الأربعاء 9 شوال 1445هـ الموافق 19 أبريل 2024م

حياكم الله جميعا 

هذه قناتي في التليجرام ينشر فيها النتاج العلمي والفكري . 


قناة عبد السلام بن إبراهيم الحصين

تعدد أقوال العلماء أوقعني في حيرة

الفتوى

Separator
تعدد أقوال العلماء أوقعني في حيرة
1341 زائر
31-10-2017 04:05
السؤال كامل
اختلاف أهل العلم أوقعني في الحيرة... كيف يمكن أن أكون مؤمنة بقول مذهب معين واعمل به ، ولا يجعل ذلك سبب في انتقاص أو تقليل من المذاهب الأخرى(أو العكس). بل كيف أجمع بين إيماني بصحة ماهو عندي مع صحة ماعند الاخر،مثل النقاب أو وجوب الوضوء من لحم الإبل ،أو نكاح المرأة نفسهاأو وجوب الوضوء عند لمس المرأة للشافعية؟؟ وكيف لا يجعل ذلك يوصلني لمرحلة الحيره بما عندي من قول أعمل به ، ومنها عندما يقال أنا أرى بالقول الأول والأحوط هو القول الثاني،فبهذه الصيغة أصل إلى مرحلة الحيره أي قول آخذ به ؟ وعند العلم بالاختلاف بين العلماء فكيف نستطيع إخبار العامة الذين تعلموا حكماً معين،وسمعوا بخلافه فوصل لمرحلة الشك بالحكم أو بالعلماء ؟
جواب السؤال

الجواب:

هذا السؤال مشتمل على عدد من الأسئلة، ولعلي أبدأ بمقدمة، ثم أجيب عن كل واحد على حدة، فأقوال:

المعلومات والحقائق التي نعتقدها ونؤمن بها، على نوعين:

الأول: نوع عليه دلائل قطعية لا تقبل التشكيك، بالنظر إليها في ذاتها من حيث دليلها، وبالنظر إلى الدين الذي لا يقبل إلا باعتقادها على هذا الوجه.

وأعني بقولي بالنظر إلى الدين.. أي أن الدين الذي ندين به لا يمكن أن يكون الواحد منا مؤمنا به وهو يشكك في هذه المعلومات القطعية، فمن ذلك: ثبوت وجود الله، وأنه وحده دون سواه هو الخالق، والإيمان بأسمائه وصفاته، وبالملائكة، وبالكتب، والرسل، والقدر، ووجوب الصلاة، والزكاة، والحج، والصيام، وأن القرآن ثابت من عند الله.

وهذه الأحكام الثابتة يقينا كثيرة جدا، ودلائلها واضحة ظاهرة.

النوع الثاني: معلومات ومسائل ليس عليها دلائل قطعية يقينية لا يقبل الجدل فيها، والقطعية والظنية فيها بالنسبة، بمعنى أن منها مسائل يعتقد البعض قطعيتها، والآخر ليس كذلك، وبعضها ظنية عند الطرفين.

وهذه المسائل توجد في كل علم، وتوجد في كل دين، وفي كل مجتمع، وفي كل عمل.

فمثلا في التجارة: هناك أشياء كثيرة ظنية، تبنى على غلبة الظن.

وفي العلوم الأخرى ستجد أن هناك أشياء قطعية لا تقبل الجدل ولا النقاش؛ لظهور الأدلة عليها، وهناك أشياء ظنية يتفاوت النظر فيها، فمثلا أدوية الكحة، بعض المدارس الطبية تؤمن بجدواها، ويصدق ذلك الواقع، ومدارس أخرى ترى أنه لا فائدة منها، وأن الكحة يمكن أن تزول بأشياء طبيعية.

وهكذا في سائر العلوم.

وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن الحلال بين والحرام بين، وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس، وأن من اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام؛ كالراعي يرعى حول الحمى..

فتأمل قوله: ((كالراعي يرى حول الحمى..))، يعني أن هذه المشتبهات مترددة بين التحريم والإباحة، وأن الوقوع فيها قد يجر إلى الوقوع في الحرام، ولكن ليس الوقوع فيها كالوقوع في الحرام الصريح.

بل حتى في الذنوب والمعاصي، قسمها الله إلى قسمين، قسم لا يغفر أبدًا إذا لقي الله، وهو الشرك، وقسم يمكن أن يغفر بحسب المشيئة، وقال عليه الصلاة والسلام: ((اجتنبوا السبع الموبقات....))، فما عداها أهون منها، وبعض الشر أهون من بعض.

وهكذا في الواجبات، بعضها أوجب من بعض، وأظهر في دلائل الوجوب.

وكلام الله فيه محكم ومتشابه، فالمحكم واضح بين لا يلتبس على أحد، إلا من أعمى الله بصيرته، والمتشابهات يخفى علمها على غير العلماء الراسخين، بل بعض العلماء يرى خفاء علمها على الجميع، ولا يعلمها إلا الله.

والمقصود بعدم علمها يعني حقيقة كيفية، وما تؤول إليه، وتحديد معناها بالضبط، مع أن كل ما في القرآن قد تكلم على أهل العلم على بيان معناه، ولكن منه ما اتفقوا على معرفة معناه، ومنه ما وقع فيه بينهم خلاف، بسبب اختلافهم في درجة العلم، وبسبب تفاوت الألفاظ في الدلالة على المراد، مع أنه كله بين لا لبس فيه، ولكن منه ما يخفى علم حقيقته على المسلم، فيكل علمه إلى الله، ولهذا لما قرأ أمير المؤمنين عمر بن الخطاب قوله تعالى: {وفاكهة وأبًا} جلس يتفكر في حقيقة الأب ما هو، ثم قال: "يا ابن أم عمر إن هذا لهو التكلف وما عليك أن لا تدري ما الأب"، وخفي عليه معنى الكلالة، وهي مذكورة في كتاب الله في موضعين، واجتهد أبو بكر فيها، فقال: "أقول فيها برأيي، فإن يكن صوابًا فمن الله، وإن يكن خطأ فمني ومن الشيطان..".

وهكذا تتنوع دلالات الألفاظ في الدلالة على المعاني، وتتفاوت الأحكام بناء على ذلك في ثبوتها، وقوتها، ووجوب العمل بها.

وقد عذر النبي صلى الله عليه وآله وسلم أصحابه في تفاوت الفهم في دلالة اللفظ، إذا كان محتملا، ففي صحيح البخاري عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم يوم الأحزاب: ((لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة))، فأدرك بعضهم العصر في الطريق، فقال بعضهم: لا نصلي حتى نأتيها، وقال بعضهم: بل نصلي، لم يرد منا ذلك، فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فلم يعنف واحدا منهم.

إذا تقرر هذا، فنعود إلى جواب الأسئلة:

فقولك: كيف يمكن أن أكون مؤمنة بقول مذهب معين واعمل به ، ولا يجعل ذلك سبب في انتقاص أو تقليل من المذاهب الأخرى (أو العكس)

إن كان المقصود بالمذهب هنا الدين ككل؛ فلا شك أن الإيمان بدين، يعني أن ما عداه ناقص، وأنه لا يوصل إلى المقصود من النجاة في الأخرى، والسلامة من العذاب، فاعتقادنا بصحة ديننا تستلزم أن ما عداه ناقص، ولا يوصل إلى المطلوب.

وإن كان المقصود بالمذهب هو ما اصطلح عليه المتأخرون من اتباع مذهب من مذاهب الأئمة الأربعة، أبي حنيفة، ومالك، والشافعي، وأحمد؛ فإن هذا من مسائل الخلاف السائغ، الذي لا يلزم من اعتقاد صحة أحدها انتقاص ما عداها، وإنما كل واحد يعتقد صحة قوله، مع احتمال وقوع الخطأ، ويعتقد بطلان مذهب غيره، مع احتمال كونه أصوب، ولكن هذا منتهى ما وصل إليه علمه، وقد كان الأئمة يختلفون، ويأخذ كل واحد بقول، ولا يرون في ذلك انتقاصًا لغيرهم، بل خالف علي ابن أبي طالب، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن عباس، وغيرهم من الصحابة قول أبي بكر، وعمر، وعثمان، في النهي عن متعة الحج، وكان أبوبكر وعمر وعثمان ينهون عنها، وكان أولئك يأمرون بها، ويرون مشروعيتها، وما ظن أحد منهم بالآخر شرًا، ولا رأى به نقصًا، بل يعتقد أنه مجتهد قد أخطأ، وكل يؤخذ من قوله ويرد.

وأما قولك: بل كيف أجمع بين إيماني بصحة ماهو عندي مع صحة ماعند الاخر،مثل النقاب أو وجوب الوضوء من لحم الإبل ،أو نكاح المرأة نفسهاأو وجوب الوضوء عند لمس المرأة للشافعية؟؟ وكيف لا يجعل ذلك يوصلني لمرحلة الحيره بما عندي من قول أعمل به ،

فإنه لا يلزمك الإيمان بصحة ما عند الآخر، ولكن تؤمن بأن ما أنت عليه صحيح، وأن ما عليه الآخر خطأ، ولكنه خطأ قد غفر له بسبب اجتهاده، ولأنه قد قال ما قال بدليل، إلا أنك تعتقد أنه أخطأ في فهم الدليل، أو فاته دليل أقوى منه، أو أن ما قله منسوخ، ولكن لم يظهر دليل النسخ له بوضوح، وهكذا من الأسباب التي ذكرها أهل العلم في اختلاف العلماء.

فإذا فهم هذا زالت الحيرة، وعذر كل واحد الآخر بما فيما عمل، بناء على ما انتهى إليه علمه، ولهذا اتفق العلماء على صحة صلاة المختلفين في الفروع، بل وحتى المختلفين في الأصول، إذا لم يصل إلى حد الكفر البين الصريح، ولهذا صلى أهل العلم خلف المعتزلة والجهمية والخوارج؛ نظرًا إلى هذا المعنى.

وأما قولك: ومنها عندما يقال أنا أرى بالقول الأول، والأحوط هو القول الثاني، فبهذه الصيغة أصل إلى مرحلة الحيره أي قول آخذ به ؟

كيف يمكن أن تقع الحيرة في هذا، وهو عين السلامة والبعد عن المشتبهات، فإذا قلنا إن تغطية الوجه فيها خلاف، فمنهم يرى الاستحباب ومنهم من يرى الوجوب؛ فلا شك أن الاحتياط هو في تغطية الوجه؛ لأن المتردد بين الوجوب والاستحباب الاحتياط فيه بفعله، والمتردد بين التحريم والكراهة والإباحة الاحتياط فيه بتركه، وهذا شيء متفق عليه بين أهل العلم.

فمثلا لو أن شافعيًا أكل لحم جزور فتوضأ احتياطا لكان محسنا

ولو أن حنبليا مس امرأة، فتوضأ احتياطا لكان محسنا، ولا يقل بذمه في هذه الحالة.

ولو أن حنبليا أو شافعيا أو مالكيا حافظ على الوتر، مخافة أن تكون واجبة فيأثم بتركها لكان محسنا بهذا الفعل؛ لأن الحنفية يرون الوجوب.

وأما المتردد بين الوجوب والتحريم، وبين الاستحباب والكراهة، فهذا هو الذي يصار فيه إلى الترجيح.

وأما قولك: وعند العلم بالاختلاف بين العلماء فكيف نستطيع إخبار العامة الذين تعلموا حكماً معين، وسمعوا بخلافه فوصل لمرحلة الشك بالحكم أو بالعلماء؟

فالعامي مذهبه مذهب من يفتيه، وإذا سأل عالما عن مسألة فأفتاه بما يعتقده وجب عليه اتباعه، ثم إذا سمع غيره يقول بخلاف قوله؛ فهنا من أهل العلم من يلزمه بأن يجتهد في اتباع أعلمهما، أو أورعهما وأتقاهما، ومنهم من يلزمه بأخذ الأشد، ومنهم من يلزمه بأخذ الأخف، ومنهم من يخيره بين أقوالهم.

والصحيح أنه يلزمه الاجتهاد في أعيان المفتين، فمن ظهر له أنه أعلم وأتقى وجب عليه اتباعه.

ويجب تعليمه أن هذا من الاختلاف السائغ، وأن كل عالم يجتهد بحسب ما يظهر له من كلام الله وسنة النبي صلى الله عليه وآله وسلم.

ولا شك أن بعضهم قد يصيبه حيرة، واضطراب وشك، ولكن هذا من نقص عقله، وضعف يقينه، وإلا فليس يوجد ما يوجب ذلك حين نعلم أن هذا الاختلاف سببه تفاوت الفهم، وتفاوت دلالة النصوص، وتفاوت قدرات أهل العلم في إلحاق غير المنصوص بالمنصوص.

ولنضرب على ذلك مثالا، وهو النمص:

فهذا فيه حديث ثابت عن النبي صلى الله عليه في لعن النامصة والمتنمصة.

واختلف أهل العلم في تفسير النمص، وفي محله من الوجه، وهل هو مختص بالحواجب، أو يدخل فيه بقية الوجه.

ثم ظهر في زماننا هذا التشقير، وهو في الظاهر يشبه النمص، ولكنه ليس بنتف، فمن لاحظ الشبه في الصورة أفتى بالتحريم، ومن لاحظ الفرق في الحقيقة أفتى بالجواز، والاحتياط هنا هو الترك، أو القول بالكراهة فقط.

ومثله الوصل، فقد ثبت النهي عن وصل شعر الرأس، ثم ظهر في زماننا هذا الرموش الصناعية، فيتردد نظر العالم في إلحاقها بالوصل المحرم، أو بالزنية المباحة.

وهكذا في مسائل أخرى، والله أعلم.
جواب السؤال صوتي
   طباعة 

جديد الفتاوى

Separator