهوان ومنع التضييق عليها في اختيار زوجها واجب على جميع المؤمنين، وأن فائدة ذلك ستعود عليهم جميعًا ما دام هذا الاختيار في حدود الآداب التي جاء بها الإسلام.
وقوله: وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ : رد على كل معترض على تطبيق شريعة الله، أو متهاون في ذلك بدعوى أنها ليست صالحة للظروف التي يعيش ذلك المعترض أو هذا المتهاون فيها، لأن شرع الله فيه النفع الدائم والمصلحة الحقيقية، والنتائج المرضية، لأنه شرع من يعلم كل شيء ولا يجهل شيئًا، ويعلم ما هو الأنفع والأصلح للناس في كل زمان ومكان، ولم يشرع لهم- سبحانه - إلا ما فيه مصلحتهم ومنفعتهم، وما دام عِلْم اللهِ- تبارك وتعالى- هو الكامل، وعِلم الإنسان عِلم قاصر، فعلينا أن نتبع شرع الله في كل شئوننا، ولْنَقُل لأولئك المعترضين أو المتهاونين: سيروا معنا في طريق الحق فذلكم أَزْكى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ.الوسيط.

التعديل الأخير تم بواسطة أم أبي تراب ; 15-05-23 الساعة 01:18 AM
أم أبي تراب غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس