العودة   ملتقى طالبات العلم > . ~ . أقسام العلوم الشرعية . ~ . > روضة العلوم الشرعية العامة > روضة القرآن وعلومه

الملاحظات


إضافة رد
 
أدوات الموضوع إبحث في الموضوع انواع عرض الموضوع
قديم 01-02-13, 02:34 PM   #1
رقية مبارك بوداني
|تواصي بالحق والصبر|
مسؤولة الأقسـام العامة
افتراضي


5- الشاردون

حالات الانحراف عن التدين حالات تذيب القلب مرارةً، وخصوصاً إذا كان المنحرف صديقاً قريباً عشت معه أيام العلم والإيمان..

وحالات الانحراف بينها تفاوت كبير..

فبعضهم مشكلته (علمية) بسبب رهبة عقول ثقافية كبيرة انهزم أمامها..
وبعضهم مشكلته (سلوكية) بسبب ضعفه أمام لذائذ اللهو والترفيه.. وإن كان الأمر دوماً يكون مركباً من هوى وشبهة لكنه يكون أغلب لأحدهما بحسب الحال، فإما تعتريه شبهة تقوده للتمرغ في الشهوات، وإما تغلبه شهوة فيتطلب لها الشبهات والمخارج والحيل.

وأنا إلى هذه الساعة على كثرة ما تعاملت مع هذه الحالات لا أعرف علاجاً أنفع من (تدبر القرآن) فإن القرآن يجمع نوعي العلاج (الإيماني والعلمي) وهذا لا يكاد يوجد في غير القرآن، فالقرآن له سر عجيب في صناعة الإخبات في النفس البشرية ﴿وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ﴾[الحج : 54] وإذا تهيأ المحل بالإيمان لان لقبول الحق والإذعان له كما قال تعالى ﴿اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ﴾[الزمر : 23].

وفي القرآن من بيان العلم والحق في مثل هذه القضايا المنهجية ما لايوجد في غيره، ومفتاح الهداية مقارنة هدي القرآن بسلوكيات التيارات الفكرية.

أعني أنه إذا رأى متدبر القرآن تفريق القرآن بين المعترف بتقصيره حيث جعله قريباً من العفو ﴿وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ﴾[التوبة : 102] وبين تغطية وتبرير التقصير بحيل التأويل الذي جعله الله سببا للمسخ ﴿وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ﴾[البقرة : 65] .

ومجرد المعصية بالصيد في اليوم المحرم لا تستحق المسخ فقد جرى من بني إسرائيل ما هو أكثر من ذلك ولم يمسخهم الله، ولكن الاحتيال على النص بالتأويل ضاعف شناعتها عند الله جل وعلا.

وإذا رأى متدبر القرآن - أيضاً - تعظيم القرآن لمرجعية الصحابة في فهم الإسلام، وربطه فهم الإسلام بتجربة بشرية، كقوله تعالى: ﴿فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ﴾[البقرة : 137] ، وقوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ﴾[التوبة : 100] ، وقوله تعالى: ﴿صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ﴾ وقوله تعالى: ﴿وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ﴾ [سبأ : 24]، وقوله تعالى: ﴿أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ﴾ [البقرة : 75] ، وقوله تعالى: ﴿وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ﴾ [النساء : 83] ففي مثل هذه الآيات البينات يكشف تعالى أن الوحي ليس نصاً مفتوحاً، بل هو مرتبط بالاهتداء بتجربة بشرية سابقة، فيأمرنا صريحا أن نؤمن كما آمن الصحابة، وأن نتبع الصحابة بإحسان، ويأمرنا بكل وضوح أن نرد الأمر إلى أولي العلم الذين يستنبطونه، وهذا كله يبين أن الإسلام ليس فكرة مجردة مفتوحة الدلالات يذهب الناس في تفسيرها كل مذهب .. ويتاح الفهم لكل شخص كما يميل .. بل هناك (نموذج سابق) حاكم للتفسيرات اللاحقة للنص.

وإذا رأى متدبر القرآن - أيضاً - بيان القرآن لتفاهة الدنيا، وكثرة ما ضرب الله لذلك من الأمثال كنهيه نبيه عن الالتفات إلى الدنيا ﴿وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ﴾[طه : 131]. ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا (28) وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا﴾[الأحزاب : 28 ، 29].
فانظر منزلة الدنيا في معيار القرآن.

وإذا رأى متدبر القرآن - أيضاً - ما في القرآن من بيان الله لحقارة الكافر وانحطاطه حيث جعله القرآن في مرتبة الأنعام والدواب والحمير والكلاب والنجاسة والرجس والجهل واللاعقل والعمى والصمم والبَكم والضلال والحيرة.. وغيره من الأوصاف القرآنية المذهلة التي تملأ قلب قارئ القرآن بأقصى ما يمكن من معاني ومرادفات المهانة والحقارة، كقوله تعالى ﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ﴾ [محمد : 12] وقوله: ﴿إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا﴾ [الفرقان : 44] وقوله: ﴿مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا﴾ [الجمعة : 5] .

وقوله: ﴿فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ﴾ [الأعراف : 176] وقوله: ﴿إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ﴾ [الأنفال : 55] وقوله: ﴿كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ﴾ [الأنعام : 125].

وقوله: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ﴾ [التوبة : 28] وأمثالها كثير.

وإذا رأى متدبر القرآن - أيضاً- ما في القرآن من عناية شديدة بالتحفظ في العلاقة بين الجنسين، كوضع السواتر بين الجنسين كما في قوله ﴿وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ﴾ [الأحزاب : 53] وحثه المؤمنات على الجلوس في البيت ﴿وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ﴾ [الأحزاب : 33] ونهيه عن تلطف المرأة في العبارة ﴿فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ﴾ [الأحزاب : 32] ونهيه عن أي حركة ينبني عليها إحساس الرجل بشئ من زينة المرأة ﴿وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ﴾ [النور : 31]) ونحو ذلك.

وإذا رأى متدبر القرآن - أيضاً - عظمة تصوير القرآن للعبودية كتصويره المؤمنين في ذكرهم لله على كل الأحوال ﴿الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ﴾ [آل عمران : 191] وحينما أراد أن يصف الصحابة بأخص صفاتهم قال ﴿مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا﴾ [الفتح : 29] وكيف وصف الله ليلهم الذي يذهب أغلبه في الصلاة ﴿إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ﴾ [المزمل : 20].

والمراد أنه إذا رأى متدبر القرآن هدي القرآن في هذه القضايا وأمثالها، ثم قارنها بأحوال التيارات الفكرية المعاصرة، ورأى ما في كلام هؤلاء من تأويلات للنصوص لتوافق الذوق الغربي، والإزراء باتباع السلف في فهم الإسلام، وملء القلوب بحب الدنيا، واللهج بتعظيم الكفار، وتهتيك الحواجز بين الجنسين، والارتخاء العبادي الظاهر...الخ. إذا قارن بين القرآن وبين أحوال هؤلاء انفتح له باب معرفة الحق.



</b></i>



توقيع رقية مبارك بوداني

الحمد لله أن رزقتني عمرة هذا العام ،فاللهم ارزقني حجة ، اللهم لا تحرمني فضلك ، وارزقني من حيث لا أحتسب ..


رقية مبارك بوداني غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 01-02-13, 02:36 PM   #2
رقية مبارك بوداني
|تواصي بالحق والصبر|
مسؤولة الأقسـام العامة
افتراضي


6- تطويـل الطـريق

حين أسمع بعض المفكرين الإسلاميين يتكلمون عن ضرورة مقاومة وتفنيد الأفكار الضالة الجديدة عبر دراسات فكرية موسعة؛ فلا أخفي أنني أحترم تماماً حرصهم على سلامة التصورات الإسلامية من الاجتياح العلماني المعاصر ..

لكنني أرتاب كثيراً في نجاعة هذه المبالغة في التعويل على الدراسات الفكرية..

عندي وجهة نظر لكني لا أبوح بها كثيراً .. لأني أرى بعض المفكرين الإسلاميين يتصور أنها نوع من التثبيط والتخذيل، فلذلك ألوذ بالصمت ..

وجهة نظري هذه بكل اختصار هي أن أمر الانحرافات الفكرية المعاصرة أسهل بكثير مما نتصور ..

فلو نجحنا في تعبئة الشباب المسلم للإقبال على القرآن، وتدبر القرآن، ومدارسة معاني القرآن، لتهاوت أمام الشاب المسلم - الباحث عن الحق - كل التحريفات الفكرية المعاصرة ريثما يختم أول "ختمة تدبر" ..

بالله عليكم لو قرأ الشاب المسلم - الباحث عن الحق- آيات القرآن في حقارة الكافر ..
وآيات القرآن في وسيلية الدنيا ومركزية الآخرة ..
وآيات القرآن في التحفظ والاحتياط في العلاقة بين الجنسين ..
وآيات القرآن في إقصاء أي فكرة مخالفة للوحي ..
وآيات القرآن في وجوب الوصاية على المجتمع عبر شريعة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ..
وآيات القرآن في تقييد الحريات الشخصية بالإنكار والاحتساب..
وآيات القرآن في أزلية الصراع بين الحق والباطل ..
وآيات القرآن في وجوب هيمنة الشريعة على كل المجتمعات ..
وآيات القرآن في نفي النسبية وإثبات اليقين ..
وآيات القرآن في مسخ أقوام قردة خاسئين لما تسلطوا على ألفاظ النصوص بالتأويل لتوافق رغباتهم وأهوائهم ..
وآيات القرآن في ارتباط الكوارث الكونية بالمعاصي والذنوب ..
وآيات القرآن في ترتيب جدول أولويات النهضة بين التوحيد والإيمان والفرائض والفضيلة وإعداد القوة المدنية .. الخ

فبالله عليكم قولوا لي ماذا سيتبقى - بعد ذلك - من أطلال الانحرافات الفكرية المعاصرة ؟!

حين يقرأ الشاب المسلم - الباحث عن الحق - مثل هذه الآيات فإنه ليس أمام "خطاب فكري" يستطيع التخلص منه عبر مخرج "الاختلاف في وجهة النظر" ..

بل هو أمام "خطاب الله" مباشرة ..
فإما الانصياع وإما النفاق الفكري ..

ولا تسويات أو حلول وسط أمام أوامر ملك الملوك سبحانه وتعالى..
لنجتهد فقط في تحريض وتأليب العقل المسلم المعاصر على الإقبال على القرآن، وتدبر القرآن، في تجرد معرفي صادق للبحث عن الحقيقة.. وصدقوني سنتفاجأ كثيراً بالنتائج ..

قراءة واحدة صادقة لكتاب الله .. تصنع في العقل المسلم ما لا تصنعه كل المطولات الفكرية بلغتها الباذخة وخيلائها الاصطلاحي ..

قراءة واحدة صادقة لكتاب الله ..

كفيلة بقلب كل حيل الخطاب الفكري المعاصر رأساً على عقب..

هذا القرآن حين يقرر المسلم أن يقرأه بـ"تجرد" .. فإنه لا يمكن أن يخرج منه بمثل ما دخل عليه .. هذا القرآن يقلب شخصيتك ومعاييرك وموازينك وحميتك وغيرتك وصيغة علاقتك بالعالم والعلوم والمعارف والتاريخ ..

وخصوصاً .. إذا وضع القارئ بين عينيه أن هذا القرآن ليس مجرد "معلومات" يتعامل معها ببرود فكري ..
بل هو "رسالة" تحمل قضية ودويّاً ..

وإن من أكثر الأمور لفتاً للانتباه في هذا القرآن العظيم .. هي ماحكاه الله عن انفعال الأنبياء بالقرآن انفعالاً وجدانيّاً وعاطفيّاً عميقاً ..

خذ مثلاً ..
لما ذكر الله مسيرة الأنبياء عقب بذكر حالهم إذا سمعوا آيات الوحي حيث يقول تعالى: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا﴾ [مريم: 58] .

يا ألله ..
هذه الآية تصور "جنس الأنبياء" لا بعضهم ..

فانظر بالله عليك كيف يبلغ اتصالهم بـ"كلام الله" مبلغ الخرور إلى الأرض ودموعهم تذرف بكاءً وتأثراً ..
أي انفعال وجداني أعظم من ذلك؟!

ويصف تعالى مشهداً آخر يأسر خيال القارئ، حين يصور أهل الإيمان وهم يستقبلون آيات الوحي فيقول تعالى: ﴿وَإِذَا سَمِعُواْ مَا أُنزِلَ إلى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ﴾[المائدة:83]

ويصف تعالى مرة أخرى أثر القرآن الجسدي وليس الوجداني فقط فيقول تعالى: ﴿اللَّهُ نزلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إلى ذِكْرِ اللَّهِ﴾ .
على أية حال ..

لو أفلحنا في إقناع الشاب المسلم بالإقبال على القرآن بالتدبر الصادق المتجرد للبحث عن الحق .. فاعتبروا أن "الدور المعرفي" تقريباً انتهى ..

وبقيت مرحلة الإيمان ..
فمن كان معه إيمان وخوف من الله فسيحمله على الانقياد والانصياع لله سبحانه ..

ومن أرخى لهواه العنان .. فسيتخبط في شُعب النفاق الفكري .. حيث سيبدأ في أن يعلن على الملأ - كما يعلن غيره - أنه "يحترم ضوابط الشريعة" .. لكنه في دخيلة نفسه يدرك أن كل ما يقوله مخالف للقرآن ..!

بقي الاستثناء الوحيد هاهنا ..
وهو أنني أقول أن من كانت نفسيته المعرفية سوية .. أعني أنها تنظر في "جوهر البرهان" وليس في "شكليات الخطاب" فلن يحتاج إلا لقراءة القرآن بتجرد ..

أما من كان يعاني من عاهات في شخصيته الفكرية .. بحيث أنه يقدم وهج الديكور اللغوي على جوهر البرهان .. فهذا النوع المريض من الناس قد يحتاج فعلاً بعض الكتابات الفكرية التي تخدعه ببعض الطلاء التسويقي .. كما قال الإمام ابن تيمية في حادثة مشابهة في كتابه "الرد على المنطقيين" :
(وبعض الناس: يكون الطريق كلما كان أدق وأخفى وأكثر مقدمات وأطول كان أنفع له, لأن نفسه اعتادت النظر الطويل في الأمور الدقيقة, فإذا كان الدليل قليل المقدمات, أو كانت جلية, لم تفرح نفسه به.., فإن من الناس من إذا عرف ما يعرفه جمهور الناس وعمومهم, أو ما يمكن غير الأذكياء معرفته, لم يكن عند نفسه قد امتاز عنهم بعلم, فيحب معرفة الأمور الخفية الدقيقة الكثيرة المقدمات)

أخيراً ..
أعطوني ختمة واحدة بتجرد ..
أعطيكم مسلماً حنيفاً سنياً سلفياً ..
ودعوا عنكم خرافة الكتب الفكرية الموسعة ..
ولنجعل القرآن " أصلاً " وغيره من الدراسات الفكرية مجرد " تبع " .




</b></i>
رقية مبارك بوداني غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 01-02-13, 02:38 PM   #3
رقية مبارك بوداني
|تواصي بالحق والصبر|
مسؤولة الأقسـام العامة
افتراضي


7- من مناطق التدبر


كثير من الناس يتساءل ويقول: ماذا أتدبر بالضبط في القرآن؟
والحقيقة أن القرآن فيه حقائق وإشارات كثيرة تحتاج إلى التدبر، ثمة مفاتيح كثيرة لفهم القرآن..

أعظم وجوه ومفاتيح الانتفاع بالقرآن تدبر ما عرضه القرآن من (حقائق العلم بالله) فما في القرآن من تصورات عن الملأ الأعلى هي من أعظم ما يزكي النفوس، وكثيراً من المنتسبين للفكر المعاصر يظن الأهم في القرآن هو التشريعات العملية، وأما باب العلم الإلهي فهو قضية ثانوية، ولا يعرف أن هذا هو المقصود الأجل والأعظم، ولذلك قال الإمام ابن تيمية: "فإن الخطاب العلمي في القرآن أشرف من الخطاب العملي قدراً وصفة" [درء التعارض، 5/358].

وأنا شخصياً إذا التقيت بشخصية غربية متميزة في الفكر أو القانون أو غيرها من العلوم أجاهد نفسي مجاهدة على احترام تميزه، لأنني كلما رأيتهم في غاية الجهل بالله سبحانه وتعالى، امتلأت نفسي إزراءً بهم، ما فائدة أن تعرف تفاصيل جزء معين من العلوم وأنت جاهل بأعظم مطلوب للإنسان.. إنه لا يختلف عن سائق مركبة يتقن تفاصيل بعض الطرق الفرعية ويجهل الطرق الرئيسية في المدينة.. فهل مثل هذا يصل؟! أي تخلف وانحطاط معرفي يعيشه هؤلاء الجهلة بالعلم الإلهي..

ويؤلمني القول بأن كثيراً من المنتسبين للفكر العربي المعاصر يجهلون دقائق العلم بالله التي عرضها القرآن.. وأما أئمة السلف الذين ورثنا عنهم علوم الشريعة فقد كانوا في ذروة التبحر في دقائق القرآن، فمن تأمل - مثلاً - رسالة الإمام أحمد في الرد على الزنادقة، أو رسالة الدارمي في النقض على المريسي، فستستحوذ عليه الدهشة من عمق علمهم بالقرآن وما فيه من أسرار المعرفة الإلهية، وشدة استحضار الآيات وربط ما بينها، ليست معرفة آحاد وأفراد الألفاظ فقط، بل معرفة السلف بالقرآن مركبة، فتجدهم يلاحظون منظومة لوازم معاني القرآن، ويستخلصون قي تقريراتهم حصيلة توازنات هذه المعاني القرآنية..

ومن وجوه الانتفاع بالقرآن - أيضاً- تدبر أخبار الأنبياء التي ساقها القرآن وكررها في مواضع متعددة، وبدهي أن هذه الأخبار عن الأنبياء ليست قصصاً للتسلية، بل هي (نماذج) يريد القرآن أن يوصل من خلالها رسائل تضمينية، فيتدبر قارئ القرآن ماذا أراد الله بهذه الأخبار؟ مثل التفطن لعبودية الأنبياء وطريقتهم في التعامل مع الله كما قال الإمام ابن تيمية :"والقرآن قد أخبر بأدعية الأنبياء، وتوباتهم، واستغفارهم" [تلخيص الاستغاثة:1/161].

وتلاحظ أن الله يثنّي ويعيد قصص القرآن في مواطن متفرقة، وليس هذا تكراراً محضاً، بل في كل موضع يريد الله تعالى أن يوصل رسالةً ما، وأحياناً أخرى يكون في كل موضع إشارة لجزء من الأحداث لا يذكره الموضع الآخر، كما قال الإمام ابن تيمية مثلاً: "وقد ذكر الله قصة قوم لوط في مواضع من القران في سورة هود والحجر والعنكبوت، وفي كل موضع يذكر نوعاً مما جرى" [الرد على المنطقيين:494].

والمهم هاهنا أن تدبر أخبار الأنبياء، وأخبار الطغاة، وأخبار الصالحين، في القرآن، ومحاولة تفهم وتحليل الرسالة الضمنية فيها؛ من أعظم مفاتيح الانتفاع بالقرآن.

ومن أعظم وجوه الانتفاع بالقرآن - أيضاً - أن يضع الإنسان أمامه على طاولة التدبر كل الخطابات الفكرية المعاصرة عن النهضة والحضارة والتقدم والرقي والإصلاح والاستنارة الخ.. ويضع كل القضايا التي يرون أنها هي معيار التقدم والرقي ..

ثم يتدبر قارئ القرآن أعمال الإيمان التي عرضها القرآن كمعيار للتقدم والرقي ..

تأمل فقط بالله عليك كيف ذكر الله الانقياد والتوكل واليقين والإخلاص والاستغفار والتسبيح والصبر والصدق والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر... الخ في عشرات المواضع ..
بل بعض هذه الأعمال بعينها ذكرت في سبعين موضعاً ..

ثم قارن حضور هذه القضايا في الخطابات الفكرية لتجده حضوراً شاحباً خجولاً ..

أي إفلاس فكري أن تكون الأعمال التي يحبها الله ويثنيّ بها ويجعلها مقياس الرقي والتقدم والتنوير هي في ذيل القائمة لدى الخطابات الفكرية المعاصرة المخالفة لأهل السنة ..

يا خيبة الأعمار .. حين يتدبر قارئ القرآن كيف وصف الله القرآن بأنه هدى وبينات ونور فإنه يستنتج من ذلك مباشرة بأن مراد الله من عباده في القرآن ليس لغزاً .. هل يمكن أن يكون الله تعالى يعظم ويمنح الأولوية لتلك القضايا التي ترددها الخطابات الفكرية ثم يكرر في القرآن غير ذلك؟! هل القرآن يضلل الناس عن مراد الله؟! شرّف الله القرآن عن ذلك، ولذلك كان الإمام ابن تيمية يقول : "وما قُصِد به هدى عاماً كالقرآن، الذي أنزله الله بياناً للناس، يذكر فيه من الأدلة ما ينتفع به الناس عامة". [الفتاوى: 9/211]

وهذا لا يعني أن الأئمة الربانيين لا يختصهم الله بمزيد فهم للقرآن، وتتكشف لهم دلالات وأسرار لا تنكشف لغيرهم من الناس، فالقلب المعمور بالتقوى يبصر ما لا يبصره من أغطشت عينه النزوات، نسأل الله أن يسبل علينا ستر عفوه، وقد أشار الإمام ابن تيمية لذلك في مواضع كثيرة من كتبه، كقوله :" ومن المعلوم أنه في تفاصيل آيات القرآن من العلم والإيمان ما يتفاضل الناس فيه تفاضلاً لا ينضبط لنا، والقرآن الذي يقرأه الناس بالليل والنهار يتفاضلون في فهمه تفاضلاً عظيماً، وقد رفع الله بعض الناس على بعض درجات" [درء التعارض:7/427].

ومن أعظم مفاتيح الانتفاع بالقرآن - أيضاً - أن يستحضر متدبر القرآن أن جمهور قرارات القرآن وأحكامه على الأعيان والأشياء إنما هي (أمثال)، ومعنى كونها أمثال أي (يعتبر بها ما كان من جنسها) بمعنى أن القرآن يقدم في الأصل نماذج لا خصوصيات أعيان، وقد أشار القرآن لذلك كثيراً كقوله تعالى في سورة الحشر ﴿وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ﴾[الحشر:21]، وقوله في سورة الروم ﴿وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ﴾[الروم:58].

فماذا يريد الله في مطاوي هذه الأمثلة القرآنية؟ هذا أفق واسع للتدبر..

لا شك أن تنبيهات القرآن على مركزية (تدبر القرآن) في صحة المنهج والطريق أنها دافع عظيم للتدبر .. لكن ثمة أمراً آخر على الوجه المقابل لهذه القضية .. معنى منذ أن يتأمله الإنسان يرتفع لديه منسوب القلق قطعاً .. وهو أن من أعرض عن تدبر القرآن فإن الله قدر عليه أصلاً ذلك الانصراف لأن الله تعالى سبق في علمه أن هذا الإنسان لا خير فيه، ولو كان في هذا المعرض خير لوفقه الله للتدبر والانتفاع بالقرآن، وقد شرح القرآن هذا المعنى في قوله تعالى: ﴿وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ﴾[الأنفال: 23].

كلما رأى الإنسان نفسه معرضاً عن تدبر القرآن، أو معرضاً عن بعض معاني القرآن، ثم تذكر قوله تعالى: ﴿وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ﴾ يجف ريقه من الهلع لا محالة..

على أية حال .. هذا القرآن ينبوع يتنافس الناس في الارتشاف منه بقدر منازلهم، كما قال الإمام ابن تيمية :"والقرآن مورد يرده الخلق كلهم، وكل ينال منه على مقدار ما قسم الله له" [درء التعارض : 7/427].


</b></i>
رقية مبارك بوداني غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 01-02-13, 02:39 PM   #4
رقية مبارك بوداني
|تواصي بالحق والصبر|
مسؤولة الأقسـام العامة
افتراضي

8- كل المنهج في أم الكتاب

حين يقول لك نبي الله إن أعظم سورة في القرآن هي سورة الفاتحة، كما في صحيح البخاري عن أبي سعيد المعلى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: لأعلمنك سورة هي أعظم سورة في القرآن، ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ هي السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أوتيته [البخاري،4474] .

فهل هذه المنزلة لسورة الفاتحة منزلة اعتباطية؟ هل الله جل وعلا يختار أن تكون سورة الفاتحة أعظم وحي أوحاه سبحانه وتعالى طوال تاريخ النبوات هكذا دون حيثيات موضوعية أعطت هذه السورة العظيمة مرتبتها الأولوية؟ كم من الوقت منحناه لتدبر هذه السورة العظيمة والتساؤل عن مغزى هذا التعظيم الإلهي لها؟

حين يتدبر القارئ مضامين هذه السورة فإنه لا يستطيع أن يكف عن نفسه الذهول كيف تاهت التيارات الفكرية المخالفة لأهل السنة في قضايا وجزئيات ومسائل جعلوها أعظم مطالبهم، وزهدوا في مطالب أخرى جاءت هذه السورة العظيمة بتقريرها، تأمل كيف بدأت هذه السورة بثلاث آيات كلها ثناء على الله، تعظيمه جل وعلا بربوبيته للعالمين، ثم تعظيمه جل وعلا بكمال رحمته، ثم تعظيمه جل وعلا بملكه لليوم الآخر .

القارئ يحمد الله بربوبيته للعالمين، ورب العالمين يجيبه فيقول: (حمدني عبدي)، ثم يواصل القارئ فيثني على الله بكمال رحمته، ورب العالمين يقول: (أثنى علي عبدي)، فإذا بلغ القارئ الآية الثالثة فأثنى على الله بملكه لليوم الآخر قال الله: (مجدني عبدي) [صحيح مسلم،904]..

كثيراً ما أتساءل هل نحن حين نقرأ الفاتحة ونمر بهذه الآيات نستشعر أن رب الأرض والسماوات يقول لنا ذلك، إنه الله، يتحدث عنا ونحن نقرأ الفاتحة.. هل تتصور؟!

فبالله عليك تأمل في هذه الآيات الثلاث التي ذكر الله تعالى في الحديث القدسي في صحيح مسلم أنها نصف الفاتحة، حين قال: (قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين)..

هذه الآيات الثلاث التي هي نصف الفاتحة، أي أنها نصف أعظم سورة في القرآن، كلها حمد لله وثناء على الله وتمجيد لله ..

بالله عليك تأمل في هذه الآيات الثلاث، ثم انتقل بذهنك وتذكر جدل المذاهب الفكرية المعاصرة حول قضية (ترتيب الأولويات) ..

سألتك بالله هل رأيت واحداً منهم يتحدث عن الثناء على الله وتوقير الله وتعظيم الله باعتباره أولوية من أولويات الإصلاح؟ بالله عليك هل رأيت أحداً منهم يتحدث عن عمارة النفوس بتمجيد الباري باعتبارها أولوية من أولويات النهضة والتقدم؟

حين أتأمل في النصف الأول من الفاتحة وأقارن دعاة أهل السنة بكلام المذاهب الفكرية يدركني الرثاء الحزين لأحوال هذه المذاهب الفكرية، كيف تحيروا في أعظم المطالب، وبعضهم فيه ذكاء واطلاع، ولكن هذه الأمور بابها التوفيق الإلهي، وكم تردت نفوس كثيرة حين تسرب إليها شيء من كبرياء الثقافة وزهو الذكاء..

فإذا تجاوزت هذه الآيات الثلاث وبلغت جوهرة السورة كلها ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾.. فتقديم المعمول (إياك) على العامل (نعبد) يفيد الحصر، فلا يعبد إلا الله، والعبادة لفظ شامل، فإذا نطقت بهاته الجملة التي لا تتجاوز كلمتين ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ﴾.. تهاوت أمام ناظريك كل المألوهات من دون الله..

تذكرت طوائف تنتسب للقبلة وتستغيث بالحسين، وهذه الآية تقول لا يستغاث بالحسين من دون الله..

تذكرت مذاهب تمنح حق التشريع للبرلمان، وهذه الآية تقول لا يملك حق التشريع إلا الله..

تذكرت من يطاوع هواه حتى كأنه إلهاً له كما قال تعالى: ﴿أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ﴾ [الجاثية : 23]، وهذه الآية تقول لا يؤله إلا الله..

تذكرت شخصيات تعبد المنصب والمال، كما قال صلى الله عليه وسلم : (تعس عبد الدينار).
وهذه الآية تقول لا يعبد إلا الله..

تذكرت من يذعن للشيطان حتى كأنه يعبده كما قال تعالى: ﴿يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ﴾ [يس : 60] وكما قال الله عن الخليل: ﴿يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ﴾ [مريم : 44]
وهذه الآية تقول لا يذعن إلا لله..

تذكرت حالات يلتفت فيها القلب إلى ثناء الناس ومديحهم، وهذه الآية تقول لك لا يراد بالعمل إلا وجه الله..

تذكرت نيات عزبت عن الله إلى دنيا تصيبها، وهذه الآية تقول لا ينوى العمل إلا لله..
وتذكرت وتذكرت وتذكرت ..

وهذه الآية العظيمة تسقط كل مطاع أو متبوع أو مألوه إلا الله..

﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ﴾.. هي جوهر مشروع الإصلاح، وهي قاعدة النهضة، وهي مختبر الحضارة، وهي معيار التقدم، وهي خطة التنمية..

﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ﴾.. هي قلب سورة الفاتحة، قلب أعظم سورة في كتاب الله، ومع ذلك، كم تاهت عن هذه السورة، بل عن هاتين الكلمتين فقط؛ أمم من الخلق..

آية نكررها في اليوم عشرات المرات في كل ركعة من الفرائض والنوافل..

لماذا؟
لأنها "منهج حياة".

تأمل فقط في أحد تطبيقات هذه الآية كيف يحكّمها أئمة الدين في تفاصيل المسائل، يقول ابن تيمية : "والمقصود أن صاحب الزيارة الشرعية إذا قال ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾كان صادقاً؛ لأنه لم يعبد إلا الله ولم يستعن إلا به وأما صاحب الزيارة البدعية فإنه عبد غير الله واستعان بغيره، فهذا بعض ما يبين أن "الفاتحة" أم القرآن)[الفتاوى:6/264].

وأما الاستعانة في قوله :﴿وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾فهي عبادة مشمولة بقوله : ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ﴾ولكن الله أفردها بالذكر في هذا الموضع من فاتحة الكتاب ليكون تنبيهاً مستمراً يسمعه المؤمن يذكّره بأن المطلوب الأكبر وهو (العبادة) لا يكون إلا بـ(الاستعانة)، وهذا الموضع في تعقيب العبادة بالاستعانة موضع أسهب فيه أئمة التأله والسلوك وفقهاء الطريق إلى الله في تأملاتهم الإيمانية .

ثم تنتقل السورة إلى النصف الثاني الذي ذكره الله في الحديث القدسي السابق، ويبدأ بعد الثناء والتوحيد، حالة الدعاء، فإن الله قال: (هذا لعبدي ولعبدي ما سأل).

حسناً ..
ما الدعاء الذي اختاره الله لنا بأن ندعو به؟

مطلوبات كثيرة، وهانحن الآن في أعظم سورة، وقد بلغنا الموضع الذي اختار الله أن يكون موضع دعاء، والله سبحانه هو الذي اختار لنا هذا الدعاء.

أتدري ما الذي اختاره الله؟
إنه (الدعاء بالهداية)..

لو قيل لشخص: ادع الله كثيراً أن يهديك، لاستغرب، وشعر أن هذا أمر ثانوي، والله تعالى يختار لنا أن يكون دعاء الفاتحة هو سؤال الهداية!

إذا كان الله سبحانه اختار أن يكون دعاء أعظم سورة في القرآن هو "سؤال الهداية" فهذا يعني أن الضلال وشيك خطير مخوف، وإلا لم يفرد الله سؤال بهذه الخصوصية، لو كان الضلال أمراً مستبعداً، أو مما يجب أن لا ننشغل بالخوف منه، أو يجب أن لا نكون سوداويين، لما كان الله سبحانه وتعالى أرحم الراحمين والذي يريد لنا الخير أكثر مما نريده لأنفسنا؛ يختار أن يكون دعاء الفاتحة هو طلب الهداية..

ولاحظ المقام الذي يدعو فيه المرء بالهداية؟
إنه ليس مقام معصية..
ولا مقام ضلال..

بل يلح الإنسان على الله في طلب الهداية وهو في أجل لحظات الهداية!
قائم بين يدي الله ويسأله الهداية!

فكيف بالسادر عن الله؟
فكيف بالغافل اللاهي؟
ومع ذلك يستعظم أن يسأل الله الهداية!

في المواضع العظيمة، لا يُختار من الدعاء إلا أعظمه، وأعظم الدعاء ما خاف الإنسان من ضده.. فإذا كان الله اختار لنا "تكرار طلب الهداية" في قلب أعظم سورة تكلم بها سبحانه وتعالى، دل هذا على أن ضد الهداية وهو الضلال أمرٌ أقرب إلى أحدنا من عمامته التي تحيط برأسه..

دل هذا على أننا نسير في حقل ألغام من الانحرافات ..
دل هذا على أن هذه الحياة الدنيا محفوفة بكلاليب الباطل تلتقط الناس يمنة ويسرة ..
ولذلك اختار أرحم الراحمين لنا أن نسأله الهداية في كل ركعة من صلاتنا..

إذا رأيت كيف خص الله الهداية هاهنا بطريقة تثير القلق من الضلال، فقارنها بالبرود الفكري المعاصر تجاه قضية الهداية والضلال، وتعاملنا معها بمنطق سيبيري جامد، ليس فيه خوف ووجل وحرص على الحق..

قال الإمام ابن تيمية : "وإنما فرض عليه من الدعاء الراتب الذي يتكرر بتكرر الصلوات، بل الركعات فرضها ونفلها، هو الدعاء الذي تتضمنه أم القرآن وهو قوله تعالى : ﴿اهْدِنَا الصِّرَاط الْمُسْتَقِيم﴾، لأن كل عبد فهو مضطر دائماً إلى مقصود هذا الدعاء وهو هداية الصراط المستقيم"[الفتاوى:22/399].

وما إن يتجاوز القارئ لفظ الهداية .. إلا وتبدأ أولى محطات الإشارة إلى "الصراع" ..

ذكر الله بعد ذلك مباشرة الإشارة إلى محل الهداية وهو "الصراط" وهذا يعني أنه صراط واحد، وليس متعدداً..
هل اكتفى بذلك؟ لا .. بل وصفه بأنه "مستقيم" أيضاً ..

فهو صراط لا يحتمل المنعطفات، فمن خرج عن هذا الصراط فقد خرج عن الإسلام.. ومن دخل في هذا الصراط لكن لم يراع استقامته فهو من منحرفي أهل القبلة ..

فالصراط وصف للإسلام ..
والمستقيم وصف للسير على السنة..
فالاستقامة وصف أضيق من الصراط..

حسناً.. وصف الله محل الهداية وصفاً نظرياً بأنه "صراط مستقيم" ..
هل اكتفى بهذا القدر؟ لا ..

بل زاد بأن ربطه بتجربة بشرية معروفة فقال تعالى: ﴿صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ﴾..

قارن هذا الربط بأولئك الذين يقولون طريقة الصحابة ومن تبعهم لا تلزمنا! الله تعالى يوضح لنا الصراط بأنه صراط الذين أنعم عليهم، ومن أعظم من يدخل هذا الوصف أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وهؤلاء يقولون طريقة الصحابة لا تلزمنا!

ثم تختتم هذه السورة برسم أسباب الافتراق الكبرى وآثارها، حيث يقع الصراط المستقيم بين طريقين، طريق المغضوب عليهم، وهم الذين حصلوا العلم وأهملوا العمل، وطريق الضالين، وهم الذين اجتهدوا في العمل بلا علم.. وأهل الصراط المستقيم جمعوا العلم والعمل..

فانظر كيف تصوغ هذه الفاتحة العظيمة حياة المسلم وهو يكررها كل يوم..



رقية مبارك بوداني غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 01-02-13, 02:41 PM   #5
رقية مبارك بوداني
|تواصي بالحق والصبر|
مسؤولة الأقسـام العامة
افتراضي


9- دوّي الليالي الرمضانية

من الذكريات التي تنتاب خاطري بشكل عشوائي صورة تتراءى لي كثيراً من أحد مساءات رمضان..

فمن المشاهد في ليالي رمضان، وخصوصاً في هذا العِقد الأخير، أن المساجد صارت تتفاوت كثيراً في توقيت صلاتي التراويح والتهجد بحسب ما يرتاح له أهل كل حي ويتوافقون عليه.. ولذلك فكثيراً ما تكون في منزلك قد انتهيت من الصلاة بينما تسمع بعض المساجد المجاورة ما زالوا في جوف صلاتهم ..

وهذا ما وقع لي ذات ليلةٍ تكاد ذكراها تتهدج في نفسي..

كنت في غرفتي الخاصة أعِدّ بعض الأوراق، وفي ثنايا انهماكي في هذه المهام .. تسرب من خلال النافذة صوت مسجد الشيخ القارئ خالد الشارخ، وهو مسجد تتلبد عليه وفود الشباب والفتيان من الأحياء المجاورة في شرق الرياض..

توقفت عن العمل ..
وفتحت النافذة وكانت ليلة عليلة ..
وكادت أذني أن تنخلع تجاه مصدر الصوت ..
أظنها كانت آيات من سورة المائدة إن لم أكن واهماً ..
والله إنني أكاد ألمس السكينة تتطامن فوق كل ذرةٍ حولي..
شعرت أن الهواء ليس كالهواء..
وأن السماء ليست السماء..

هناك شيء ما أفلست قواميس الدنيا أن تمدني بعبارة أصف بها ذلك الإحساس..

رباه .. أي شيء يفعله القرآن يا إلهي في النفوس البشرية ..

ومما يعبُر في بحر هذه الذكرى أنني أتذكر وأنا صغير أن أحد قريباتي المسنّات كانت إذا عادت من صلاة التراويح اتجهت إلى التلفاز تشاهد نقل صلاة التراويح من المسجد الحرام.. ولا أحصي كم شهدت دمعاتها تتلامع في محاجرها حين تتسمر أمام تلك الصفوف المهيبة المطرقة حول كعبة الله المشرفة والقرآن تتجاوب به منارات الحرم وسواريه..

وفي الأيام التي تسبق دخول شهر رمضان يكثر فيها تبادل التهاني والدعوات (بلغنا الله وإياك رمضان، وفقنا الله وإياك لصيام رمضان وقيامه، أحببت أن أبارك لك قدوم الشهر الكريم، الخ ..)
حين رأيت بعض هذه التهاني دار في بالي أن أنظر كيف عرض الله لنا (رمضان) ؟
في أي إطار وضع الله (شهر رمضان) ؟
أو بمعنى آخر: (ما هي هوية رمضان في القرآن) ؟

حين أخذت أتأمل الآيات القرآنية التي تعرضت لرمضان في القرآن، وجدته جاء في صيغتين، صيغة الشهر الكامل (رمضان)، وجاء في صيغة جزئية أي بعض أيامه فقط، وهي (ليلة القدر).

في الصيغة التي جاء فيها بذكر الشهر الكامل (رمضان) قال الله عنه ﴿شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ﴾[البقرة: 185] فعرّفه الله لنا بأنه الظرف الزماني للقرآن.

وفي الصيغة التي أشير فيها لرمضان بصورة جزئية، وهي أحد لياليه، جاءت في موضعين، مرةً باسم (ليلة القدر) ومرةً باسم (الليلة المباركة)، فأما باسم ليلة القدر فيقول تعالى في مطلع سورة القدر ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ﴾[القدر: 1] ، وأما باسم الليلة المباركة فيقول تعالى في مطلع سورة الدخان ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ﴾[الدخان: 3].

وفي كلا الموضعين ذكر الله هذه الليلة عبر علاقتها بالقرآن!
يا لربنا العجب ..

في المواضع التي ذكر الله فيها رمضان، بصيغة الشهر الكامل وبصيغة الليالي الجزئية، تم تقديمه في إطار علاقته بالقرآن ..

أي إشارة لخصوصية القرآن في رمضان أكثر من ذلك..

استعرض كل شهور السنة الفاضلة.. شهور الحج.. الأشهر الحرم.. لن تجد كثافة في الإشارة للقرآن كما تجده في علاقة القرآن برمضان..

بل ثمة أمر قد يكون أشد لفتاً للانتباه من ذلك، أنه ليس فقط إنزال القرآن اختار الله له رمضان، بل حتى (مراجعة القرآن) مع النبي صلى الله عليه وسلم اختار الله لها رمضان! فكان جبرائيل عليه السلام - وهو أعظم الملائكة لأنه اختص بنقل كلام الله - يعقد مع النبي صلى الله عليه وسلم مجالس مسائية في كل ليلة من رمضان لمراجعة القرآن، ففي صحيح البخاري عن ابن عباس أنه قال: (كان جبريل يلقى النبي في كل ليلة في شهر رمضان حتى ينسلخ، يعرض عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم القرآن) [البخاري، 4997]

لماذا اختار الله تحديداً هذا الشهر - أيضاً - لمراجعة القرآن؟ أليس في هذا إلماحاً إلى أن الساعات الرمضانية هي أشرف الأزمان وأليقها بالقرآن؟ هل هناك لفت للانتباه لخصوصية القرآن في رمضان أكثر من هذه الإشارات في اختيار توقيت نزول القرآن، واختيار توقيت مراجعته؟

والحقيقة أن هذه المدارسة إذا أخذ يتخيلها الإنسان تستحوذ عليه المهابة .. من يتصور؟

مجلس ليلي رمضاني لمراجعة القرآن، طرفاه أعظم إنسان (محمد بن عبدالله) وأعظم ملَك (جبرائيل) وموضوع الدرس أعظم الكلام (كلام ملك الملوك) ..

يا ألله ..
أي هيبة تقبض على النفوس بمجرد تخيل ذلك..

ولذلك فإن النبي صلى الله عليه وسلم نفسه يتأثر كثيراً بهذه المدارسة القرآنية الرمضانية مع جبرائيل، وكان الصحابة يرون أثرها أمامهم على شخصية رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى كان يقول ابن عباس كما في البخاري: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس ، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل، فلرسول الله صلى الله عليه وسلم حين يلقاه جبريل أجود بالخير من الريح المرسلة) [البخاري، 3220].

انظر كيف كان جود رسول الله صلى الله عليه وسلم يزداد بمدارسته القرآن مع جبريل، إذا كان هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي نزل عليه القرآن ومع ذلك ينتفع بمدارسته، فكيف بالله عليكم ستكون حاجتنا نحن أصحاب القلوب التي أمرضتها الشهوات والشبهات..؟!

أي حرمان أوقع فيه بعض المتثيقفة أنفسَهم حين أوهموا أنفسهم أنهم يعرفون القرآن وقرؤوه ولا حاجة لهم إلى استمرار تلاوته وتدبره ومدارسته، فكل ما في القرآن سبق أن اطلعوا عليه!
أشهر فعالية اجتماعية في شهر رمضان هي طبعاً (صلاة التراويح)..

هل سألت نفسك يوماً ما هي الحكمة من صلاة التروايح؟

دعني أكون شفافاً معك فالحقيقة أنه لم يسبق لي أصلاً أن تساءلت هذا السؤال، ولكن كنت مرةً أطالع فتاوى محقق العلوم أبو العباس ابن تيمية فرأيته يقول رحمه الله :" بل من أجلِّ مقصود التراويح قراءة القرآن فيها، ليسمع المسلمون كلام الله" [الفتاوى 23/122]

سبحان من فتح على ذلك العقل الحراني في فهم أسرار الشريعة..

وإذا تأمل المرء النسبة بين رمضان الذي هو وقت الصوم ووقت نزول القرآن، أدرك شيئاً من النسبة بين يوم الاثنين واستحباب صيام النفل فيه، وهو ما أشار له النبي صلى الله عليه وسلم كما في صحيح مسلم (سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صوم يوم الاثنين قال "ذاك يوم ولدت فيه، ويوم بعثت، أو أنزل علي فيه"). [مسلم، 2804]

فلاحظ بالله عليك هذا الخيط الرفيع بين كون شهر رمضان الذي يجب صومه هو شهر نزول القرآن، ويوم الاثنين الذي يستحب صومه هو يوم نزول القرآن.

هل من المعقول أن تكون هذه التوقيتات الزمنية لا تحمل دلالات شرعية ورسائل تضمينية؟

بل ومن الموافقات التاريخية العجيبة أن أشهر جهاد للسلف في القرآن كان فتنة الإمام الأحمد المعروفة في مسألة القرآن، وهذه الحادثة العقدية القرآنية وقعت في رمضان كما ذكر المؤرخون! قال الذهبي: "وفي رمضان كانت محنة الإمام أحمد في القرآن، وضرب بالسياط حتى زال عقله" [ أعلام النبلاء: 10/292].

فسبحان من أنزل القرآن في رمضان، وابتلى أئمة السلف بالجهاد للقرآن في رمضان! وهذا مجرد توافق تاريخي لكن فيه شيء لطيف مما تستطرفه النفوس..

وإذا حاول المرء أن يتأمل في سر العلاقة بين رمضان والقرآن، أو أزمان الصيام والقرآن، فإنه يمكن أن تكون العلاقة أن الصيام يهذب النفس البشرية فتتهيأ لاستقبال القرآن، ففي أيام الصيام تكون النفس هادئة ساكنة بسبب ترك فضول الطعام ..

وهذا يعني أن من أعظم ما يعين على تدبر القرآن وفهمه التقلل من الفضول..

مثل فضول الطعام، وفضول الخلطة مع الناس، وفضول النظر، وفضول السماع، وفضول تصفح الانترنت..

فكلما زالت حواجز الفضول تهاوت الحجب بين القلب والقرآن..

ولذلك كان رمضان الذي يتقلص فيه فضول الطعام والشراب والنكاح بالصيام، ويتقلص فيه فضول الخلطة والكلام بالاعتكاف؛ هو شهر القرآن .



</b></i>
رقية مبارك بوداني غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 01-02-13, 02:46 PM   #6
رقية مبارك بوداني
|تواصي بالحق والصبر|
مسؤولة الأقسـام العامة
افتراضي

10- الحبل الناظم في كتاب الله


هذه ليست ورقة بحثية، ولا مقالة منظمة، ولا حتى خاطرة أدبية، كلا، ليست شيئاً من ذلك كله، وإنما هي (هم نفسي شخصي) قررت أن أبوح به لأحبائي وإخواني، فهذه التي بين يديك هي أشبه بورقة "اعتراف" تطوى في سجلات الحزانى..

هذا الإحباط النفسي الذي يجرفني ليس وليد هذه الأيام، وإنما استولى علي منذ سنوات، لكن نفوذه مازال يتعاظم في داخلي..

صحيح أنني أحياناً كثيرة أنسى في اكتظاظ مهام الحياة اليومية هذه القضية، لكن كلما خيّم الليل، وحانت ساعة الإخلاد إلى الفراش، ووضعت رأسي على الوسادة، وأخذت أسترجع شريط اليوم ينبعث لهيب الألم من جديد.. ويضطرم جمر الإحباط حياً جذعاً..

ثمة قضية كبرى وأولوية قصوى يجب أن أقوم بها ومع ذلك لازالت ساعات يومي تتصرم دون تنفيذ هذه المهمة.. لماذا تذهب السنون تلو السنون ولازلت أفشل في التنفيذ؟
لماذا تكون المهمة أمام عيني في غاية الوضوح ومع ذلك أفلس في القيام بها؟

ويزداد الألم حين أتأمل في كثير من الناس من حولي فلا أرى فيهم إلا بعداً عن هذه القضية، إلا من رحم الله..

مجالس اجتماعية أحضرها تذهب كلها بعيداً عن "الأولوية القصوى"..
وأتصفح منتديات إنترنتية وصفحات تواصل اجتماعي (فيسبوك وتويتر) تمتلئ بآلاف التعليقات يومياً..
وكثيرٌ منهم منهمك في أمور بعيدة عن "الأولوية القصوى" إلا من رحم الله..
وأطالع كتباً فكرية تقذف بها دور النشر وتفرشها أمامك معارض الكتب وغالبها معصوب العينين عن "الأولوية القصوى"..

فإذا أعدت كل مساء استحضار واقعي اليومي، وواقع كثير من الناس من حولي؛ تنفست الحسرات وأخذت أتجرع مرارتها ..
وأتساءل: لِم؟
لِم هذا كله؟
متى تنتهي هذه المأساة؟

دعني ألخص لك كل الحكاية..
في كل مرةٍ أتأمل فيها القرآن أشعر أنني لازلت بعيداً عن جوهر مراد الله ..
مركز القرآن الذي تدور حوله قضاياه لازلت أشعر بالمسافة الكبيرة بيني وبينه..
يذكر الله في القرآن أموراً كثيرة ..

يذكر تعالى ذاته المقدسة بأوصاف الجلال الإلهية، ويذكر الله في القرآن مشاهد القيامة من جنة ونار ومحشر ونحوها، ويذكر أخبار الأنبياء وأخبار الطغاة وأخبار الصالحين وأخبار الأمم ولا سيما بني إسرائيل وتصرفاتهم، ويذكر تشريعات عملية في العبادات والمعاملات... الخ وفي كل هذه القضايا ثمة خيط ناظم يربط كل هذه القضايا .. تتعدد الموضوعات في القرآن لكن هذا الخيط الناظم هو هو .. هذه القضية التي يدور حولها القرآن ويربط كل شيء بها هي "عمارة النفوس بالله" ..

كنت أتأمل - مثلاً - في أوائل المصحف، في سورة البقرة، كيف حكى الله تعجب الملائكة ﴿أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا﴾[البقرة: 30] ثم يربي الله فيهم تعظيم الله ورد العلم إليه ﴿قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾ [البقرة: 30].

وكنت أتأمل بعد ذلك في سورة البقرة نفسها كيف يعدد الله نعمه على بني إسرائيل في ست آيات، فيها أنه فضلهم على العالمين، وأنه نجاهم من آل فرعون، وأنه فرق بهم البحر فأغرق آل فرعون، وأنه عفى عنهم بعد اتخاذهم العجل، ثم بعد هذا التعديد العجيب لقائمة النعم، يختم بوظيفة ذلك كله ﴿لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾[البقرة: 52] ..

كل هذا السياق يراد به عمارة النفوس بالله بأن تلهج الألسنة والقلوب بتذكره وشكره تعالى..

بل يذكر الله تعالى في البقرة - وأعاده في مواضع أخرى أيضاً - كيف اقتلع تعالى جبلاً من الجبال ورفعه حتى صار فوق رؤوس بني إسرائيل، لماذا؟
ليربي فيهم شدة التدين والتعلق بالله، يقول تعالى في البقرة: ﴿وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ﴾[البقرة: 63].

وقال في الأعراف ﴿وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ﴾[الأعراف: 171]..
كل هذا لتعمر النفوس بالتشبث بكلام الله تعالى ﴿خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ﴾ .

وكنت أتأمل كيف يصف القرآن حالة القلوب التي غارت ينابيع الإيمان فيها وأمحلت من التعلق بالله، حتى قارنها الله بأكثر الجمادات يبوسة في موازنة لا تخفي الأسى والرثاء.. يقول تعالى: ﴿ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً﴾[البقرة: 74] ثم يكمل في تلك المقارنة المحرجة ﴿وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ﴾ حتى الحجارة تلين وتخضع وتتفجر وتتشقق وتهبط.. وما المراد من هذا المثل؟
هو عمارة النفوس بالله ﴿وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ﴾.

وكنت أتأمل كيف ابتلى الله العباد بأمور توافق هواهم، وبأمور أخرى تعارضها، فآمن بعض الناس بما يوافق هواه وترك غيره، فلم يقل القرآن إن الله يشكر لهم ما آمنوا به ويتغاضى عما تركوا.. لا .. الله يريد أن تعمر النفوس بالله فتنقاد وتخضع وتنصاع لله في كل شيء.. يقول تعالى: ﴿أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ﴾[البقرة: 85] ثم يقول بعدها بآيات معدودة ﴿أفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ﴾[البقرة: 87].

لماذا شنع عليهم ربنا جل وعلا؟
لأن المراد شيء آخر ..
شيء آخر يختلف كثيراً عما يتصور كثير ممن تضررت عقولهم بالثقافة الغربية المادية..
المراد عمارة النفوس بتعظيم الله والاستسلام المطلق له..

وكنت أتأمل كيف يذكر الله النسخ في القرآن، وهو مسألة مشتركة بين أصول الفقه وعلوم القرآن، ثم يختم ذلك ببيان دلالة هذه الظاهرة التشريعية، وهي عمارة النفوس بتعظيم القدرة الإلهية: ﴿مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾[البقرة: 106]..

يا سبحان الله ..
مسألة أصولية بحتة وتربط فيها القلوب بتعظيم الله، وقدرة الله..

وكنت أتأمل كيف ذكر الله مسألة من مسائل شروط الصلاة وهي (استقبال القبلة)، ثم تغييرها من بيت المقدس إلى الكعبة، وبرغم كونها مسألة فقهية بحتة، إلا أن القرآن ينبهنا أن وظيفة هذه الحادثة التاريخية كلها هي "اختبار" النفوس في مدى تعظيمها واستسلامها لله؟ هذا جوهر القضية!
﴿وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ﴾[البقرة: 143]..

وآيات القصاص تختم بـ"تقوى الله" كما يقول تعالى: ﴿وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾[البقرة: 179] وآيات الصيام تلحق أيضاً بالتقوى في قوله تعالى: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾[البقرة: 183] وآيات الوصية تختم كذلك بالتقوى في قوله تعالى: ﴿إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ﴾[البقرة: 180] ..

ولما ذكر الله مناسك الحج وأعمالها وشعائرها.. ووصل للحظة اختتام هذه المناسك وانقضائها، أعاد الأمر مجدداً لربط النفوس بالله وإحياء حضور الله في القلوب ﴿فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ﴾[البقرة: 200] ..

واعجباه ..
تنقضي المناسك وما يعتري المرء فيها من النصب، لتربط النفوس مجدداً بالله.. برغم أن الحج أصلاً مبناه على ذكر الله بالتلبية والتكبير ونحوها، فالقلب في القرآن من الله .. وإلى الله .. سبحانه وتعالى..

وأخذت أتأمل لما ذكر الله تعالى حكم (الإيلاء) في القرآن، وذكر الله للرجال خيارين: إما أن يتربصوا أربعة أشهر، أو أن يعزموا الطلاق، وأدركني العجب كيف يختم كل خيار فقهي بأوصاف العظمة الإلهية، يقول تعالى في آيتين متتابعتين: ﴿لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (226) وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾[البقرة: 226-227].. والله شيء عجيب أن تربط النفوس بالله بمثل هذه الكثافة في تفاصيل الأحكام الفقهية..

وكنت أتأمل كيف ذكر الله حالة "الخوف" من الأعداء ونحوها، فلم يسقط الصلاة، بل أمر الله بها حتى في تلك الأحوال الصعبة ﴿حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ (238) فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا﴾[البقرة: 238-239] حسناً هذا في حال الخوف فماذا سيكون في حال الأمن؟
تكمل الآية ﴿فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ﴾[البقرة، 239] .

رجعت مرةً أخرى إلى بداية الآية وأخذت أتأمل المحصلة، وإذا بها في حال الأمن والخوف يجب أن يكون القلب معلقاً بالله..

بالله عليك أعد قراءة الآية متصلة ﴿فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ﴾[البقرة: 239].

رقية مبارك بوداني غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 01-02-13, 02:49 PM   #7
رقية مبارك بوداني
|تواصي بالحق والصبر|
مسؤولة الأقسـام العامة
افتراضي

القرآن يريد النفس البشرية مشدودة الارتباط بالله جل وعلا في جميع الأحوال..
يريد من المسلم أن يكون الله حاضراً في كل سكنة وحركة..

وكنت أتأمل كيف يذكر الله النصر العسكري ليربط النفوس بالله ﴿وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾[آل عمران: 123].

وحتى حين ذكر الله المعاصي والخطايا إذ يقارفها ابن آدم فإن القرآن يفتح باب ذكر الله أيضاً ﴿وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ﴾[آل عمران: 135]

وذكر الله تبدلات موازين القوى عبر التاريخ، وربط الأمر - أيضاً - بأن المراد اختبار عمق الإيمان والارتباط بالله ﴿وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ﴾ [آل عمران: 140].

وقص الله في القرآن قصة قومٍ قاتلوا مع نبيهم .. وحكى القرآن ثباتهم.. ومن ألطف ما في ذلك السياق أنه أخبرنا بمقالتهم التي قالوها في ثنايا معركتهم.. فإذا بها كلها مناجاة وتعلق بالله ﴿وكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ (146) وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ﴾[آل عمران: 146-147]..

شيء مدهش والله من حال ذلك القوم الذين عرضهم الله في سياق الثناء.
في قلب المعركة .. وتراهم يستغفرون الله من خطاياهم، ويبتهلون إليه، ويظهرون الافتقار والتقصير وأنهم مسرفون ..
يا لتلك القلوب الموصولة بالله..

ولما ذكر الله الجهاد شرح وظيفته وأنها اختبار ما في النفوس من تعلق بالله وإيمان به ﴿قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ﴾[آل عمران: 154].. وقال ﴿وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ﴾[آل عمران: 166]

ولما ذكر الله حب النفس البشرية للنصر على الأعداء لفت الانتباه إلى المصدر الرئيسي للنصر ..

تأمل بالله عليك كيف يضخ القرآن في النفوس التعلق المستمر بالله ﴿إنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ﴾[آل عمران: 160] ويقول تعالى: ﴿إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ﴾[محمد، 7]..

وكنت أنظر كيف يصوّر القرآن أوضاع الجلوس والقيام والاسترخاء.. وكيف تكون النفس في كل هذه الأحوال لاهجة بذكر الله ﴿الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ﴾[آل عمران: 191].

يذكر الله وهو واقف ..
يذكر الله وهو جالس ..
يذكر الله وهو مضطجع..
أي تعلق بالله .. وأي نفوس معمورة بربها أكثر من هذه الصورة المشرقة..

سألتك بالله وأنت تقرأ هذه الآية ألا تتذكر بعض العبّاد المخبتين من كبار السن الذين لا تكف ألسنتهم عن تسبيح وتحميد وتكبير ..
هل ترى الله حكى لنا هذه الصورة عبثاً؟
أم أن الله تعالى يريد منا أن نكون هكذا ..
نفوساً مملوءة بربها ومولاها لا تغفل عن استحضار عظمته وتألهه لحظة واحدة..

وحتى في المشاعر بين الزوجين إذا سارت الأمور في غير مجاريها فإن القرآن يحرك في النفوس استحضار الغيبيات والأبعاد الإيمانية حيث يقول تعالى: ﴿فإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا﴾[النساء: 19].

فإن بلغت أمور الزوجين إلى الشقاق الزوجي شرع التحكيم بينهما .. وحتى في هذا التحكيم الزوجي فإن القرآن يلفت انتباه المنخرطين في هذه العملية إلى أن مسارات التحكيم مرتبطة بما قام في القلوب من العلاقة بالله ﴿وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا﴾[النساء: 35].

ولما ذكر الله البلد الذي لا يستطيع المؤمن فيها إظهار شعائره وأمر بالهجرة إلى بلد آخر؛ لم يجعل الأمر مجرد هجرة من مكان جغرافي إلى آخر، بل جعل القضية "هجرة إلى الله" ذاته، كما يقول تعالى: ﴿وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ﴾[النساء: 100] .. فالأمر في صيغته الحسية مجرد هجرة من بلد إلى بلد، لكنه في ميزان القرآن "هجرة إلى الله ورسوله"..

ومن أعجب مواضع القرآن في ربط النفوس بالله وعمارتها بربها، ولا أظن أن ثمة دلالة أكثر من ذلك على هذا الأمر: (صلاة الخوف حال الحرب)، هذه الشعيرة تسكب عندها عبرات المتدبرين..

وقد تكفل القرآن ذاته بشرح صفتها، وجاءت في السنة على سبعة أوجه معروفة تفاصيلها في كتب الفقه .. بالله عليك تخيل المسلم وقد لبس لأمة الحرب، وصار على خط المواجهة، والعدو يتربص، والنفوس مضطربة قلقة، والأزيز يمخر الأجواء، والدم تحت الأرجل.. ومع ذلك لم يقل الله دعوا الصلاة حتى تنتهوا، بل لم يقل دعوا "صلاة الجماعة" !
وإنما شرح لهم كيف يصلوا جماعة في هذه اللحظات العصيبة ﴿وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ﴾[النساء: 102].

هل تعرف في الدنيا كلها شاهد على حب وتعظيم الله جل وعلا للارتباط بالله واستمرار مناجاته أكثر من ذلك..

بل هل يوجد رجل فيه شيء من الورع وخوف الله يهمل صلاة الجماعة وهو في حال الأمن والرفاهية وعصر وسائل الراحة؛ وهو يرى ربه تعالى يطلب من المقاتلين صلاة الجماعة ويشرح لهم تفاصيل صفتها بدقة، وهم تحت احتمالات القصف والإغارة؟!

هل تستيقظ نفوس افترشت سجاداتها في غرفها ومكاتبها تصلي "آحاداً" لتتأمل كيف يطلب الله صلاة "الجماعة" بين السيوف والسهام والدروع والخنادق..؟!

أترى الله يأمر المقاتل الخائف المخاطر بصلاة الجماعة، ويشرح له صفتها في كتابه، ويعذر المضطجعين تحت الفضائيات، والمتربعين فوق مكاتب الشركات؟!
هل تأتي شريعة الله الموافقة للعقول بمثل ذلك؟!

ومن اللطيف أن الآية التي أعقبت الآية السابقة تكلمت عن حال إتمام الصلاة، حسناً .. نحن عرفنا الآن من الآية السابقة صفة الصلاة لحظة احتدام الصفين، فما هو التوجيه الذي سيقدمه القرآن بعد الانقضاء من الصلاة؟ يقول تعالى: ﴿فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ﴾[النساء: 103]

يا سبحان ربي .. الآن انتهى المقاتل من صلاة الجماعة، فيرشده القرآن لاستمرار ذكر الله ..
هل انتهى الأمر هاهنا؟

لا، لم ينته الأمر بعد، فقد واصلت الآية الحديث عن انتهاء حالة الخوف، وبدء حالة الاطمئنان، ويتصل الكلام مرةً أخرى لربط النفوس بالله ﴿فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ﴾[النساء: 103]..
صارت القضية كلها لله ..

بالله عليك أعد قراءة الآيتين متواصلتين ﴿وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا (102) فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا﴾[النساء: 102-103].

ولما ذكر الله الصلاة في سورة "طه" أشار إلى غاية تغيب عن بال كثير من المصلين فضلاً عمن دونهم، ربما يتحدث الواحد منا عن عظمة الصلاة في الإسلام، وأنها أعظم ركن بعد الشهادتين، وأنها الخط الفاصل بين الكفر والإيمان، ونحو هذا من معاني مركزية الصلاة، ولكن لماذا شرع الله الصلاة وأحبها وعظمها سبحانه؟
إنها بوابة استحضار الله وتذكره، يقول الله سبحانه: ﴿وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي﴾[طه، 14] هكذا بكل وضوح.. يقيم المسلمون الصلاة ليتذكرون الله جل وعلا.. يكبروه ويسبحوه ويناجوه..

بل وحتى حين ذكر الله الجوارح المعلّمة في الصيد لم يذكر تعليمها مغفلاً هكذا .. بل يربطه بالحقيقة العقدية الإيمانية ليستمر القلب موصولاً بعظمة الله .. تأمل كيف ينبه المسلم على ذلك ﴿وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ﴾[المائدة: 4] ..

حتى تعليم الجوارح وكلاب الصيد يجب أن يستحضر المؤمن أنها تعليم مما علم الله ..
ما أشد كثافة حضور العلاقة بالله في القرآن..
رقية مبارك بوداني غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
إضافة رد

مواقع النشر (المفضلة)


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

(View-All Members who have read this thread in the last 30 days : 0
There are no names to display.
أدوات الموضوع إبحث في الموضوع
إبحث في الموضوع:

البحث المتقدم
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع

المواضيع المتشابهه
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
أيهما أولى حفظ القرآن أو طلب العلم الشرعي مسلمة لله روضة آداب طلب العلم 31 02-08-16 12:15 PM
[بحث] فوائد من فقه الصيام لبنى أحمد فقه الصيام 12 11-12-13 02:23 AM
نزول القرآن الكريم وتاريخه وما يتعلق به طـريق الشـروق روضة القرآن وعلومه 8 22-12-07 03:50 PM


الساعة الآن 05:38 PM.


Powered by vBulletin® Version 3.8.11
Copyright ©2000 - 2025,Jelsoft Enterprises Ltd.
هذه المنتديات لا تتبع أي جماعة ولا حزب ولا تنظيم ولا جمعية ولا تمثل أحدا
هي لكل مسلم محب لدينه وأمته وهي على مذهب أهل السنة والجماعة ولن نقبل اي موضوع يثير الفتنة أو يخالف الشريعة
وكل رأي فيها يعبر عن وجهة نظر صاحبه فقط دون تحمل إدارة المنتدى أي مسؤلية تجاه مشاركات الأعضاء ،
غير أنَّا نسعى جاهدين إلى تصفية المنشور وجعله منضبطا بميزان الشرع المطهر .