غزوة تبوك فوائد ومواعظ 2/5
حين أعلن النبي صلى الله عليه وسلم النفير العام للخروج إلى بلاد الروم، ورغَّبهم في الجهاد في سبيل الله، تنوعت صور البذل والعطاء من أصحاب رسول الله، وظهرت معادن المسلمين النفيسة، وبرزت شجاعة قلوبهم، وعظيم محبتهم لربهم وخالقهم، ولرسولهم وإمامهم، وقد ذكرنا كيف أن تجارهم قد جادوا بأموال عظيمة، حتى الفقراء منهم بذلوا ما يستطيعون، ولكن لم يكن ذلك مقصورًا على المال فقط، بل كانوا يجودون بأبدانهم، ويُظهرون الرغبة الشديدة في الخروج مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ويأتون إليه يسألونه أن يحملهم معه، فإذا لم يجد ما يحملهم عليه ذهبوا يبكون، حزنًا على عدم مرافقته، والجهاد بين يديه، في صحيح البخاري عن أبي موسى عبد الله بن قيس الأشعري قال: أرسلني أصحابي إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أسأله الْحُملان لهم؛ إذ هم معه في جيش العسرة، وهي غزوة تبوك، فقلت: يا نبي الله! إن أصحابي أرسلوني إليك لتحملهم، فقال: ((والله لا أحملكم على شيء))، ووافقته وهو غضبانُ ولا أشعر، ورجعت حزينًا من منع النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ومن مخافة أن يكون النبي صلى الله عليه وآله وسلم وجد في نفسه علي، فرجعت إلى أصحابي، فأخبرتهم الذي قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فلم ألبث إلا سويعة إذ سمعت بلالا ينادي: أي عبد الله بن قيس! فأجبته، فقال: أجب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يدعوك، فلما أتيته قال: ((خذ هذين القرينين، وهذين القرينين)) لستة أبعرة ابتاعَهُنَّ حينئذٍ من سعد، ((فانطلِق بهن إلى أصحابك، فقل: إن الله، أو قال: إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يحملكم على هؤلاء فاركبوهن))، فانطلقت إليهم بهن فقلت: إن النبي صلى الله عليه وسلم يحملكم على هؤلاء.
وبقي في الصحابة أناس فقراء، ليس عندهم ما يجاهدون به، ولم يجد ما يحملهم عليه؛ لقلة المال والظهر، فلم يستطيعوا الخروج معه، فعذرهم الله وخلد ذكرهم، وذكر لهم هذا الموقف في كتاب يتلى إلى يوم القيامة، فقال تعالى: {ليس على الضعفاء ولا على المرضى ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون حرج إذا نصحوا لله ورسوله ما على المحسنين من سبيل والله غفور رحيم، ولا على الذين إذا أتوك لتحملهم قلت لا أجد ما أحملكم عليه تولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزنا ألا يجدوا ما ينفقون}، إنه الإيمان في قلوبهم، والرغبة الصادقة في نصرة دين الله، وصحبة رسول الله، ونيل شرف الجهاد بين يديه.
ولصدق نيتهم وشدة حرصهم أثابهم الله تبارك وتعالى على ذلك، وأعطاهم من الأجر والثواب مثل ما أعطى من خرج مع رسوله، في الصحيحين من حديث جابر بن عبد الله وأنس بن مالك أن نبينا صلى الله عليه وآله وسلم قال وهو في تبوك: ((إن بالمدينة أقوامًا، أو رجالا ما قطعتم واديًا، ولا سرتم مسيرًا إلا وهم معكم))، فقال الصحابة: وهم بالمدينة؟ فقال: ((نعم، حبسهم العذر)).
إن الذي يبذل جهده، ويفعل ما يستطيع فعله، ثم يعجز عن القيام بما أمره الله به؛ فإن الله يعذره، ويجازيه على نيته وما بذل من جهده جزاءَ العاملِ الكامل، وهذا من رحمة الله بعباده، ورأفته بهم، ومحبته الخير لهم، فلم يجعل على المحسن من سبيل، ولكن السبيل على الذي كانت لديه القوة في بدنه، والقدرة في ماله، ثم تخلف عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وتقاعس عن نصرة دينه، وغرته الحياة الدنيا وركن إليها، ورضي بأن يجلس مع المخلَّفين من النساء والصبيان والعجزة، وفرح بمقعده ذلك، وكره أن يخرج في الحر، وتثاقل إلى الأرض، ففي هؤلاء نزل العتاب والوعيد، والفضح لهم إلى يوم القيامة، يقول الله تبارك وتعالى: {إنما السبيل على الذين يستأذنونك وهم أغنياء رضوا بأن يكونوا مع الخوالف وطبع الله على قلوبهم فهم لا يعلمون}.
هؤلاء يختلقون لأنفسهم المعاذير، ويحلفون وهم كاذبون؛ هربًا من الجهاد في سبيل الله، وبعدًا عن مواطن البذل والفداء، وهذا موقف لأحدهم مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو يعرض عليه الخروج معه، فعن جابر بن عبد الله قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول للجد بن قيس: ((يا جد! هل لك في جلاد بني الأصفر؟))، فقال: أتأذن لي يا رسول الله؟! فإني رجل أحب النساء، وإني أخشى إن أنا رأيت نساء بني الأصفر أن أفتتن!، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو معرض عنه: ((قد أذنت لك))، ونزل فيه قول الله تعالى: {ومنهم من يقول ائذن لي ولا تفتني إلا في الفتنة سقطوا}، فهذا المنافق يزعم أنه يهرب من فتنة النساء، وهو قد وقع في فتنة أعظم منها، وهي تخلفه عن الخروج مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم، والرغبة بنفسه عن نفسه.
وكم ترى من المنافقين في مجتمعنا اليوم، يزعم أنه يدفع عن المجتمع الفتنة، وهو يوقد نيرانها، ويزعم أنه يحمي المرأة، وهو يقودها إلى التبرج والسفور والتحلل، ويزعمون أنهم من أتباع محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وهم من أبعد الناس عن هديه وشرعه، ومن المحرضين على هدم سنته، ونقض شريعته، وليحلفُنَّ إن أردنا إلا الحسنى، والله يشهد إنهم لكاذبون.
لقد كان نبينا صلى الله عليه وآله وسلم وهو في المدينة يواجه فتنة كبيرة من قبل المنافقين، كانوا يسعون إلى تحريض الناس على عدم الخروج، وأنهم لو خرجوا فيسموتون بلا فائدة، أو يخسرون أموالهم، أو تصيبهم جراحات عظيمة، وكانوا يجتمعون في بيت أحد اليهود، ويتآمرون على تثبيط الناس عن الخروج مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فكشف الله أمرهم وهتك سترهم، وأبان للناس مكرهم، وفضحهم إلى يوم القيامة، فقال تعالى: {لو كان عرضًا قريبا وسفرًا قاصدًا لاتبعوك ولكن بعدت عليهم الشقة وسيحلفون بالله لو استطعنا لخرجنا معكم يهلكون أنفسهم والله يعلم إنهم لكاذبون، عفا الله عنك لم أذنت لهم حتى يتبين لك الذي صدقوا وتعلم الكاذبين، لا يستأذنك الذين يؤمنون بالله واليوم الآخر أن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم والله عليم بالمتقين، إنما يستأذنك الذين لا يؤمنون بالله واليوم الآخر وارتابت قلوبهم فهم في ريبهم يترددون، ولو أرادوا الخروج لأعدوا له عدة ولكن كره الله انبعاثهم فثبطهم وقيل اقعدوا مع القاعدين، لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالا ولأوضعوا خلالكم يبغونكم الفتنة وفيكم سماعون لهم والله عليم بالظالمين، لقد ابتغوا الفتنة من قبل وقلبوا لك الأمور حتى جاء الحق وظهر أمر الله وهم كارهون، ومنهم من يقول ائذن لي ولا تفتني ألا في الفتنة سقطوا وإن جهنم لمحيطة بالكافرين، إن تصبك حسنة تسؤهم وإن تصبك مصيبة يقولوا قد أخذنا أمرنا من قبل ويتولوا هم فرحون، قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا هو مولانا وعلى الله فليتوكل المؤمنون، قل هل تربصون بنا إلا إحدى الحسنيين ونحن نتربص بكم أن يصيبكم الله بعذاب من عنده أو بأيدينا فتربصوا إنا معكم متربصون}، وقال تعالى: {فرح المخلفون بمقعدهم خلاف رسول الله وكرهوا أن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله وقالوا لا تنفروا في الحر قل نار جهنم أشد حرًا قل نار جهنم أشد حرًا لو كانوا يفقهون، فليضحكوا قليلا وليبكوا كثيرًا جزاء بما يكسبون}، ولقد كان من رحمة الله بالمؤمنين أن ثبط هؤلاء المنافقين عن الخروج، فقعدوا خلاف رسول الله، ولو أنهم خرجوا لأفسدوا على المؤمنين أمرهم، ولخذّلوهم عن القتال، ولمشوا بينهم بالنميمة والبغضاء والفتنة، وفي المؤمنين من يسمع لهؤلاء المنافقين، ويثق بهم؛ جهلا بحالهم، واستحسانًا لكلامهم، كما يقع اليوم من انخداع بعض الناس بكلام بعض المنافقين، الذين يرفعون لواء الإصلاح، وهم لا يريدون إلا الإفساد، ولا تجدهم يتحدثون عن مشاكل الناس الصحية، ولا عن حاجاتهم اليومية، ولا عن مشاكلهم الأخلاقية، ولا عن الفساد الإداري، وإنما جل حديثهم عن المرأة وإخراجها إلى ميدان العمل بأي وسيلة وعلى أي طريقة، فنسأل الله أن يكفي المؤمنين شرهم، وأن يحفظ البلاد من مكرهم.