العودة   ملتقى طالبات العلم > ๑¤๑ أرشيف الدروات العلمية ๑¤๑ > دورات بين دفتي كتاب (انتهت)

الملاحظات


دورات بين دفتي كتاب (انتهت) بَيْنَ دِفَّتَي كِتَابٍ مشروع علمي في قراءة كتاب مختار

إضافة رد
 
أدوات الموضوع إبحث في الموضوع انواع عرض الموضوع
قديم 11-09-07, 11:35 PM   #1
أم البراء
~ وقــف لله ~
حفيدة خديجة رضي الله عنها
افتراضي

وسائل تحصيل لذة الصلاة



(اعلم أن هذه المعاني تكثر العبارات عنها ولكن يجمعها ست جمل وهي:

(1) حضور القلب (2) التفهُّم (3) التعظيم
(4) الهيبة (5) الرجاء (6) الحياء




فلتذكر تفاصيلها ثم أسبابها ثم العلاج في اكتسابها، أما التفصيل:



فالأول: حضور القلب، ونعني به أن يفرَّغ القلب عن غير ما هو ملابس له ومتكلمٌ به، فيكون العلم بالفعل والقول مقرونًا بهما، ولا يكون الفكر جائلاً في غيرهما، ومهما انصرف القلب في الفكر عن غير ما هو فيه- وكان في قلبه ذكر لما هو فيه- ولم يكن فيه غفلة عن كل شيء فقد حصل حضور القلب.


والثاني: هو التفهم لمعنى الكلام، وهو أمر وراء حضور القلب، فربما يكون القلب حاضرًا مع اللفظ ولا يكون مع معنى اللفظ، فاشتمال القلب حاضرًا على العلم بمعنى اللفظ هو الذي أردناه بالتفهم، وهذا مقام يتفاوت الناس فيه إذ ليس يشترك الناس في تفهم المعاني للقرآن والتسبيحات.. وكم من معان لطيفة يفهمها المصلي في أثناء الصلاة ولم يكن قد خطر بقلبه ذلك قبله؟ ومن هذا الوجه كانت الصلاة ناهية عن الفحشاء والمنكر، فإنها تُفَهم أمورًا، تلك الأمور تمنع عن الفحشاء لا محالة.


والثالث: التعظيم وهو أمر وراء حضور القلب والفهم، إذ الرجل يخاطب عبده بكلام هو حاضر القلب فيه ومتفهم لمعناه ولا يكون معظمًا له فالتعظيم زائد عليهما.


والرابع: وهو الهيبةُ فزائدة على التعظيم بل هي عبارة عن خوف منشؤة التعظيم لأن من لا يخاف لا يسمى هائبًا، والمخافة من العقرب وسوء خلق العبد وما يجري مجراه من الأسباب الخسيسة لا تسمى مهابة، بل الخوف من السلطان المعظم يسمى مهابة، والهيبة خوف مصدرها الإجلال.


والخامس: وهو الرجاء فلا شك أنه زائد فكم من معظم ملكًا من الملوك يهابه أو يخاف سطوته ولكن لا يرجو مثوبته، والعبد ينبغي أن يكون راجيًا بصلاته ثواب الله عز وجل كما أنه خائف بتقصيره عقاب الله عز وجل.


السادس: وهو الحياء فهو زائد على الجملة لأن مستنده استشعار تقصير وتوهم ذنب، ويتصور التعظيم والخوف والرجاء من غير حياء حيث لا يكون توهم تقصير وارتكاب ذنب.


وأما أسباب هذه المعاني الستة: فاعلم أن حضور القلب سببه الهمة فإن قلبك تابع لهمتك فلا يحضر إلا فيما يهمك. ومهما أهمك أمر حضر القلب فيه شاء أم أبى فهو مجبول على ذلك ومسخر فيه والقلب إذا لم يحضر في الصلاة لم يكن متعطلاً بل جائلاً فيما الهمة مصروفة إليه من أمور الدنيا، فلا حيلة ولا علاج لإحضار القلب إلا بصرف الهمة إلى الصلاة، والهمة لا تنصرف إليها ما لم يتبين أن الغرض المطلوب منوط بها وذلك هو الإيمان والتصديق بأن الآخرة خير وأبقى وأن الصلاة وسيلة إليها، فإذا أضيف هذا إلى حقيقة العلم بحقارة الدنيا ومهماتها حصل من مجموعها حضور القلب في الصلاة، وبمثل هذه العلة يحضر قلبك إذا حضرت بين يدي بعض الأكابر ممن لا يقدر على مضرتك ومنفعتك، فإذا كان لا يحضر عند المناجاة مع ملك الملوك الذي بيده الملك والملكوت والنفع والضر فلا تظنَّن أن له سببًا سوى ضعف الإيمان فاجتهد الآن في تقويته.


وأما التفهم فسببه بعد حضور القلب إدمان الفكر وصرف الذهن إلى إدراك المعنى وعلاجه الذي هو علاج إحضار القلب مع الإقبال على الفكر والتشمر لدفع الخواطر، وعلاج دفع الخواطر الشاغلة قطع موادها، أعني النزوع عن تلك الأسباب التي تنجذب الخواطر إليها، وما لم تنقطع تلك المواد لا تنصرف عنها الخواطر، فمن أحب شيئًا أكثر ذكره، فذكر المحبوب يهجِم على القلب بالضرورة، ولذلك ترى أن من أحب غير الله لا تصفو له صلاة عن الخواطر.


وأما التعظيم فهي حالة للقلب تتولد من معرفتين: إحداهما: معرفة جلال الله عز وجل وعظمته وهو من أصول الإيمان، فإن من لا يعتقد عظمته لا تذعن النفس لتعظيمه.

والثانية: حقارة النفس وخستها وكونها عبدًا مسخرًا مربوبًا، حتى يتولد من المعرفتين الاستكانة والانكسار والخشوع لله سبحانه فيعبر عنه بالتعظيم، وما لم تمتزج معرفة حقارة النفس بمعرفة جلال الله لا تنتظم حالة التعظيم والخشوع فإن المستغني عن غيره الآمن على نفسه يجوز أن يعرف من غيره صفات العظمة ولا يكون الخشوع والتعظيم حاله، لأن القرينة الأخرى وهي معرفة حقارة النفس وحاجتها لم تقترن إليه.



وأما الهيبة والخوف فحالة للنفس تتولد من المعرفة بقدرة الله وسطوته ونفوذ مشيئته فيه مع قلة المبالاة به، وأنه لو أهلك الأولين والآخرين لم ينقص ذلك من ملكه ذرة، هذا مع مطالعة ما يجري على الأنبياء والأولياء من المصائب وأنواع البلاء مع القدرة على الدفع على خلاف ما يشاهد من ملوك الأرض، وبالجملة كلما زاد العلم بالله زادت الخشية والهيبة.


وأما الرجاء فسببه معرفة لطف الله عز وجل وكرمه وعميم إنعامه ولطائف صنعه ومعرفة صدقه في وعده الجنة بالصلاة، فإذا حصل اليقينُ بوعده والمعرفةُ بلطفه انبعث من مجموعها الرجاء لا محالة.
وأما الحياء فباستشعاره التقصير في العبادة، وعلمه بالعجز عن القيام بعظيم حق الله عز وجل، ويقوىَ ذلك بالمعرفة بعيوب النفس وآفاتها وقلة إخلاصها وخبث دخيلتها وميلها إلى الحظ العاجل في جميع أفعالها، مع العلم بعظيم ما يقتضيه جلال الله عز وجل، والعلم بأنه مطلع على السر وخطرات القلب وإن دقت وخفيت، وهذه المعارف إذا حصلت يقينًا انبعث منها بالضرورة حالة تسمى الحياء، فهذه أسباب هذه الصفات وكل ما طُلب تحصيله فعلاجه إحضار سببه، ففي معرفة السبب معرفة العلاج، ورابطة جميع هذا الأسباب الإيمان واليقين، أعني به هذه المعارف التي ذكرناها، ومعنى كونها يقينًا انتفاءُ الشك واستيلاؤها على القلب، وبقدر اليقين يخشع القلب، وباختلاف المعاني التي ذكرناها في القلوب انقسم الناس إلى غافل يتمم صلاته ولم يحضر قلبه في لحظة منها، وإلى من يتمم ولم يغب قلبه في لحظة بل ربما كان مستوعب الهم بها بحيث لا يحس بما يجري بين يديه، ولذلك لم يحس مسلم بن يسار بسقوط الاسطوانة في المسجد وقد اجتمع الناس عليها، وبعضهم كان يحضر الجماعة مدة ولم يعرف قط من على يمينه ويساره، وجماعة كانت تصفر وجوههم وترتعد فرائصُهم.


وكل ذلك غير مستبعد فإن أضعافه مشاهد في همم أهل الدنيا وخوف ملوك الدنيا مع عجزهم وضعفهم وخساسة الحظوظ الحاصلة منهم حتى يدخل الواحد على ملك أو وزير ويحدثه بمهمته ثم يخرج، ولو سئل عمن حواليه أو ثوب الملك لكان لا يقدر على الإخبار عنه لاشتغال همه عن ثوبه وعن الحاضرين حواليه {ولكل درجات مما عملوا}، فحظ كل واحد من صلاته بقدر خوفه وخشوعه وتعظيمه فإن موقع نظر الله سبحانه القلوبُ دون ظاهر الحركات، ولذلك قال بعض الصحابة صلى الله عليه وسلم : يحشر الناس يوم القيامة على مثل هيئتهم في الصلاة من الطمأنينة والهدوء ومن وجود النعيم بها واللذة، ولقد صدق، فإنه يحشر كلٌ على ما مات عليه، ويموت على ما عاش عليه، ويراعى في ذلك حال قلبه لا حال شخصه، فمن صفات القلوب تصاغ الصور في الدار الآخرة ولا ينجو إلا من أتى الله بقلب سليم، نسأل الله حسن التوفيق بلطفه وكرمه.




***



توقيع أم البراء
معهد أم المؤمنين خديجة
رضي الله عنها ..
أنت أغلى ما أملك ..~
أم البراء غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 11-09-07, 11:36 PM   #2
أم البراء
~ وقــف لله ~
حفيدة خديجة رضي الله عنها
افتراضي

بيان الدواء النافع في حضور القلب

أعلم أن المؤمن لابد أن يكون معظمًا لله عز وجل وخائفًا منه وراجيًا له ومستحييًا من تقصيره، فلا ينفك عن هذه الأحوال بعد إيمانه، وإن كانت قوتها بقدر قوة يقينه، فانفكاكه عنها في الصلاة لا سبب له إلا تفرق الفكر وتقسيم الخاطر وغيبة القلب عن المناجاة والغفلة عن الصلاة.



ولا يلهي عن الصلاة إلا الخواطر الواردة الشاغلة، فالدواء في إحضار القلب هو دفع تلك الخواطر ولا يدفع الشيء إلا بدفع سببه فلتعلم سببه. وسبب موارد الخواطر إما أن يكون أمرًا خارجًا أو أمرًا في ذاته باطنًا، أما الخارج فما يقرع السمع أو يظهر للبصر، فإن ذلك قد يختطف الهم حتى يتبعه ويتصرف فيه ثم تنجر منه الفكرة إلى غيره ويتسلسل، ويكون الإبصار سببًا للافتكار، ثم تصير بعض تلك الأفكار سببًا للبعض الآخر.


ومن قويت نيته وعلت همته لم يلهه ما جرى على حواسه ولكن الضعيف لابد وأن يتفرّق به فكره، وعلاجه قطع هذه الأسباب بأن يغض بصره أو يصلي في بيت مظلم أو لا يترك بين يديه ما يشغل حسه وبقرب من حائط عند صلاته حتى لا تتسع مسافة بصره، ويحترز من الصلاة على الشوارع وفي المواضع المنقوشة المصنوعة وعلى الفرش المصبوغة، ولذلك كان المتعبدون يتعبدون في بيت صغير مظلم سعته قدر السجود ليكون ذلك أجمع للهمم.


والأقوياء منهم كانوا يحضرون المساجد ويغضون البصر ولا يجاوزون به موضع السجود ويرون كمال الصلاة في أن لا يعرفوا من على يمينهم وشمالهم، وكان ابن عمر رضي الله عنهما لا يدع في موضع الصلاة مصحفًا ولا سيفًا إلا نزعه ولا كتابًا إلا محاه.



وأما الأسباب الباطنة فهي أشد فإن من تشعبت به الهموم في أودية الدنيا لا ينحصر فكره في فن واحد بل لا يزال يطير من جانب إلى جانب، وغض البصر لا يغنيه، فإن ما وقع في القلب من قبلُ كافٍ للشغل، فهذا طريقه أن يرد النفس قهرًا إلى فهم ما يقرؤه في الصلاة ويشغلها به عن غيره، ويعينه على ذلك أن يستعد له قبل التحريم بأن يحدد على نفسه ذكر الآخرة وموقف المناجاة وخطر المقام بين يدي الله سبحانه وهو المطلع، ويفرغ قلبه قبل التحريم بالصلاة عما يهمه فلا يترك لنفسه شغلاً يلتفت إليه خاطره، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعثمان بن طلحة: "إني نسيت أن أقول لك أن تخمر القدْر الذي في البيت، فإنه لا ينبغي أن يكون في البيت شيء يشغل الناس عن صلاتهم" رواه أبو داود( )، فهذا طريق تسكين الأفكار. فإن كان لا يسكن هوائج أفكاره بهذا الدواء المسكن، فلا ينجيه إلا المسهل الذي يقمع مادة الداء من أعماق العروق، وهو أن ينظر في الأمور الصارفة الشاغلة عن إحضار القلب، ولاشك أنها تعود إلى مهماته، وأنها إنما صارت مهمات لشهواته، فيعاقب بها نفسه بالنزوع عن تلك الشهوات وقطع تلك العلائق، فلك ما يشغله عن صلاته فهو ضد دينه ومن جند إبليس عدوِّه، فإمساكه أضر عليه من إخراجه فيتخلص منه بإخراجه، كما روي أنه صلى الله عليه وسلم لما لبس الخميصة التي أتاه بها أبو جهم وعليها علَمٌ وصلى بها نزعها بعد صلاته، وقال صلى الله عليه وسلم : "اذهبوا بها إلى أبي جهم فإنها ألهتني عن صلاتي وائتوني بأنْبَجَانية أبي جهم" متفق عليه، وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بتجديد شراك نعله ثم نظر إليه في صلاته إذ كان جديدًا فأمر أن ينزع منها ويردَّ الشراك الخلق، أخرجه ابن المبارك في الزهد مرسلاً بإسناد صحيح.



فأما ما ذكرناه من التلطف بالتسكين والرد إلى فهم الذكر فذلك ينفع الشهوات الضعيفة والهمم التي لا تشغل إلا حواشي القلب.


فأما الشهوة القوية المرهقة فلا ينفع فيها التسكين بل لا تزال تجاذبها وتجاذبك ثم تغلبك وتنقضي صلاتك في شغل المجاذبة، ومثاله: رجل تحت شجرة أراد أن يصفو له فكره وكانت أصوات العصافير تهوش عليه، فلم يزل يطيرها بخشبة في يده ويعود إلى فكره فتعود العصافير فيعود إلى التنفير بالخشبة، فقيل له: إن أردت الخلاص فاقطع الشجرة، فكذلك شجرة الشهوات إذا تشعبت وتفرعت أغصانها انجذبت إليها الأفكار انجذاب العصافير إلى الأشجار وانجذاب الذباب إلى الأقذار، والشغل يطول في دفعها، فإن الذباب كلما ذُبّّ آب، ولأجله سمي ذبابًا، فكذلك الخواطر، وهذه الشهوات كثيرة وقلما يخلو العبد عنها ويجمعها أصل واحد وهو حب الدنيا، وذلك رأس كل خطيئة وأساس كل نقصان ومنبع كل فساد.


ومن انطوى باطنه على حب الدنيا حتى مال إلى شيء منها لا ليتزود ولا ليستعين بها على الآخرة فلا يطمعن في أن تصفو له لذة المناجاة في الصلاة، فإن من فرح بالدنيا لا يفرح بالله سبحانه وبمناجاته.


وهمة الرجل مع قرة عينه، فإن كانت قرة عينه في الدنيا انصرف لا محالة إليها همه، ولكن مع هذا فلا ينبغي أن يترك المجاهدة ورد القلب إلى الصلاة وتقليل الأسباب الشاغلة، فهذا هو الدواء ولمرارته استبشعته الطباع وبقيت العلة مزمنة وصار الداء عُضالاً، حتى إن الأكابر اجتهدوا أن يصلوا ركعتين لا يحدّثون أنفسهم فيها بأمور الدنيا فعجزوا عن ذلك، فإذن لا مطمع فيه لأمثالنا، وليته سلم لنا من الصلاة شطرها أو ثلثها من الوساوس لتكون ممن خلط عملاً صالحًا وآخر سيئًا.


وعلى الجملة فهمة الدنيا وهمة الآخرة في القلب مثل الماء الذي يصب في قدح مملوء بخلّ، فبقدر ما يدخل فيه الماء يخرج من الخل لا محالة ولا يجتمعان.
***
أم البراء غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 11-09-07, 11:36 PM   #3
أم البراء
~ وقــف لله ~
حفيدة خديجة رضي الله عنها
افتراضي

بيان تفصيل ما ينبغي أن يحضر في القلب عند
كل ركن وشرط من أعمال الصلاة

فنقول: حقك إن كنت المريدين للآخرة أن لا تغفل أولاً عن التنبيهات التي في شروط الصلاة وأركانها، أما الشروط السوابق فهي الآذان والطهارة وستر العورة واستقبال القبلة والانتصاب قائمًا والنية.


فإذا سمعت نداء المؤذن فاحضر في قلبك هول النداء يوم القيامة، وتشمّر بظاهرك وباطنك للإجابة والمسارعة، فإن المسارعين إلى هذا النداء هم الذين يُنادون باللطف يوم العرض الأكبر، فاعرض قلبك على هذا النداء فإن وجدته مملوءًا بالفرج والاستبشار مشحونًا بالرغبة إلى الابتدار فاعلم أنه يأتيك النداء بالبُشرى والفوز يوم القضاء، ولذلك قال : "أرحنا بها يا بلال"( ) أي أرحنا بها وبالنداء إليها إذ كان قرة عينه فيها صلى الله عليه وسلم .
وأما الطهارة فإذا أتيت بها في مكانك وهو ظرفُك الأبعد ثم في ثيابك وهي غلافُك الأقرب، ثم في بشرتك وهي قِشرُك الأدنى فلا تغفل عن لُبك الذي هو ذاتك وهو قلبك، فاجتهد له تطهيرًا بالتوبة والندم على ما فرّطت، وتصميم العزم على الترك في المستقبل، فطهّر بها باطنك فإنه موضع نظر معبودك.
وأما ستر العورة فاعلم أن معناه تغطية مقابح بدنك عن أبصار الخلق، فإن ظاهر بدنك موقع لنظر الخلق، فما بالك في عورات باطنك وفضائح سرائرك التي لا يطّلع عليها إلا ربك عز وجل! فأحضر تلك الفضائح ببالك وطالب نفسك بسترها، وتحقق أنه لا يستر عن عين الله سبحانه ساتر، وإنما يغفرها الندم والحياء والخوف، فتستفيد بإحضارها في قلبك انبعاث جنود الخوف والحياء من مكامنهما ويستكين تحت الخَجْلة قلبُك، وتقوم بين يدي الله عز وجل قيام العبد المجرم المسيء الآبق الذي ندم فرجع إلى مولاه ناكسًا رأسه من الحياء والخوف.



وأما استقبال القبلة فهو صرفُ ظاهر وجهك عن سائر الجهات إلى جهة بيت الله تعالى، افترى أن صرف القلب عن سائر الأمور إلى الله عز وجل ليس مطلوبًا منك؟ هيهات، فلا مطلوب سواه، وإنما هذه الظواهر تحريكات البواطن وضبط للجوارح وتسكين لها بالإثبات في جهة واحدة حتى لا تبغي على القلب، فإنها إذا بغت وظلمت في حركاتها والتفاتها إلى جهاتها استتبعت القلب وانقلبت به عن وجه الله عز وجل فليكن وجه قلبك مع وجه بدنك.


وأما الاعتدال قائمًا فإنما هو مثول بالشخص والقلب بين يدي الله عز وجل، فليكن رأسك الذي هو أرفع أعضائك مُطرقًا مُطأطِئًا مُنكسًا، وليكن وضع الرأس عن ارتفاعه تنبيهًا على إلزام القلب التواضع والتذلل والتبري عن الترؤّس والتكبر، وليكن على ذكرنا ههنا خطرُ القيام بين يدين الله عز وجل في هول المطلع عند العرض للسؤال واعلم في الحال أنك قائم بين يدي الله عز وجل وهو مطَّلعٌ عليك فقم بين يديه قيامك بين يدي بعض ملوك الزمان إن كنت تعجز عن معرفة قدره جل جلاله، قبل قدّر في دوام قيامك في صلاتك أنك ملحوظ ومرقوب بعين كالِئَة من رجل صالح من أهلك أو ممن ترغب في أن يعرفك بالصلاح، فإنه تهدأ عند ذلك أطرافك وتخشع جوارحك وتسكن جميع أجزائك خيفة أن ينسيك ذلك العاجز المسكين إلى قلة الخشوع، وإذا أحسست من نفسك خشوعًا عند ملاحظة عبد مسكين فعاتب نفسك وقل لها: إنك تدّعين معرفة الله وحبه أفلا تستحين من استجرائك عليه مع توقيرك عبدًا من عباده؟ أو تخشين الناس ولا تخشينه وهو أحق أن يُخشى؟ ولذلك لما قال أبو هريرة: كيف الحياء من الله؟ فقال : "تستحي منه كما تستحي من الرجل الصالح من قومك"( )، وروي: "من أهلك".



وأما النية فاعزم على إجابة الله عز وجل في امتثال أمره بالصلاة وإتمامها والكف عن نواقضها ومفسداتها وإخلاص جميع ذلك لوجه الله سبحانه رجاء لثوابه وخوفًا من عقابه وطلبًا للقربة منه، متقلدًا للمنة منه بإذنه إياك في المناجاة مع سوء أدبك وكثرة عصيانك، وعظم في نفسك قدر مناجاته وانظر من تناجي وكيف تناجي وبماذا تناجي؟ وعند هذا ينبغي أن يعرق جبينك من الخجل وترتعد فرائصك من الهيبة ويصفرّ وجهك من الخوف.


وأما التكبير فإذا نطق به لسانك فينبغي أن لا يكذبه قلبُك فإن كان في قلبك شيء هو أكبر من الله يشهد إنك لكاذب، وإن كان الكلام صدقًا كما شهد على المنافقين في قولهم: إنه صلى الله عليه وسلم رسول الله، فإن كان هواك أغلب عليك من أمر الله عز وجل فأنت أطوع له منك لله تعالى فقد اتخذته إلهك وكبرته فيوشك أن يكون قولك "الله أكبر" كلامًا باللسان المجرد، وقد تخلف القلب عن مساعدته، وما أعظم الخطر في ذلك لولا التوبة والاستغفار وحسن الظن بكرم الله تعالى وعفوه.


وأما دعاء الاستفتاح فأول كلماته قولك: "وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض" وليس المراد بالوجه الوجه الظاهر فإنك إنما وجهته إلى جهة القبلة والله سبحانه ليس هنالك، وإنما وجهُ القلب هو الذي تتوجه به إلى فاطر السموات والأرض، فانظر إليه أمتوجه هو إلى أمانيه وهمه في البيت والسوق، متبعٌ للشهوات، أو مقبلٌ على فاطر السموات؟ وإياك أن تكون أول مفاتحتك للمناجاة بالكذب والاختلاق.
ولن ينصرف الوجه إلى الله تعالى إلا بانصرافه عما سواه فاجتهد في الحال في صرفه إليه وإن عجزت عنه على الدوام فليكن قولك في الحال صادقًا، وإذا قلت: "حنيفًا مسلمًا" فينبغي أن يخطر ببالك أن المسلم هو الذي سلم المسلمون من لسانه ويده، فإن لم تكن كذلك كنت كاذبًا، فاجتهد في أن تعزم عليه في الاستقبال وتندم على ما سبق من الأحوال، وإذا قلت: "وما أنا من المشركين" فاخطر ببالك الشرك الخفي فإن قوله تعالى: {فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملاً صالحًا ولا يشرك بعبادة ربه أحدًا} نزل فيمن يقصد بعبادته وجه الله وحمد الناس، وكن حذرًا مشفقًا من هذا الشرك، واستشعر الخجلة في قلبك إن وصفت نفسك بأنك لست من المشركين من غير باءة عن هذا الشرك، فإن اسم الشرك يقع على القليل والكثير منه.


وإذا قلت: "محياي ومماتي لله" فاعلم أن هذا حال عبدٍ مفقودٍ لنفسه موجودٍ لسيده، وأنه إن صدر ممن رغبتُهُ في الحياة ورهبته من الموت لأمور الدنيا لم يكن ملائمًا للحال.. وإذا قلت: "أعوذ بالله من الشيطان الرجيم" فاعلم أنه عدوك ومترصد لصرف قلبك عن الله عز وجل حسدًا لك على مناجاتك مع الله عز وجل وسجودك له، مع أنه لُعن بسبب سجدة واحدة تركها ولم يوفق لها، وإن استعاذتك بالله سبحانه منه بترك ما يحبه وتبديله بما يحبه الله عز وجل ولا بمجرد قولك، فإن من قصد سبعُ أو عدو ليفترسه أو يقتله فقال: أعوذ منك بذلك الحصن الحصين وهو ثابت على مكانه، فإن ذلك لا ينفعه، بل لا يعيذه إلا تبديل المكان، فكذلك من يتبع الشهوات التي هي محاب الشيطان ومكاره الرحمن فلا يغنيه مجرد القول، فليقترن قوله بالعزم على التعوذ بحصن الله عز وجل عن شر الشيطان.


واعلم أن من مكايده أن يشغلك في صلاتك بذكر الآخرة وتدبير فعل الخيرات ليمنعك عن فهم ما تقرأ.


فاعلم أن لك ما يشغلك عن فهم معاني قراءتك فهو وسواس، فإن حركة اللسان غير مقصودة بل المقصود معانيها، فأما القراءة فالناس فيها ثلاثة: رجل يتحرك لسانه وقلبه غافل، ورجل يتحرك لسانه وقلبه يتبع اللسان فيفهم ويسمع منه كأنه يسمعه من غيره، وهي درجات أصحاب اليمين، ورجل سبق قلبه إلى المعاني أولاً ثم يخدم اللسان القلب فيترجمه.
ففرق بين أن يكون اللسان ترجمان القلب أو يكون معلم القلب، والمقربون لسانهم ترجمانٌ يتبع القلب ولا يتبعه القلب، وتفصيل ترجمة المعاني أنك إذا قلت: {بسم الله الرحمن الرحيم} فَانْوِ به التبرك لابتداء القراءة لكلام الله سبحانه، وافهم أن الأمور كلها بالله سبحانه، وأن المراد بالاسم ههنا هو المسمى، وإذا كانت الأمور بالله سبحانه فلا جرم كان {الحمد لله} ومعناه أن الشكر لله إذ النعم من الله، ومن يرى من غير الله نعمة أو يقصد غير الله سبحانه بشكر لا من حيث إنه مسخَّر من الله عز وجل ففي تسميته وتحميده نقصانٌ بقدر التفاته إلى غير الله تعالى، فإذا قلت: {الرحمن الرحيم} فأحضر في قلبك جميع أنواع لطفه لتتضح لك رحمته فينبعث بها رجاؤك، ثم استثرْ من قلبك التعظيم والخوف بقولك: {مالك يوم الدين} أما العظمة فلأنه لا ملك إلا له، وأما الخوف فلهول يوم الجزاء والحساب الذي هو مالكه ثم جدد الإخلاص بقولك: {إياك نعبد} وجدد العجز والاحتياج والتبري من الحول والقوة بقولك: {وإياك نستعين} وتحقق أنه ما تيسرت طاعتك إلا بإعانته وأن له المنة إذ وفقك لطاعته واستخدمك لعبادته وجعلك أهلاً لمناجاته، ولو حرمك التوفيق لكنت من المطرودين مع الشيطان اللعين، ثم إذا فرغت من التعوذ ومن قولك: {بسم الله الرحمن الرحيم} ومن التحميد ومن إظهار الحاجة إلى الإعانة مطلقًا فعين سؤالك ولا تطلب إلا أهم حاجاتك وقل: {اهدنا الصراط المستقيم} الذي يسوقنا إلى جوارك ويفضي بنا إلى مرضاتك وزده شرحًا وتفصيلاً وتأكيدًا واستشهادًا بالذين أفاض عليهم نعمة الهداية من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين دون الذين غضب عليهم من الكفار والزائغين من اليهود والنصارى والصابئين ثم التمس الإجابة وقل: {آمين} فإذا تلوت الفاتحة كذلك فيشبه أن تكون من الذين قال الله تعالى فيهم فيما أخبر عنه النبي صلى الله عليه وسلم: "قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين ولعبدي ما سأل فإذا قال العبد: الحمد لله رب العالمين، قال الله تعالى: حمدي عبدي، وإذا قال: الرحمن الرحيم، قال الله تعالى: أثنى علي عبدي، وإذا قال: مالك يوم الدين، قال: مجدني عبدي، وقال مرة: فوض إلي عبدي، فإذا قال: إياك نعبد وإياك نستعين، قال: هذا بيني وبين عبدي ولعبدي ما سأل، فإذا قال أهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين، قال هذا لعبدي ولعبدي ما سأل" رواه مسلم، فلو لم يكن لك من صلاتك حظ سوى ذكر الله لك في جلاله وعظمته فناهيك بذلك غنيمة، فكيف بما ترجوه من ثوابه وفضله؟ وكذلك ينبغي أن تفهم ما تقرؤه من السور- كما سيأتي الكلام على تلاوة القرآن- فلا تغفل عن أمره ونهيه ووعده ووعيده ومواعظه وأخبار أنبيائه وذكر مننه وإحسانه، ولكل واحد حق فالرجاء حق الوعد، والخوف حق الوعيد، والعزم حق الأمر والنهي، والاتعاظ حق الموعظة، والشكر حق ذكر المنة، والاعتبار حق إخبار الأنبياء.


ورُوي أن زُرارة بن أوفى لما انتهى إلى قوله تعالى: {فإذا نقر في الناقور} خر ميتًا( )، وكان إبراهيم النخعي إذا سمع قوله تعالى: {إذا السماء انشقت} اضطرب حتى تضطرب أوصاله، وتكون هذه المعاني بحسب درجات الفهم ويكون الفهم بحسب وفور العلم وصفاء القلب، ودرجات ذلك لا تنحصر، والصلاة مفتاح القلوب فيها تنكشف أسرار الكلمات، فهذا حق القراءة وهو حق الأذكار والتسبيحات أيضًا، ثم يراعي الهيبة في القراءة، فيرتل ولا يسرد فإن ذلك أيسر للتأمل، ويفرق بين نغماته في آية الرحمة والعذاب والوعد والوعيد والتحميد والتعظيم والتمجيد.


كان النخعي إذا مر بمثل قوله عز وجل: {ما انخذ الله من ولد وما كان معه من إله} يخفض صوته كالمستحي عن أن يذكره بكل شيء لا يليق به( ) وروي أنه يقال لقارئ القرآن: "إقرأ وارق ورتل كما كنت ترتل في الدنيا"( )، وأما دوام القيام فإنه تنبيه على إقامة القلب مع الله عز وجل على نعت واحد من الحضور قال صلى الله عليه وسلم : "إن الله عز وجل مقبل على المصلي ما لم يلتفت"، وكما تجب حراسة الرأس والعين عن الالتفات إلى الجهات فكذلك تجب حراسة السر عن الالتفات إلى غير الصلاة، فإذا التفت إلى غيره فذكّره باطلاع الله عليه وبقبح التهاون بالمناجي عند غفلة المناجي ليعود إليه، وألزِم لخشوع القلب، فإن الخلاص عن الالتفات باطنًا وظاهرًا ثمرة الخشوع.
وكان الصدِّيق رضي الله عنه في صلاته كأن وتدٌ، وابن الزبير رضي الله عنه كأنه عُودٌ، وبعضهم كان يسكن في ركوعه بحيث تقع العصافير عليه كأنه جماد، وكل ذلك يتقضيه الطبع بين يدي من يعظم من أبناء الدنيا فكيف لا يتقاضاه بين يدي ملك الملوك عند من يعرف ملك الملوك؟ وكل من يطمئن بين يدي غير الله عز وجل خاشعًا وتضطرب أطرافه بين يدي الله عابثًا فذلك لقصور معرفته عن جلال الله وعن اطلاعه على سره وضميره، وقال عكرمة في قوله عز وجل: {الذي يراك حين تقوم وتقلبك في الساجدين} قال: قيامه وركوعه وسجوده وجلوسه.


وأما الركوع والسجود فينبغي أن تجد عندهما ذكر كبرياء الله سبحانه وترفق يديك مستجيرًا بعفو الله عز وجل من عقابه بتجديد النية ومتبعًا سنة نبيه صلى الله عليه وسلم ، ثم تستأنف له ذلاً وتواضعًا بركوعك، وتجتهد في ترقيق قلبك وتجديد خشوعك وتستشعر ذلك وعزَّ مولاك واتضاعك وعُلُو ربك.

وتستعين على تقرير ذلك من قلبك بلسانك فتسبح ربك وتشهد له بالعظمة وأنه أعظم من كل عظيم وتكرر ذلك على قلبك لتؤكده بالتكرار، ثم ترتفع من ركوعك راجيًا أنه راحم لك ومؤكدًا للرجاء في نفسك بقولك: {سمع الله لمن حمده" أي أجاب لمن شكره، ثم تردف ذلك الشكر المتقاضي للمزيد فتقول: "ربنا لك الحمد" وتكثر الحمد بقولك: "ملء السموات وملء الأرض" ثم تهوي إلى السجود وهو أعلى درجات الاستكانة فتمكّن أعز أعضائك وهو الوجه من أذل الأشياء وهو التراب، وإن أمكنك أن لا تجعل بينهما حائلاً فتسجد على الأرض فافعل فإنه أجلب للخشوع وأدلُّ على الذل.


وإذا وضعت نفسك موضع الذل فاعلم أنك وضعتها ورددت الفرع إلى أصله فإنك من التراب خلقت، وغليه تعود، فعند هذا جدّد على قلبك عظمة الله وقل: "سبحان ربي الأعلى" وأكده بالتكرار فإن الكرّة الواحدة ضعيفة الأثر فإذا رق قلبك وظهر ذلك فلتصدّق رجاءك في رحمة الله فإن رحمته تتسارع إلى الضعف والذل لا إلى التكبر والبطر فارفع رأسك مكبرًا وسائلاً حاجتك وقائلاً: "رب اغفر لي اغفر لي" ثم أكد التواضع بالتكرار فعُد إلى السجود ثانيًا كذلك.


وأما التشهد فإذا جلست له فاجلس متأدبًا وصرح بأن جميع ما تدلي من الصلوات والطيبات أي من الأخلاق الطاهرة لله، وكذلك الملك لله وهو معنى "التحيات"( )، واحضر في قلبك النبي وشخصه الكريم وقل: "السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته" وليصدق أمَلُك في أنه يبلُغُه ويردُّ عليك ما هو أوفى منه، ثم تسلم على نفسك وعلى جميع عباد الله الصالحين، ثم تأملُ أن يرد الله سبحانه عليك سلامًا وافيًا بعدد عباده الصالحين، ثم تشهد له تعالى بالوحدانية ولمحمد نبيه بالرسالة مجددًا عهد الله سبحانه بإعادة كلمتي الشهادة ومستأنفًا للتحصن بها.


ثم ادعُ في آخر صلاتك بالدعاء المأثور مع التواضح والخشوع والضراعة والابتهال وصدق الرجاء بالإجابة وأشرك في دعائك أبويك وسائر المؤمنين.


واقصد عند التسليم السلامَ على الملائكة والحاضرين وانوِ ختم الصلاة به. واستشعر شكر الله سبحانه على توفيقه لإتمام هذه الطاعة، وتوهم أنك مودع لصلاتك هذه وأنك ربما لا تعيش لمثلها، ثم أشعر قلبك الوجل والحياء من التقصير في الصلاة، وخفْ أن لا تقبل صلاتك وأن تكون ممقوتًا بذنب ظاهر أو باطن فتردَّ صلاتك في وجهك، وترجو مع ذلك أن يقبلها بكرمه وفضله.


كان يحيى بن وثاب إذا صلى مكث ما شاء الله تُعرف عليه كآبة الصلاة، وكان إبراهيم يمكث بعد الصلاة ساعة كأنه مريض، فهذا تفصيل صلاة الخاشعين {الذين هم في صلاتهم خاشعون}… {والذين هم على صلواتهم يحافظون}… {والذين هم على صلاتهم دائمون} والذين يناجون الله على قدر استطاعتهم في العبودية فليعرض الإنسان نفسه على هذه الصلاة، فبالقدر الذي يُسِّر له منه ينبغي أن يفرح وعلى ما يفوته ينبغي أن يتحسر.


وأما صلاة الغافلين فهي مَخْطرة( ) إلا أن يتغمده الله برحمته، والرحمة واسعة والكرم فائض فنسأل الله أن يتغمدنا برحمته ويغمرنا بمغفرته إذ لا وسيلة لنا إلا الاعتراف بالعجز عن القيام بطاعته.


واعلم أن تخليص الصلاة عن الآفات وإخلاصها لوجه الله عز وجل وأداؤها بالشروط الباطنة التي ذكرناها من الخشوع والتعظيم والحياء سببٌ لحصول أنوارٍ في القلب تكون تلك الأنواع مفاتيح علوم المكاشفة،ف أولياء الله المكاشفون بملكوت السموات والأرض وأسرار الربوبية إنما يكاشفون في الصلاة لا سيما في السجود إذ يتقرب العبد من ربه عز وجل بالسجود، ولذلك قال تعالى: {واسجد واقترب} وإنما تكون مكاشفة كل مصل على قدر صفائه عن كدورات الدنيا، ويختلف ذلك بالقوة والضعف والقلة والكثرة والجلاء والخفاء حتى ينكشف لبعضهم الشيء بعينه وينكشف لبعضهم الشيء بمثاله، كما كشف لبعضهم الدنيا في صورة جيفة والشيطان في صورة كلب جاثم عليها يدعو إليها.

ويختلف أيضًا بما في المكاشفة فبعضهم ينكشف له من صفات الله تعالى وجلاله ولبعضهم من أفعاله ولبعضهم من دقائق علوم المعاملة.

ويكون لتعيين تلك المعاني في كل وقت أسباب خفية لا تحصى، وأشدّها مناسبة الهمة، فإذا كانت مصروفة إلى شيء معين كان ذلك أولى بالانكشاف، ولما كانت هذه الأمور لا تتراءى إلا في المرائي الصقيلة وكانت المرأة كلها صدئة فاحتجت عنها الهداية لا ليخل من جهة المنعم بالهداية بل لِخَبَث متراكم الصدأ على مصبَ الهداية، تسارعت الألسنة إلى إنكار مثل ذلك، غذ الطبع محبول على إنكار غير الحاضر، ولو كان لجنين عقل لأنكر إمكان وجود الإنسان في متسع الهواء، ولو كان للطفل تمييزٌ ما ربما أنكر ما يزعم العقلاء إدراكه من ملكوت السموات والأرض، وهكذا الإنسان في كل طور يكاد ينكر ما بعده، والمقصود أن كل ذلك لا يحصل إلا بالخشوع في الصلاة ولذلك قال الله عز وجل: {قد أفلح المؤمنون الذين هم في صلاتهم خاشعون} فمدحهم بعد الإيمان بصلاة مخصوصة هي المقرونة بالخشوع، ثم ختم أوصاف المفلحين بالصلاة أيضًا فقال تعالى: {والذين هم على صلواتهم يحافظون} ثم قال تعالى في ثمرة تلك الصفات: {أولئك هم الوارثون الذين يرثون الفردوس هم فيها خالدون} فوصفهم بالفلاح أولاً وبوراثة الفردوس آخرًا، وأما هذرمة اللسان مع غفلة القلب فلا تنتهي إلى هذا الجزاء، ولذلك قال الله عز وجل في أضدادهم: {ما سلككم في صقر قالوا لم نك من المصلين} فالمصلون هم ورثة الفردوس وهم المشاهدون لنور الله تعالى والمتمتعون بقربه ودنوه.


نسأل الله أن يجعلنا منهم وأن يعيذنا من عقوبة من تزينت أقواله وقبحت أفعاله إنه الكريم المنان القديم الإحسان وصلى الله على كل عبد مصطفى( ).
***
أم البراء غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
إضافة رد

مواقع النشر (المفضلة)


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

(View-All Members who have read this thread in the last 30 days : 0
There are no names to display.

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع

المواضيع المتشابهه
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
أيهما أولى حفظ القرآن أو طلب العلم الشرعي مسلمة لله روضة آداب طلب العلم 31 02-08-16 12:15 PM
أفلا يتدبرون القرآن؟! /للشيخ عبدالسلام الحصين أم خــالد روضة القرآن وعلومه 15 14-02-10 02:56 AM
نزول القرآن الكريم وتاريخه وما يتعلق به طـريق الشـروق روضة القرآن وعلومه 8 22-12-07 03:50 PM


الساعة الآن 04:40 AM.


Powered by vBulletin® Version 3.8.11
Copyright ©2000 - 2025,Jelsoft Enterprises Ltd.
هذه المنتديات لا تتبع أي جماعة ولا حزب ولا تنظيم ولا جمعية ولا تمثل أحدا
هي لكل مسلم محب لدينه وأمته وهي على مذهب أهل السنة والجماعة ولن نقبل اي موضوع يثير الفتنة أو يخالف الشريعة
وكل رأي فيها يعبر عن وجهة نظر صاحبه فقط دون تحمل إدارة المنتدى أي مسؤلية تجاه مشاركات الأعضاء ،
غير أنَّا نسعى جاهدين إلى تصفية المنشور وجعله منضبطا بميزان الشرع المطهر .